رغم أن الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، استخدم عبارة “الجمهورية السورية” بعد “إسقاط” العربية خلال إحدى مداخلاته أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن هذا الأمر يؤشر على طبيعة السياسة الحاكمة رغم أن قرار إلغاء “العربية” لم يتم اعتماده رسميا، فالعلاقة السورية – التركية ورغم تقلباتها خلال أكثر من قرن، إلا أنها كانت محكومة بطبيعة ظهور الدولتين بعد انهيار السلطنة، وبالتناقض الحاد الذي فرضته حكومة الاتحاد والترقي في نهاية الحقبة العثمانية الطويلة.
الانفصال السوري عن تركيا لم يكن فعلا عسكريا فقط نتيجة دخول القوات الإنكليزية إلى سوريا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فهناك افتراق سياسي حاد ظهر مع المؤتمر العربي في باريس عام 1913، الذي كان محاولة لتمايز النخب السياسية العربية عن الحكام الأتراك الجدد، فالمسألة لم تكن قضية إيديولوجية قومية إنما تمايز حضاري بعد قرون من السيطرة العثمانية، لكن سوريا بقيت في التفكير التركي كجغرافية خطرة بالنسبة لأنقرة، وهو ما جعل العلاقة بين الدولتين محفوفة بالمخاطر، ابتداء من ثورة جبل الزاوية خلال الانتداب الفرنسي، ووصولا إلى رؤية وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، في كتابه العمق الاستراتيجي عندما اعتبر سورية “حديقة خلفية” ضمن الشرق الأوسط عموما.
الخلافات الحدودية المبكرة وضم لواء إسكندرون (1921-1939)
عندما ظهرت تركيا الحديثة كانت القضايا العالقة مرتبطة بتوزيع القوة في غرب آسيا عموما، وكانت معاهدة سيفر (1920) وبعدها اتفاقية سان ريمون من نفس العام مجرد إدارة لأزمات متفاقمة تم حسمها بعيدا عن النخب السورية عبر ترسيم الحدود بين تركيا وسوريا من خلال اتفاق أنقرة (1921)الذي أبرمته تركيا مع فرنسا المنتدبة على سوريا، بينما بقي ملف لواء إسكندرون (هاتاي) مصدرا للنزاع، حيث قامت تركيا بضم المنطقة عام 1939 بعد استفتاء مثير للجدل، اعتبرته سوريا غير شرعي، وظل مطلب استعادته جزءا من الخطاب الوطني السوري لعقود.
عمليا فإن خلافات الحدود لم تكن ترتبط بالموضوع الكردي كما هي حاليا، والاشتباك السياسي كان نتيجة تصادم المشروع التركي مع “الصيغة العربية” قبل أن تأخذ بعدا قوميا كما حدث في خمسينيات القرن الماضي، فالجغرافية الحاكمة لكلا البلدين أنعشت خط الصدع الشمالي الذي كان بالنسبة لسورية مساحة صراع مع هضبة الأناضول قبل ظهور الدولة التركية بشكلها الحديث.
![](https://agoraleaks.com/wp-content/uploads/2025/02/image-24.png)
![](https://agoraleaks.com/wp-content/uploads/2025/02/image-25.png)
صراع الحرب الباردة وحلف بغداد (1946-1990)
كانت كلمة “العربية” تعبيرا عن افتراق سوريا عن السلطنة العثمانية، حيث أُضيفت عند إعلان المملكة السورية العربية في 8 مارس 1920، عندما نُصِّب الأمير فيصل بن الحسين ملكا عليها، لكنها غدت مشروعا لنظام إقليمي منذ خمسينات القرن الماضي مع صعود التيار القومي، وبعد استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي، أُعيد استخدام اسم الجمهورية العربية السورية في دستور عام 1950، وإسقاطها في أي خطاب سياسي هو إعلان نهاية المشروع الذي برز بوضوح بين سوريا وتركيا كطرفي نقيض من المشهد السياسي العالمي، حيث انضمت تركيا إلى حلف الناتو (1952) ثم شاركت في حلف بغداد (1955)الذي دعمته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لمواجهة النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط، في المقابل، رفضت سوريا الحلف، معتبرة إياه أداة استعمارية تهدف إلى تقويض الوحدة العربية، ما أدى إلى توتر العلاقات مع أنقرة.
أزمة 1957
بلغ التوتر ذروته عام 1957 عندما حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية، بدعوى مواجهة “التغلغل الشيوعي”، ورد الاتحاد السوفيتي بتهديد نووي ضد تركيا في حال التدخل العسكري، ما دفع الولايات المتحدة إلى تهدئة الأزمة ومنع نشوب صراع مفتوح، وهذه الحادثة زادت من تقارب سوريا مع السوفييت، ورسخت العداء التركي-السوري لسنوات طويلة.
أوضحت أزمة 1957 أن مسألة “العربية” ليست شأنا عارضا في التكوين السوري، فهي أدت للتسريع في الوحدة بين مصر وسوريا، وبغض النظر الظروف التي حكمت هذه الوحدة لكن هناك ثلاث نقاط أساسية حكمت التوجه السريع باتجاه الوحدة أو حتى الانفصال:
- كان المشروع العربي في سوريا مكتملا في تصوراته نتيجة الفشل في مشروع المملكة السورية التي انهارت نتيجة الانتداب فهو مشروع عُمد بالدم بعد استشهاد وزير الحربية السوري.
- تحول المشروع إلى إطار قومي بشكل مبكر في سوريا مع ظهر أحزاب مثل البعث العربي الذي حول لمشروع سياسي إقليمي.
- النقطة الثالثة هي إصرار حكومة الانفصال على التمسك بمصطلح العربي رغم انهيار أول وربما آخر مشروع لمنطقة عربية في تاريخ غرب آسيا الحدث.
بقي التصعيد بين الدولتين مستمرا وظهر مجددا في سبعينات القرن الماضي بعد اجتياح تركيا لقبرص، ولاحقا مع بروز قضية الأكراد كعامل رئيسي في التوترات بين البلدين، فاتهمت تركيا سوريا بدعم حزب العمال الكردستاني (PKK) وإيواء زعيمه عبد الله أوجلان، مما دفع أنقرة إلى التهديد بعمل عسكري ضد دمشق، وبوساطة مصرية تم توقيع اتفاق أضنة (1998)، الذي نص على:
- منح تركيا حق ملاحقة المسلحين الأكراد داخل سوريا حتى عمق 5 كم.
- التزام سوريا بعدم السماح باستخدام أراضيها لشن هجمات ضد تركيا.
كان هذا الاتفاق بداية المحاصرة الكاملة للمشروع السوري في إطاره العربي، فهو شكل فض اشتباك قبل أن يتحول بعد الاحتلال الأمريكي للعراق إلى علاقة أتاحت عبر ربع قرن من الانفتاح والصدام إلى تصفية المشروع الإقليمي العربي، حيث تبدو تركيا ضمن مواجهة مختلفة داخل نظام غرب آسيا الجديد، فقدرة المشروع العربي الذي ظهر مع “المملكة السورية” بداية القرن الماضي تحول اليوم إلى دوائر نفوذ حيث تعود تركيا إلى مساحة قوة عبر سوريا بالدرجة الأولى.