تشهد الليرة السورية واقعا يتجاوز تقلبات حادة في سعر الصرف، فهو يعبر عن سياسات نقدية غير تقليدية اتبعها المصرف المركزي بالتعاون مع الصرافين، وذلك بغرض تخفيض سعر الدولار وبشكل أدى إلى انخفاض وهمي لقيمة الدولار قبل أن يعاود الارتفاع مجددا.
إرباك الأسواق
خلال الفترة الماضية، لجأ المصرف المركزي إلى “تجفيف السيولة“ من الليرة السورية عبر سحب النقد من الأسواق وتجميد الحسابات، وساهم هذا الأمر في خفض سعر الدولار من 15,000 إلى 7,000 ليرة سورية، قبل أن يعاود الارتفاع إلى 10,500 ليرة سورية في الأيام الأخيرة، وحسب الخبراء الاقتصاديين فإنه لولا هذا التدخل، لكان سعر الصرف تجاوز 19,000 ليرة سورية.
لكن سعر الصرف رغم هذه الإجراءات لم يستقر، فهذه السياسات لم تعالج المشاكل الاقتصادية الهيكلية، بل أدت إلى زيادة الطلب على الدولار من قبل الصرافين والمصدرين الأتراك، ما خلق فقاعة نقدية سرعان ما انفجرت، فالسياسة النقدية المتبعة لم تكن قائمة على أسس اقتصادية سليمة، بل جاءت كرد فعل سريع على الأزمات المتلاحقة، وساهم في تفاقم المشكلة:
- إغراق الأسواق بالمنتجات المستوردة، خاصة من تركيا ولبنان، فزاد الطلب على الدولار.
- استيراد السيارات الخردة بملايين الدولارات، وهو ما شكل ضغطا إضافيا على احتياطي النقد الأجنبي.
- تراجع الإنتاج المحلي، وزيادة معدلات البطالة والركود الاقتصادي.
- انتشار الدولار المزور، الذي أربك السوق وأدى إلى تشويه العرض والطلب.
صراع السيطرة على سعر الصرف
يعتمد المصرف المركزي في ضبط سوق الصرف على أداة وحيدة، وهي “تجفيف السيولة“ عبر تقليل الكتلة النقدية المتداولة في السوق، ولكن على الجانب الآخر، يمتلك الصرافون طريقتين أكثر تأثيرا وسرعة:
- شراء الدولار، ما يقلل المعروض منه ويرفع سعره.
- بيع الدولار، مما يزيد المعروض ويؤدي إلى انخفاض السعر مؤقتا.
هذا التفاوت في الأدوات جعل الصرافين أكثر قدرة على التلاعب بالسوق مقارنة بالمصرف المركزي، وجعل تقلبات سعر الصرف أسرع وأكثر حدة.
عمليا هناك فرق كبير بين سحب فائض السيولة وتجفيفها بالكامل، ففي الحالة الأولى يتم ضبط كمية الليرة السورية لتناسب كمية البضائع المتوفرة في السوق، ما يحد من التضخم، أما في الحالة الثانية، فيتم سحب كميات كبيرة من النقد بشكل مبالغ فيه، ويؤدي إلى اختناق الاقتصاد وشلل الأسواق.
ما حدث في سورية هو نتائج كارثية لسياسة تجفيف السيولة، وأدت إلى تداعيات سلبية، أبرزها:
- انخفاض وهمي لسعر صرف الدولار، سرعان ما انعكس بارتفاع حاد.
- تدمير الصناعة المحلية بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وقلة السيولة.
- انكماش الطلب المحلي نتيجة نقص الأموال في الأسواق.
- زيادة معدلات البطالة والكساد، ما مهّد للدخول في ركود تضخمي متسارع.
- ارتفاع الاستيراد وانخفاض الصادرات، مما زاد من الاعتماد على النقد الأجنبي دون دعم حقيقي للاقتصاد المحلي.
أحد أوجه الحل هو الخروج من التلاعب النقدي أو الإجراءات المؤقتة، وإعادة تنشيط الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على المستوردات، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لخلق فرص عمل جديدة، إضافة لإعادة هيكلة النظام المصرفي لضمان إدارة أكثر كفاءة للسيولة، والحد من المضاربة والتلاعب بسعر الصرف عبر آليات رقابية صارمة.
تبدو الأزمة النقدية في سوريا بعيدة عن الحل طالما استمرت السياسات النقدية قصيرة الأجل في إدارة سوق الصرف، فالحلول الترقيعية لم تعد مجدية، والاقتصاد بحاجة إلى إصلاحات جذرية تعيد الثقة إلى العملة الوطنية بدلا من الاعتماد على إجراءات تضغط على المواطنين دون أن تحقق استقرارا مستداما.