أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


غاية الناموس والشرائع المسيح..

تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإرساليّة يوحنا للمسيح ( لوقا ٧: ١٨-٣٠ )

القدِّيس يوحنا المعمدان الذي سبق فركض في أحشاء أمه متهلَّلاً بقدوم المخلِّص المتجسِّد في أحشاء البتول، والذي أعلن عن أزليَّته (يو 1: 30)، وعن رسالته كحمل الله الذي يرفع خطيّة العالم (يو 1: 29)، وقد رأي الروح القدس نازلاً عليه والآب يشهد له في لحظات العماد… الآن يبعث إرساليّة إلى السيِّد المسيح تقول: “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” [20].
لم يكن يوحنا يشك في شخص السيِّد المسيح، لكنه أراد أن يعطي للسيِّد المسيح المجال ليقتنص تلاميذه له. فالقدِّيس يوحنا لا يريد لنفسه تلاميذ يعملون لحسابه، إنما يودْ في تلمذته للآخرين أن يبعث بهم إلى مخلِّصه، دافعًا إيَّاهم إلى “الصداقة الإلهيّة”. وقد رأي ألا يدخل في حوارٍ مع تلاميذه في شأن المخلِّص، إنما يبعث بإرساليّة إليه ليقدِّم السيِّد نفسه باجتذابهما إليه، فيجتذبان معهما بقيّة التلاميذ.
أقول ما أنجح الراعي الذي يدفع بشعب الله إلى التلاقي مع السيِّد المسيح نفسه لكي يسحب قلوبهم إليه وينعمون بالصداقة الإلهيّة، بهذا يكون عمل الراعي هو مجرد تلاقي شعب الله بالمخلِّص نفسه. مثلَ هذا الراعي لا يعمل لحساب كرامته أو شعبيَّته، وإنما لحساب ملكوت الله.

يحدّثنا القدِّيس كيرلس الكبير عن سبب هذه الإرساليّة في شيء من الاسترسال، قائلاً:
[لا تظنُّوا إذن أن المعمدان المغبوط عجز عن معرفة كلمة الله، المسيح المتجسِّد – فقد كان واثقًا من المسيح ومن شخصيَّته. وأما سؤاله عن المسيح فقد أملاه له روح الحكمة والفراسة ليجعل من السؤال درسًا مفيدًا لتلاميذه. كان هؤلاء التلاميذ في عزلة عن المسيح، فلم يُدركوا مجده وسلطانه، بل واشتعلت فيهم نيران الحقد، إذ سمعوا بتفوُّقه على سيِّدهم يوحنا في إجراء المعجزات والعجائب، وقد ظهرت نيَّاتهم السيِّئة هذه في إحدى المرَّات، إذ اقتربوا من المعمدان، وسألوه عن المسيح قائلين: “يا معلِّم هوذا الذي كان معك في عبْر الأردن الذي أنت قد شهدتَ له هو يعمِّد، والجميع يأتون إليه” (يو 3: 26). أجاب يوحنا وقال: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطيَ من السماء. أنتم أنفسكم تشهدون إني قلت لست أنا المسيح بل أنا مرسل أمامه، من له العروس فهو العريس، وأمَّا صديق العريس الذي يقف ويسمعه، فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس، إذن فرحي هذا قد كمُل، ينبغي أن ذلك يزيد وإنِّي أنا أنقص” (يو 3: 27-30).
إننا لا نقول أن المعمدان انحطَّ مقامه في الوقت الذي زاد فيه مجد المسيح بأن التفَّ حوله عدد كبير من الناس، ولكن يُراد بنقص يوحنا وزيادة المسيح أن يوحنا كان إنسانًا فلابد من أن يصل إلى درجة ما بعدها من مزيد، أما المسيح فهو إله متأنِّس فلا حد لنموُّه ولا نهاية لعظمته ولذلك يقول المعمدان: “ينبغي أن ذلك يزيد وأنِّي أنا أنقص“. إن كل من وقف في مستوى واحد ينقص، وذلك بالنسبة لمن لا يقف أمامه عائق عن النمو والتقدُّم، وحتى يُثبِت المعمدان أنه على حق في قوله هذا أشار إلى لاهوت المسيح، وبرهن لهم أنه لابد من أن يفوق جميع الناس، إذ قال: “الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلَّم” (يو 3: 31). من الذي أتى من فوق، ومن ذا الذي يفوق جميع الناس؟ من الواضح هو كلمة الله المتجسِّد، هو مثال الآب ومساوٍ له في الجوهر، ونظرًا لمحبَّته شاء فنزل وتواضع ليصير مثلنا. فالمسيح إذن يفوق كل من في الأرض، ولما كان المعمدان أحد سكان الأرض، ويتَّفق معهم في الإنسانيّة، لزم أن يفوقه المسيح الإله.
لا ننكر أن يوحنا كان حميد الخصال. مقطوع النظير فضلاً ونُبلاً، بلغ درجة عظيمة في البرّ والصلاح يستحق عليها المدح والثناء، إذ وصفه السيِّد بالقول المأثور: “لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان” (مت 11: 11) ولكن رغمًا عن كل هذا لم يكن المعمدان من فوق، بل كان أرضيًا مثله مثلنا.
فترون إذن أن تلاميذ يوحنا إذ لم تتطهَّر قلوبهم بعد من أمراض اليهود الوبيلة، نسبوا ليوحنا ما رأوه في المسيح من قوّة إلهيّة… أما يوحنا فقد أدرك مكانة المسيح السامية، وسُِرَّ كل السرور بالإشارة إلى مجد السيِّد العظيم، وحتى يطهِّر يوحنا قلوب تلاميذه من أدران الشكوك والريب، ويقرِّبهم إلى شمس البرّ إله المجد الرب يسوع المسيح، قبِل أن يتنكَّر يوحنا تحت زي الجهل والسذاجة، وأوفد رسله إلى المسيح ليسألوه: “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر”.]

