كان انخفاض قيمة الدولار أمام الليرة السورية مسألة غامضة، فمن الطبيعي عند حدوث أي تحول السياسي أن ترتفع قيمة العملة المحلية نتيجة الإجراءات الاقتصادية الجديدة، ولكن في سوريا ترافق الأمر مع ندرة العملية المحلية المتداولة، إضافة لإيقاف الرواتب والنية بتسريح عدد كبير من الموظفين.
ارتفاع قيمة الليرة أمام الدولار أرخت بظلال من الشك حول الكتلة النقدية السورية، ورسمت ملامح غامضة لاستراتيجية المصرف المركزي، فسوريا عانت من أزمة نقدية مزمنة تفاقمت منذ عام 2020 نتيجة لانهيار قيمة الليرة السورية مقابل الدولار، ما أدى إلى تراجع القيمة الاسمية للأوراق النقدية المتداولة وارتفاع تكلفة طباعتها، وفي ظل عدم توفر حلول فعالة من قبل المصرف المركزي، بات الاقتصاد السوري أمام خيارين أحلاهما مر: التوسع في طباعة الأوراق النقدية الصغيرة أو إصدار فئات نقدية أكبر.
انهيار قيمة الليرة السورية
خلال العقد الماضي، شهدت الليرة السورية تراجعًا غير مسبوق في قيمتها. ففي عام 2010، كانت فئة الألف ليرة تساوي حوالي 22 دولارًا، بينما في 2021، كانت أكبر ورقة نقدية متداولة، وهي فئة 5,000 ليرة، تعادل 1.72 دولار فقط، ومع تجاوز سعر الدولار حاجز 15,000 ليرة في عام 2024، أصبحت الحاجة ملحة لإصدار أوراق نقدية ذات فئات أكبر، ويوضح الرسم البياني التالي تدهور قسمة الليرة السورية قبل سقوط النظام السياسي
تكلفة طباعة الأوراق النقدية ومحدودية الطباعة
تكلفة طباعة الأوراق النقدية تعد عاملاً حاسماً في إدارة السياسة النقدية، فعالميا، تتراوح تكلفة طباعة الورقة النقدية بين 4 و10 سنتات أميركية، ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تبلغ تكلفة طباعة ورقة 1 دولار حوالي 3.2 سنت، بينما تصل تكلفة طباعة ورقة 100 دولار إلى 9.4 سنت، أما في سوريا فلا تتوافر بيانات دقيقة عن تكلفة الطباعة، لكن بالنظر إلى الحجم المحدود للطباعة، فإن التكلفة تصل إلى 10 سنتات لكل ورقة نقدية، وفي ظل الانخفاض الحاد لقيمة الليرة، باتت بعض الفئات النقدية، مثل 100 و200 ليرة، تكلف أكثر من قيمتها الاسمية، ما يجعلها ورقة نقدية “خاسرة”. ويوضح الرسم البياني التالي تكلفة طباعة الأوراق النقدية مقارنة بقيمتها الاسمية
لجأ المصرف المركزي السوري إلى زيادة حجم الطباعة من فئة 5,000 ليرة بدلا من إصدار فئات نقدية أكبر، وخلال الفترة بين 2019 و2021، كانت الأوراق النقدية المطبوعة تحمل أرقام سلاسل تبدأ بالحرفين A وB، لكن في 2023 و2024، توسعت الطباعة لتشمل جميع السلاسل الممكنة، وهو ما يشير إلى محاولة الحكومة استيعاب التضخم المالي بدون إحداث صدمة نفسية عبر طرح فئات نقدية أكبر، ويواجه اليوم مع السلطة السياسية الجديدة جملة من التحديات:
- ندرة الأوراق النقدية وارتفاع التضخم فعدم توفر أوراق نقدية بكميات كافية، أدى لارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل حاد، مما زاد من معاناة المواطنين وأثر سلبا على القوة الشرائية، وذلك رغم انخفاض قيمة الدولار مقابل الليرة.
- إعادة تداول الأوراق النقدية القديمة، فمع استنفاد السلاسل الممكنة لطباعة فئة 5,000 ليرة، لجأت الحكومة إلى إعادة إصدار أوراق نقدية قديمة من فئتي 100 و200 ليرة، رغم أن هذه الأوراق غير مجدية اقتصاديا نظرًا لتجاوز تكلفة طباعتها قيمتها الاسمية.
- رفض المصرف المركزي شراء الدولار من المواطنين ما دفع ذلك الأفراد إلى بيع الدولار للصرافين في السوق السوداء، ما زاد من المضاربة وأدى إلى ارتفاع وهمي في سعر الصرف.
وأما المصرف المركزي اليوم خياران رئيسيان للتعامل مع الأزمة النقدية:
- التوسع في طباعة الفئات النقدية الحالية حيث يمكن زيادة طباعة فئات 1,000 و2,000 و5,000 ليرة، مع تعديل نظام الترقيم التسلسلي لاستيعاب المزيد من الطباعة، وهذا الخيار لا يؤدي إلى تضخم سريع، إلا أنه مكلف جدا، حيث تتراوح تكلفة طباعة الورقة النقدية بين 650 و1,300 ليرة وفقًا لسعر الصرف الرسمي.
- إصدار فئات نقدية أكبر: فطباعة فئات 10,000 و20,000 و50,000 ليرة سيجعل من ورقة الـ50,000 ليرة تعادل 3.8 دولارا، ويجعل تكلفة طباعتها حوالي 2% من قيمتها الاسمية، ورغم أن هذا الخيار يبدو أكثر فعالية، إلا أنه يخلق صدمة نفسية لدى المواطنين ويؤدي إلى مزيد من التضخم المالي.
يطرح البعض فكرة حذف الأصفار من العملة السورية كحل للأزمة، وهذا الإجراء لا يغير الواقع الاقتصادي، بل يؤدي إلى تعقيد المعاملات المالية بدون أي تأثير فعلي على التضخم أو القدرة الشرائية، فالأزمة النقدية السورية تستوجب حلولًا جذرية لا تقتصر فقط على طباعة المزيد من الأوراق النقدية أو إصدار فئات أكبر، بل تتطلب سياسات اقتصادية شاملة تشمل تعزيز الإنتاج المحلي، ضبط السياسات النقدية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد. دون ذلك، فإن أي حل نقدي سيكون مجرد مسكن مؤقت للأزمة المتفاقمة.