تشكل الحوارات الوطنية أداة جوهرية لتحقيق الاستقرار السياسي والمصالحة الوطنية في الدول الخارجة من نزاعات داخلية أو أزمات سياسية، وفي هذا الإطار، برزت لجنة الحوار السوري كإحدى المحاولات الرامية إلى معالجة الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد.
اللجنة أثارت منذ الإعلان عنها موجة من الانتقادات، ما يفرض ضرورة فحص تركيبتها وآفاق نجاحها، مع الاستفادة من تجارب حوارات وطنية ناجحة في دول أخرى.
أولاً: التمثيل السياسي كمعيار للنجاح
تمثيل مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية في أي حوار وطني هو أساس لضمان شرعيته وقدرته على تحقيق التوافق، في الحالة السورية، تواجه لجنة الحوار انتقادات بسبب انفراد السلطة الحاكمة بتشكيلها، وغياب أطراف معارضة رئيسية وممثلين عن المجتمع المدني، وهذا التكوين الأحادي أثار شكوكا حول مدى قدرة اللجنة على التعبير عن التنوع السوري.
بالمقابل، نجحت تجربة الحوار الوطني التونسي عام 2013، نتيجة انفتاحها على كل المكونات السياسية والاجتماعية، بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل، ومنظمة الأعراف، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، فهذا التمثيل الواسع أضفى على الحوار شرعية وقوة مكنته من تجاوز أزمة سياسية كادت تعصف بالدولة.
غياب التمثيل الشامل في سوريا من شأنه أن يُعقِّد جهود المصالحة، ويزيد من انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة، ويحوّل الحوار إلى أداة لفرض هيمنة سياسية بدلا من كونه منبرا للتوافق.
ثانياً: الدور الإقليمي والدولي كعامل مؤثر
لم تحظَ لجنة الحوار السوري بدعم إقليمي أو دولي واضح، فالإعلان عنها جاء بشكل أحادي من قبل الحكومة السورية، دون التنسيق مع الأمم المتحدة أو أطراف إقليمية نافذة، بينما تظهر تجارب اليمن، لبنان، والسودان أهمية الدور الخارجي في توفير ضمانات الحياد وتعزيز ثقة الأطراف المتنازعة، ورغم أن الدول السابقة عانت لاحقا من صراعات داخلية حادة، لكن الأطراف الدولية يمكن أن تؤدي أدوار في الرقابة بالدرجة الأولى.
ففي اليمن، ساهمت ألمانيا وسويسرا بدعم المفاوضات، مما وفر بيئةً آمنة للحوار، أما في السودان، فلعبت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي دورا فاعلًا في تقريب وجهات النظر بين المكونات السياسية. هذه الأمثلة تؤكد أن غياب الضمانات الدولية في سوريا قد يُفقد الحوار مصداقيته، ويجعله عرضةً لاتهامات التلاعب السياسي.
ثالثاً: العدالة الانتقالية كضرورة لتحقيق الاستقرار
تمثل العدالة الانتقالية أحد المحاور المغيّبة عن أجندة لجنة الحوار السوري، ورغم أن سوريا شهدت نزاعا مسلحا أسفر عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لم تطرح اللجنة آليات لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، أو تعويض الضحايا.
في المقابل، ارتكز الحوار الوطني في السودان واليمن على مبدأ المساءلة والمصالحة، كخطوة أساسية لتحقيق الاستقرار، وفي السودان، كان تحقيق العدالة لضحايا النظام السابق أحد شروط نجاح المرحلة الانتقالية. إغفال هذه النقطة في سوريا قد يعزز مشاعر الغبن ويؤدي إلى استمرار دورة العنف والانتقام.
رابعاً: الخصوصية السورية بين التعقيد والمحاكاة
تتميز الحالة السورية بتعقيداتها السياسية والطائفية، فضلًا عن التدخلات الخارجية، وهذه الخصوصية تجعل من الصعب استنساخ نماذج جاهزة من دول أخرى، ونجاح الحوار الوطني التونسي أو السوداني ارتبط بطبيعة التركيبة الاجتماعية والسياسية في تلك الدول، والتي تختلف عن سوريا.
غير أن هذه الخصوصية لا تعني تجاهل الدروس المستفادة من التجارب الأخرى. فإشراك المجتمع المدني، وضمان الحياد، ومعالجة القضايا الحقوقية، تبقى مبادئ عامة صالحة لأي عملية حوار وطني.
خامساً: هشاشة المرحلة التحضيرية
اتسمت المرحلة التحضيرية لإطلاق لجنة الحوار السوري بالضعف، فالإعلان المفاجئ عن اللجنة، وبدء أعمالها في مدينة حمص، حمل طابعًا رمزيًا لكنه افتقر إلى حوارات تمهيدية أو مشاورات مع القوى الفاعلة على الأرض.
في المقابل، أظهرت تجارب لبنان والبحرين أهمية الورش التحضيرية كأدوات لخلق الثقة، ففي لبنان، سبقت جلسات الحوار لقاءات استشارية غير رسمية بين القادة السياسيين، بينما شهدت البحرين حوارات مجتمعية قبيل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، وغياب هذه الخطوات في سوريا يجعل من الصعب ضمان مشاركة حقيقية، ويدفع أطرافا فاعلة لمقاطعة العملية برمتها.
خاتمة: دروس مستفادة وتوصيات
عبر مقارنة التجربة السورية بنظيراتها في دول أخرى، يمكن استخلاص الدروس التالية:
- أهمية التمثيل الشامل: نجاح أي حوار مرهون بمشاركة كافة الأطراف، بما في ذلك المعارضة والمجتمع المدني.
- الدور الإقليمي والدولي: لا يمكن تجاهل الحاجة إلى رعاية وضمانات دولية لتعزيز حياد العملية.
- العدالة الانتقالية: معالجة قضايا الانتهاكات السابقة ضرورة لضمان مصالحة حقيقية.
- مراعاة السياقات المحلية: نجاح الحوار يتطلب إدراكًا لتعقيدات المجتمع السوري.
- التحضير المسبق: الإعداد الجيد عبر مشاورات تمهيدية يضمن خلق بيئة ملائمة للحوار.
إن نجاح لجنة الحوار السوري يتطلب إعادة النظر في تركيبتها وآليات عملها، بما يضمن انخراطا أوسع لمختلف المكونات، إلى جانب إشراك الأمم المتحدة ودول مؤثرة كوسيط ضامن، كما أن إفراد ملف العدالة الانتقالية بمكانة بارزة سيُسهم في كسر حاجز الخوف والاحتقان، ويفتح آفاقا لمصالحة وطنية شاملة.
إن أي عملية حوار وطني لا يمكن أن تنجح إن أُريد لها أن تكون مجرد غطاء سياسي، بل يجب أن تكون مساحة حقيقية للبحث عن حلول تُخرج البلاد من أزمتها، وتؤسس لعقد اجتماعي جديد يستند إلى العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.