الآن نتساءل: لماذا أورد الإنجيلي لوقا هذه الإرساليّة بعد ذِكره شفاء عبد قائد المائة وإقامة الشاب ابن أرملة نايين؟
إن كان قائد المائة يمثِّل الغرباء الذين اِحتضنهم الصديق السماوي بحبِّه نازعًا عنهم موت الخطيّة، وإن كانت الأرملة تشير إلى قبول السيِّد المسيح للأرامل والمساكين أصدقاء له، يرُدّ لهم بهجة خلاصهم، فالآن إذ يلتقي بتلميذيّ يوحنا، ويصطادهم في شباك محبَّته، يُعلن شوقه لاقتناء الشعب اليهودي للتلمذة له. فيوحنا يمثِّل الناموس، وتلميذاه أو إرساليته تشير لتلاميذ الناموس أو الذين تحت الناموس. بعث يوحنا تلميذيه ليعلن أن “غاية الناموس هي المسيح” (رو 10: 4). وقد بعث تلميذين، إذ رقم 2 يشير إلى المحبَّة. فإنَّنا لن نلتقي بمسيحنا خلال الناموس بدون المحبَّة!

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يوحنا يمثِّل الناموس، كان من الطبيعي أن هذا الناموس الذي يتكلَّم عن المسيح وقد صار سجينًا في قلوب المؤمنين، ووُضع في الحبس أن يفتقر للنور، فقد قاسى عذابات خلف قضبان عدم الفهم، لهذا فهو لا يقدر أن يسير إلى النهاية كشاهد للمقاصد الإلهيّة ما لم تسنده بشارة الإنجيل… لذلك بعث يوحنا اثنين من تلاميذه ليزداد معرفة، لأن المسيح هو كمال الناموس… وكان التلميذان رمزًا لشعبين، آمن الأول لأنه من اليهود، وأمن الثاني حينما سمع لأنه كان من الأمم.]

أما موقف السيِّد المسيح تجاه هذه الإرساليّة فقد اِنصبَّ على الكشف عن أعمال محبَّته الفائقة، تاركًا أعماله تجيب كل تساؤل.
يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ يعرف المسيح غاية يوحنا، لم يقل: “أنا هو”… وإنما تركهم يتعلَّمون خلال أعماله… فإنَّهم بالطبع يحسبون شهادة أعماله أكثر تأكيدًا فوق كل شك عن شهادة الكلمات.]
ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يؤمن الإنسان كل الإيمان بشهادة الأعمال أكثر من دعوة الكلمات.]

