عندما تنتهي الحروب والصراعات، يكون أمام المجتمعات خياران متناقضان: إما الانزلاق في دوامة الانتقام والتمييز بين الضحايا وفقا لميزان القوة، أو السعي نحو المصالحة العادلة التي تعيد التوازن الاجتماعي وتضمن العدالة لجميع الأطراف، دون استثناء أو تمييز.
التاريخ حافل بالأمثلة التي توضح كيف يؤدي الانتقام إلى إعادة إنتاج الظلم، وكيف أن المصالحة الحقيقية تستند إلى العدالة لا إلى إذلال المهزومين، ففي جنوب إفريقيا، بعد عقود من التمييز العنصري والاضطهاد، لم يلجأ نيلسون مانديلا وحكومته إلى الانتقام من البيض الذين أداروا نظام الفصل العنصري، بل أسسوا لجنة الحقيقة والمصالحة، التي سمحت للمذنبين بالاعتراف بجرائمهم أمام الضحايا في مقابل العفو، ما مهد الطريق لوطن أكثر عدالة وتعايشا، ولم يكن العفو مطلقا، بل كان مشروطا بالحقيقة، وهي النقطة التي تجعل المصالحة الحقيقية ممكنة، لأن المصارحة كانت سلاح العدالة قبل منح التسامح.
على النقيض من ذلك، كانت نهاية الحرب العالمية الثانية مثالا على كيفية توجيه العدالة وفقا لمنطق المنتصر فقط، حيث تم تقديم محاكمات نورمبرغ كمثال على محاسبة مجرمي الحرب النازيين، بينما تم التغاضي عن الجرائم التي ارتكبها الحلفاء، مثل القصف النووي على هيروشيما وناغازاكي، وهو ما كشف عن ازدواجية العدالة عندما تصبح أداة سياسية لا معياراَ إنسانياَ مطلقاً.
الفرق بين العدالة والانتقام
يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “العدالة أن يُعاقب المرء فقط بسبب أفعاله، وليس لكونه جزءاً من مجموعة مهزومة أو مكروه.“ ، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين العدالة والانتقام، فالانتقام يقوم على إذلال المهزومين، بغض النظر عن مسؤوليتهم الفردية، في حين أن العدالة تسعى إلى المحاسبة وفقا للأفعال وليس للهويات.
الانتقام يتغذى على إذلال الطرف المهزوم، حيث يصبح الضحايا من جهة واحدة فقط، بينما يتم التقليل من شأن معاناة الطرف الآخر، وتبرير اضطهاده تحت ذريعة ماض مشحون بالألم، وهنا تكمن مشكلة “عدالة المنتصر“ التي تفترض أن الضحية الوحيدة هي المنتصر، بينما يتحول ضحايا الطرف المهزوم إلى مجرد تفصيل غير مهم، أو حتى إلى أهداف مستباحة للعقاب والإذلال الجماعي.
يقول الفيلسوف جون رولز في نظريته عن العدالة: “العدل لا يكون عدلا إلا إذا طُبق على الجميع، وإلا فإنه يصبح مجرد شكل آخر من الهيمنة.” وهذا ما يجعل العدالة الاجتماعية تتطلب إقرارا بالمعاناة المتبادلة، لا الانحياز لضحايا طرف دون الآخر.
المصالحة كبديل لإنهاء دائرة الانتقام
يعتبر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أن “التسامح لا يعني النسيان، بل يعني تذكر الماضي دون أن يتحكم الماضي في المستقبل.” وهذا هو جوهر المصالحة الحقيقية، حيث لا يتم إنكار الجرائم، ولكن يتم تجاوزها بإطار من العدالة التصالحية التي تضمن عدم إعادة إنتاج الصراع.
في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، لم تلاحق الحكومة الألمانية كل من خدم في الجيش النازي باعتباره مجرما، بل تم دمج الأفراد في المجتمع عبر عمليات إعادة تأهيل، وتم بناء سياسات تعويض للضحايا، وليس سياسات إذلال للمهزومين، على العكس، في حالات أخرى مثل العراق بعد 2003، أدى اجتثاث حزب البعث بالكامل إلى خلق فراغ سياسي واجتماعي، ساهم في تغذية الحروب الأهلية المتتالية.
يقول فريدريش نيتشة: “من يحارب الوحوش عليه أن يحذر ألا يصبح وحشاً بدوره فالتاريخ يُظهر أن الذين يسعون للانتقام يتحولون إلى صورة أخرى من الظلم الذي كانوا يقاتلونه، ما يعيد إنتاج دورة العنف، بدلا من كسرها.
