سيقدم مؤتمر باريس صورة أولية عن طبيعة الاحتكاك المباشر الجديد للأزمة السورية مع النظام الجديد، ورغم أن كافة التصريحات لا توحي بمسألة المساعدات المالية، إلى أن هذا الاجتماع سيشكل اختبارا للتشابك الإقليمي والدولي في الشأن السوري.
عمليا فإن فرنسا ليست غريبة عن مثل هذه اللقاءات فهي أول من تحمس لتأسيس مجموعة المعارضة من باريس باسم المجلس الوطني السوري، وفي مرحلة لاحقة ومع استخدام روسيا لمرات عديدة لحق النقض بشأن فرض عقوبات على سوريا، فأطلقت مؤتمر أصدقاء سوريا لتعبئة كافة الأطراف الدولية تجاه دمشق، وما يحدث اليوم هو ظهر سلطة سياسية غير معتادة بالنسبة لباريس، فسوريا اليوم تحت سلطة من قاطعهم التحرك الدبلوماسي طوال سنين الصراع، وسياستهم ماتزال تحمل إشارات استفهام بالنسبة للأوربيين بالدرجة الأولى.
في خضم التحولات السياسية العميقة التي تشهدها سوريا بعد الإطاحة بالنظام السابق، يأتي مؤتمر باريس لتنسيق المساعدات الدولية كحدث محوري يُرسم من خلاله ملامح مستقبل البلاد. انعقاد المؤتمر، اليوم الخميس، بحضور وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني، يُشكل محطة فارقة ضمن مسار الانتقال السياسي الهش، وسط تحديات إقليمية ودولية معقدة.
أهداف ثلاثية الأبعاد
يرتكز مؤتمر باريس على ثلاثة أهداف رئيسية، بحسب تصريحات الإليزيه، تتلخص في دعم الانتقال السلمي بما يحترم سيادة سوريا وأمنها، وحشد الشركاء الإقليميين والدوليين لدعم الاستقرار، ومعالجة قضايا العدالة ومكافحة الإفلات من العقاب، وهذه المحاور تعكس رغبة بخلق بيئة سياسية وأمنية تضمن انتقالا متوازنا يُفضي إلى استقرار مستدام.
في المقابل فإن الاستقرار يحتاج إلى حوافز اقتصادية لا يمكن أن تنحصر بتعليق العقوبات، فالانتقال السلمي يتطلب بالدرجة الأولى لاستراتيجية بيئة تنمية قادرة على تحويل التوترات إلى ممكنات تنموية، وإغفال مسألة المساعدات سيؤدي عمليا إلى وضع خطط الاستقرار في حالة خطر، فالبيئة السورية تضررت كثيرا بالحرب، حيث توضح البيانات التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) حجم الإنفاق اللازم لاستعادة التوازن الداخلي، ففصل جهود الانتقال السياسي عن التحديات الاقتصادية والإنسانية أمر صعب وتقدر (الإسكوا) تكاليف إعادة الإعمار نحو 72 مليار دولار، مع توقعات بوصول الحاجة إلى 160 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، فخسائر الدمار الفيزيائي وحدها قدرت بنحو 100 مليار دولار، توزعت على قطاع الإسكان (30 مليار دولار)، والكهرباء والمياه (9 مليارات دولار)، والزراعة (7 مليارات دولار)، ويوضح الرسم البياني التالي الخسائر السورية حسب تقديرا الإسكوا:
![](https://agoraleaks.com/wp-content/uploads/2025/02/image-33.png)
السؤال الذي يطرحه الرسم السابق: كيف يمكن خلق حالة استقرار وسط الضرر الجسيم في قطاع الإسكان، وهو يعبر عن حالة النزوح التي خلق حالة ديمغرافية قلقة، في المقابل فإن التجاه السياسي الفرنسي يطرح ما يسميه “خلق طبقة حماية” حول الأزمة السورية، وهذا التعبير يسلط الضوء على التخوفات من محاولات أطراف متعددة تقويض مسار الاستقرار، وهو أمر يبدو سهلا في ظل ارتفاع معدلات الفقر التي ستدفع إلى اضطرابات حادة، ووفق بيانات البنك الدولي في المقابل، ارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أشار إلى أن 69% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر عام 2022، بينهم 27% في فقر مدقع، وهذه الأرقام تعكس حجم التحدي الذي يواجه أي حكومة انتقالية، في ظل اقتصاد منهار وبنية تحتية شبه مدمرة، وهذا ما يوضحه الرسم البياني التالي:
![](https://agoraleaks.com/wp-content/uploads/2025/02/image-32.png)
على عكس المؤتمرات التقليدية، لا يستهدف مؤتمر باريس جمع التبرعات، إذ ستُخصص هذه المهمة لمؤتمر المانحين المزمع عقده في بروكسل مارس المقبل، ومع ذلك، لن تخلو المناقشات من ملفات حساسة، أبرزها العقوبات المفروضة على سوريا، وتشير تقارير إلى تحرك أوروبي نحو رفع بعض العقوبات، إلا أن معارضة اليونان وقبرص تعرقل هذا المسار، خاصة في ظل المخاوف المرتبطة بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين سوريا وتركيا.
الملف الكردي وتأزم العلاقات مع تركيا
ضمن أجندة المؤتمر العلاقة المعقدة بين الحكومة السورية الجديدة والقوات الكردية المدعومة غربيا، والتي تصنفها تركيا كجماعات إرهابية، وتداخل هذه الملفات يزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار، خاصة مع تراجع المساعدات الأميركية لشمال شرقي سوريا، ما خلف تداعيات إنسانية “رهيبة” بحسب وصف مسؤول أوروبي.
تبدو باريس، من خلال هذا المؤتمر، حريصة على لعب دور الوسيط الذي يجمع الفرقاء الإقليميين والدوليين حول طاولة الحوار، أما الاتحاد الأوروبي، وإن أبدى مرونة حيال رفع العقوبات، يضع شروطا صارمة، منها تشكيل حكومة جامعة وتحقيق العدالة الانتقالية، وهذه المقاربة تتلاقى مع مطالب المعارضة السورية، لكنها تصطدم بواقع ميداني شديد التعقيد، فنجاح مؤتمر باريس مرهون بقدرته على تحقيق توازن دقيق بين الاعتبارات السياسية والأمنية والاقتصادية، فدعم الانتقال السلمي يتطلب التزاماً دولياً بضمان عدم عودة الصراع، فيما يتطلب حشد الشركاء توفير حوافز اقتصادية واستثمارات في إعادة الإعمار، أما العدالة ومكافحة الإفلات من العقاب، فهي حجر الأساس لاستعادة ثقة السوريين في الدولة.
في ظل هذه التحديات، تبقى المخاوف قائمة من أن يتحول المؤتمر إلى مجرد منصة لإطلاق وعود سياسية، دون أن تُترجم إلى خطوات عملية، فالتجارب السابقة في ليبيا والعراق تُثبت أن غياب الالتزام الدولي بتنفيذ مخرجات المؤتمرات، غالبا ما يقود إلى انتكاسات تُعيد الدول إلى مربع الصراع.