يوحنا كمُمثِّل الناموس والنبوَّات أرسل التلميذين، أما السيِّد المسيح فدخل بهما إلى العمل الإلهي عينه، ليقولا مع الرسول يوحنا: “الذي رأيناه بعيُّوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1 يو 1: 1).
قدَّم لهما الأعمال التي طالما تنبَّأ عنها الأنبياء، إذ قال لهما: “إن العمي يُبصرون، والعرج يَمشون، والبرص يُطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لمن لا يعثُر فيّ” (لو 7: 22-23). وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [هذه هي الشهادة الكاملة التي بها يمكن معرفة الرب من أجل النبوَّة التي خُصِّصت لشخصه وليس لآخر: “المعطي خبزًا للجياع، الرب يطلق الأسرى، الرب يفتِّح أعين العميان، الرب يقوِّم المنحنين” (مز 146: 7-8)، “الذي يفعل هذا يملك إلى الأبد”. إذن فعلامات السلطان الإلهي لا البشارة (بالعمل لا بالكلام) فهي تجعل ظلمة الليل الذي لا ينتهي تنقشع عن أعين العميان، فينالوا شفاءً عندما يُسكب النور على جراحات أعينهم الفارغة، ويجعل الصم يسمعون، وتقوم الأيدي المسترخية والرُكَب المخلَّعَة، وينجذب الأموات إلى النور، وتنبعث منهم قوّة الحياة.]

حذرهما السيِّد بقوله: “طُوبى لمن لاَ يعثُر فيّ“، لأن الصليب قادم، هذا الذي فيه يتعثَّر كثيرون، كقول الرسول بولس: “فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوّة الله” (1 كو 1: 18). فإنَّ كان السيِّد قد جاء ليفتح الأعين على معاينة أسراره والآذان لسماع صوته الإلهي، ويطلق النفوس من أسر الخطيّة، ويطهِّرها من النجاسة الداخليّة، ويُقيم النفوس من الموت، فإنَّ ثمن هذا كله “الصليب” الذي هو “لليهود عثرة ولليونانيِّين جهالة” (1 كو 1: 23).

شهادته عن يوحنا

إذ فرح يوحنا أنه ينقص بينما السيِّد المسيح يزداد (يو 3: 30)، بعث بإرساليته بهدف سحب كل تلاميذه إلى التلمذة على يديّ المخلِّص نفسه. لم يقلِّل هذا العمل من شأن يوحنا المعمدان، بل بالأكثر وقف السيِّد المسيح نفسه يمجِّده متحدّثًا مع الجموع عنه، هكذا:
“ماذا خرجتم إلى البريّة لتنظروا،
أََقَصَبة تُحرِّكها الريح؟
بل ماذا خرجتم لتنظروا أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟
هوذا الذين في اللِباس الفاخر والتنعُّم في قصور الملوك.
بل ماذا خرجتم لتنظروا؟
أنبيًا! نعم أقول لكم وأفضل من نبي…” [24-26].

في دراستنا لإنجيل معلمنا متَّى (لو 11: 7-14) قدَّمنا الكثير من تعليقات الآباء في هذا المديح الربَّاني، لذا أكتفي بعرض بعض التعليقات الأخرى: مكملاً ما سبق عرضه:

أولاً: رأينا أن السيِّد المسيح لم يمدح القدِّيس يوحنا في حضرة تلميذيه، بل بعد رحيلهما حتى لا يبدو متملِّقًا. ليتنا نحن أيضًا لا نهتم بمديح الآخرين في وجوههم، بقدر ما نمدحهم من ورائهم، فنظهر بالحق محبِّين لهم بلا رياء ولا بهدف زمني لنوال مكافأة أدبيّة أو ماديّة.