العدالة كمسار للمصالحة وليس سلاحاً للهيمنة
حين تكون العدالة انتقائية، فإنها تفقد معناها، وتتحول إلى شكل آخر من أشكال القمع المقنّع، تقول الفيلسوفة حنا آرندت: “العدالة يجب أن تكون بلا ذاكرة سياسية، لأنها إن استُخدمت لفرض سردية المنتصر، فإنها تفقد شرعيتها وتصبح أداة للقوة لا للقانون.”
لذلك، حين يتم التركيز فقط على ضحايا المنتصر، بينما يتم سحق ضحايا المهزوم والتنكيل بهم، فإن ذلك لا يؤدي إلى السلام، بل إلى تأجيج الغضب المكبوت الذي سينفجر لاحقاً بشكل أشد عنفاً، العدالة الحقيقية تقتضي الاعتراف بكل الضحايا، وإنهاء الحروب من خلال إعادة بناء النسيج الاجتماعي، وليس عبر استبدال مواقع الظالم والمظلوم.
العدالة في مهب الريح: سوريا بين نيران الحرب ومزالق الانتقام
على مدار أربعة عشر عاما، مرت سوريا بمرحلة قاسية من الصراع العنيف، دفع فيها جميع مكونات الشعب السوري أثمانا باهظة، من المعاناة الإنسانية والاقتصادية، إلى التهجير والمجازر وسنوات طويلة من الحصار والعقوبات، ورغم أن الظاهر كان اندلاع ثورة ضد النظام، إلا أن عمق المشهد السياسي والاستراتيجي كشف عن مشروع إقليمي أوسع، يستهدف إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقا لخارطة جديدة، تضمن ولادة كيانات ضعيفة بلا سيادة حقيقية، تحاكي نموذج الضفة الغربية، حيث سلطة بلا دولة، ووجود سياسي بلا مقومات حياة مستقلة، وكيانات عاجزة مسالمة لإسرائيل، وهو ما يفسر حجم التدخلات الدولية التي لم يكن هدفها تحقيق مطالب السوريين بقدر ما كان سعيا لضبط ميزان القوى بما يخدم مشاريع تفتيت المنطقة.
في مواجهة هذا المخطط، حاولت الحكومة السورية، احتواء الموجة الثورية عبر تقديم سلسلة من التنازلات، أملاً في تهدئة الحراك الشعبي واستيعابه ضمن أطر إصلاحية، غير أن الأحداث سرعان ما انزلقت نحو العسكرة، حيث بدأ استخدام السلاح وإطلاق النار على المتظاهرين، مع توجيه الاتهامات المتبادلة بين الأمن والمتظاهرين، من هناك، تفجرت المواجهة واتخذت منحى داميا تصاعد ليصل إلى حرب ضارية استنزفت البلاد، مع دخول أطراف دولية وإقليمية على خط الصراع، كلٌ يسعى لتحقيق أجندته الخاصة، فكانت النتيجة كارثة إنسانية لا تفرّق بين مؤيد ومعارض، حيث عانى السوريون من ويلات الحرب بغض النظر عن اصطفافاتهم السياسية.
دولة تحت الحصار: معركة وجود لا معركة سلطة
مع توسع رقعة المعارك، لم يكن الجيش السوري يخوض حربا ضد فصيل مسلح فحسب، بل واجه حربا متعددة الأوجه، عسكرية واقتصادية وسياسية وإعلامية، حيث تكالبت عليه العقوبات الدولية، وضُربت البنى التحتية بشكل ممنهج، فقطعت المياه عن المدن، وانهار الاقتصاد تحت وطأة العقوبات التي فرضتها القوى الكبرى، وفُرض الحصار على الغذاء والدواء، في استهداف واضح للحاضنة المدنية التي لم تكن طرفا في النزاع، أكثر من 6.8 مليون سوري هُجّروا داخليا، بينما اضطر أكثر من 5.5 مليون إلى اللجوء خارج البلاد، في واحدة من أكبر موجات النزوح القسري في التاريخ الحديث.
رغم ذلك، حافظت الدولة السورية على استمرار دفع رواتب الموظفين، وعدم انهيار العملية التعليمية، ونقلت الجامعات إلى مناطق آمنة بعد أن استُهدفت بالقذائف، كما أُعيد تشغيل قطاعات خدمية وسط موارد شحيحة، في محاولة لمنع انهيار كامل لمؤسسات الدولة، وهو ما شكل عامل استقرار أساسي، حال دون تحول سوريا إلى نموذج مشابه للصومال أو ليبيا.
