مع سقوط سلطة البعث غاب الجيش السوري فيزيائيا عن الساحة لصالح “قوات هيئة تحرير الشام”، لكن الغياب هو في النهاية مسألة مرتبطة بدور الجيش منذ عام 1963 عندما أصبح جزء السلطة السياسية بعد اعتماد مذهب “الجيش العقائدي”، ولكن وقع الجيش في الحياة السورية لا يمكن إسقاطه لأنه في النهاية كان العامل المرجح في كافة المراحل السورية منذ أول انقلاب خاضه حسني الزعيم عام 1949، وأصبح الجيش داخل المعادلة السياسية حتى في المرحلة الحالية بعد حله ولو بشكل غير رسمي.
المسألة الأساسية أن إعادة تكوين الجيش من جديد وفي ظل هشاشة البيئة السياسية وبنيتها سيكون العامل الرئيس في الاستقرار، وسيعود مهما كانت بنيته أو ولاءاته القادمة الرقم الصعب، من جديد، داخل أي توازن قادم، فالشرعية الجديدة مهما حاولت البحث عن تحييد للجيش ستجد نفسها وسط مراحل صعبة من الصراعات القائمة حاليا في الشمال والجنوب السوري التي تحتاج إلى قرارات عسكرية أكثر منها سياسية، هذا إضافة للتجربة الديمقراطية الهشة في سورية التي تقتصر على مراحل الخمسينات التي اعتمدت أساسا على دستور تم إقرار في مرحلة حكم أديب الشيشكلي الذي كان يحلم بدور يشبه كمال أتاتورك في تركيا.
عمليا فإن حل الجيش ولو بشكل غير رسمي خلف أزمة على صعيد الحياة الاجتماعية، فالرقم غير الرسمي لتعداد الجيش في عام 2014، هو حوالي 150,000، وبحلول عام 2023، ارتفع العدد إلى حوالي 170,000 جندي، وبالطبع فهذا الرقم يعتمد عليه عدد أكبر من الموظفين المدنيين التابعين لمؤسسات تدعم البُنى التحية للجيش، وإذا نظرنا فقط إلى حركة تطور الجيش فإن سيقدم لنا تصورات خاصة عن مواكبته للحدث السياسي كما يوضح الرسم التالي:
وفق الرسم البياني فإن التحول الرئيسي في بنية الجيش في مراحله الأولى كانت في مرحلة الوحدة مع مصر (1958-1961)، لكن هذا الأمر تأسس على مرحلة سبقت الوحدة في الخمسينيات، حيث لعب خالد العظم دورا محوريًا في تعزيز العلاقات بين سوريا والاتحاد السوفييتي، وتم تسليح الجيش السوري بمعدات سوفييتية متقدمة، ففي 7 أغسطس 1957، وقّع العظم بصفته وزير الدولة والدفاع الوطني، اتفاقية تعاون مع الاتحاد السوفييتي في موسكو، هدفت إلى تعزيز القدرات العسكرية السورية وتحديثها.
في عمق هذا المشهد كانت التوترات الإقليمية تدفع نحو الاستناد إلى الجيش الذي “فرض الوحدة” ولو بشكل دستوري عبر مشاركته الفعالة في تلك المفاوضات، وكانت فعالية الجيش تعبر عن التماسك والنظام في مواجهة التشتت السياسي خصوصا في مرحلة الانفصال، وهو ما أدى إلى سيطرة الجيش على السلطة عام 1963، ويوضح الرسم البياني أن الارتفاع السريع ما بين 1970-1973)) في أعداد الجيش بات حاسما ليس فقط في حرب تشرين بل أيضا في دعم قوة “الجيش العقائدي” الذي شكل عماد سلطة البعث، وبلغ الجيش السوري أوج قوته في فترة ما بعد حرب أكتوبر، ودفع سوريا لتصبح لاعبا إقليميا رئيسيا.
رغم التراجع النسبي في عتاد الجيش السوري بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن دوره في الصراعات الإقليمية بقي فاعلا فظهر مجددا في حرب تحرير الكويت ولو بشكل محدود لكن كان مؤشرا على أنه يوفر أدوار أساسية ظهرت لاحقا عير تحقيقه لتوازن مختلف في لبنان بعد مرحلة الطائف، أو حتى في عملية انتقال السلطة في سورية بعد عام 2000، وكان استناد سلطة البعث في الحرب عام 2011 على قدرة الجيش في الصراع ضد كافة الفصائل المسلحة التي ظهرت في سورية، ويقدم الرسم البياني مدى تدخل الجيش في الصراعات التي دارت في المنطقة منذ تأسيسه:
رغم أن الرسم البياني السابق لا يتطرق لكافة أدوار الجيش خصوصا في حرب تحرير العراق، أو حتى في تأثيره على الحدث السياسي لكنه يقدم تطور تأثير العام، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مشاركته في حرب 1973 تبدو أقل مما هو عليه عام 1967 وذلك بسبب المقارنة بين المشاركة السورية والمصرية في الحربين، ففي 1967 أصبح الجيش السوري من الأيام الأولى وحيدا في الحرب بعد تحييد الجيش المصري والأردني.
إعادة تأسيس الجيش اليوم سيحمل معه الإرث التاريخي، حتى ولو تم تغيير كافة عناصره لأنه في النهاية سيكون جزء فرض النظام والاستقرار بعد عقد ونصف من الصراعات، فالجيش المحايد هو تفكير خارج عن كل الواقع السياسي، والواقع الاجتماعي الذي خلفه إنهاء خدمة العسكريين العاملين قبل سقوط سلطة البعث سيشكل أزمة حقيقية لأنه يترك شريحة واسعة مدربة عسكريا دون دور، والتجربة العراقية على الأقل تتحدث عن أن الداعش ظهرت من بقايا الجيش العراق الذي تم حله، وبالتأكيد فإن العسكريين السوريين السابقين لن يشكلوا داعش لكنهم مسألة تحتاج إلى حل حقيقي.