عند لحظة التسويات: بين المصالحة والاستئصال
مع التقدم العسكري للجيش السوري، بدأت التسويات في المناطق التي كانت خاضعة للفصائل المسلحة، حيث مُنح المقاتلون خيارين: إما تسوية أوضاعهم والبقاء في كنف الدولة، أو الخروج بأسلحتهم إلى إدلب، حيث تجمعّت الفصائل المعارضة، وكانت هذه التسويات، رغم قسوتها، جزءا من منطق إعادة الاستقرار ومنع تكرار سيناريو الانتقام، وهو أمر تجاهلته القوى التي استلمت زمام الأمور لاحقا كما يظهر اليوم بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” والفصائل العسكرية المتحالفة معها على مناطق واسعة.
بدلاً من البحث عن العدالة الانتقالية التي تأخذ بعين الاعتبار معاناة جميع السوريين، تحول الأمر إلى تصفية سياسية واقتصادية شاملة، حيث تم استهداف المدنيين المنتمين لطوائف محددة، وإقصاء الموظفين، وحلّ الجيش ومؤسسات الدولة، كالبحوث العلمية و هيئة الطاقة الذرية، ومنع رواتب المتقاعدين، وتجريد عناصر القوات المسلحة من أي حقوق، بل وتصفيتهم جسدياً في بعض الحالات.
العدالة ليست انتقاما.. بل ميزان يزن الجميع
العدالة الحقيقية لا تعني الاقتصاص ممن كانوا في صف النظام فقط، متجاهلة ضحايا الحرب من الطرف الآخر، كما أنها لا تعني الإبقاء على دولة مهزومة اقتصاديا وسياسيا، محكومة بالفوضى، يقول الفيلسوف جون رولز: “العدل لا يكون عدلا إلا إذا طُبق على الجميع، وإلا فإنه يصبح مجرد شكل آخر من الهيمنة.” وهذا هو الفارق الجوهري بين العدالة الانتقالية التي تسعى إلى تضميد الجراح وإعادة بناء المجتمع، وبين الانتقام الذي لا يُنتج سوى جولات جديدة من الصراع.
في جنوب أفريقيا، عندما انتهى نظام الفصل العنصري، لم يتم سحق الأقلية البيضاء أو طردها من البلاد، بل أُنشئت لجنة الحقيقة والمصالحة التي اعترفت بآلام الجميع، وأفسحت المجال لتجاوز الماضي دون أن يكون ذلك على حساب الضحايا، أما في سوريا، فإن النهج القائم حاليا لا يعكس عدالة بقدر ما يعكس محاولة فرض سلطة جديدة بالإقصاء والتجويع، وهو ما يُنذر بمستقبل أكثر اضطراباً، حيث لا يُبنى الاستقرار على أشلاء طرف وإفقاره لصالح طرف آخر.
يقول أفلاطون: “العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، لا إعطاء القوة للمنتصر.” ومن هنا، فإن العدالة الحقيقية في سوريا لا يمكن أن تكون انتقائية، ولا يمكن أن تعني استبدال طغيان بطغيان آخر، بل يجب أن تكون عدالةً قائمة على الإنصاف، تُحاسب المذنب بناءً على جُرمه، لا بناءً على هويته أو اصطفافه السياسي.
إن ما يحدث اليوم من عمليات انتقامية وإقصائية يعيد إنتاج ذات الحلقة المفرغة التي عصفت بالبلاد منذ البداية، ولا يمكن لمستقبل سوريا أن يُبنى على سياسة الانتقام، بل على أساسات المصالحة العادلة، التي تعترف بجميع الضحايا، وتضمن لكل سوري مكاناً في وطنه، دون أن يكون رهينةً لتجاذبات السلطة والقوة.
في المجتمعات التي ترغب في بناء مستقبل مستقر، لا يمكن أن تقوم العدالة على إذلال المهزومين، بل يجب أن تستند إلى منطق القانون والمحاسبة العادلة، حيث يُعاقب الجاني لفعلته وليس لانتمائه، وحدها العدالة التي تشمل الجميع يمكنها أن تؤسس لمستقبل تصالحي، يُنهي دوائر الكراهية ويضمن سلاماً مستداماً، قائمًا على التوازن وليس على غلبة طرف على حساب آخر.