ثانيًا: يقدِّم لنا القدِّيس كيرلس الكبير تفسيرًا لمدح السيِّد المسيح القدِّيس يوحنا المعمدان يختتمه بإعلان أن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه؛ بأن السيِّد المسيح انتقى هذا القدِّيس بكونه أعظم من نال برّ الناموس، فهو أفضل مَنْ ولَدَتْه امرأة من بين اليهود، نبي فاق غيره من الأنبياء، شهد عنه ملاخي النبي (3: 1) أنه ملاك الرب. ومع هذا فإنَّ قورنت هذه العظمة التي في الناموس ببشارة الإنجيل حُسبت كلا شيء، فخلال الناموس مهما جاهد الإنسان يبقى “من مواليد النساء”، أما عطيّة العهد الجديد فترفعنا فوق اللحم والدم لننال البنوَّة لله.

فيما يلي مقتطفات من كلمات القدِّيس كيرلس السكندري في هذا الشأن:
[كان غرض المسيح مخلِّص العالم من كلامه إذن بيان ما في الناموس من فضل وميزة، ولكن رغمًا من مزاياه وخصائصه… ليس له في ميدان البنيان الروحي شأن يقربه له. أما نعمة الإيمان بالمسيح ففيها ضمان البركات والخيرات، فيها من القوّة ما يتوج الهامات بأكاليل لا نهاية لجمالها وحسنها…
هذا ما نتعلَّمه من دراسة أقوال بولس المغبوط، فقد أعلن أنه قد تحرَّر من جهة البِرّ الذي في الناموس فكان بلا لوم، ومع كل ذلك يصرخ قائلاً: “لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربِّي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح” (في 3: 7-8). وقد اِعتبر بولس الإسرائيليِّين جديرين باللوم والتقريع بقوله: “لأنهم إذ كانوا يجهلون بِرّ الله، ويطلبون أن يُثبتوا بِِرّ أنفسهم لم يخضعوا لبِِرّ الله، لأن غاية الناموس هي المسيح للبِرّ لكل من يؤمن به” (رو 10: 3-4). ويقول في موضع آخر: “نحن بالطبيعة يهود، ولسنا من الأمم الخطاة، إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرَّر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرَّر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس” (غل 2: 15).
وعليه فكل من يؤمن بالمسيح يحظى بأمجاد تفوق أمجاد البِرّ الذي يمنحه الناموس، ولهذا اِعتبر المعمدان في موضع من بِرّ الناموس لا يدانيه فيه أحد غيره، ولكن اُعتبر من جهة أخرى أصغر بكثير من أصغر إنسان في ملكوت السماوات، والمراد بملكوت السماوات كما ذكرنا آنفًا نعمة الإيمان بالمسيح، فبها نصبح جديرين بكل بَركة روحيّة تأتي من فوق من الله أبينا، لأنها هي التي تحرِّرنا من كل لوم وتمنحنا حق البنوَّة لله، وتجعلنا شركاء في موهبة الروح القدس ووارثين للكنز السماوي…
يصف السيِّد يوحنا أنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه. وكيف كان ذلك؟ إليك الجواب: فإنَّ يوحنا كان مثْل الآخرين الذين سبقوه، تُنسب ولادته إلى امرأة، أما أولئك الذين قبلوا الإيمان بالمسيح فليسوا أبناء نساء بل أبناء الله على حد قول الإنجيلي الحكيم: “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو 1: 12-13). لقد أصبحنا أبناء الله العليّ، “مولودين ثانية لا من زرع يفنَى، بل ممَّا لا يفنَى بكلمة الله الحيّة الباقية إلى الأبد” (1 بط 1: 23). إذن كل من وُلد لا من زرعٍ فانٍ، بل من كلمة الله الباقية يفوق المولود من امرأة.
وهناك سبب آخر يجعل المولودين من كلمة الله أرقى من المولودين من النساء، وذلك لأن هؤلاء لهم آباء أرضيِّين، أما أولئك فلهم أب سماوي، لأن المسيح أخ لهم، فأصبحوا بنعمة الأخوة أبناء الله، إذ قال المسيح جهارًا: “ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات” (مت 23: 9). ويقول بولس الحكيم بحق مؤكِّدًا النظرية السابقة: “ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح اِبنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبَا الآب” (غل 4: 2). لأنه حالما قام المسيح وحطَّم جهنَّم، مَنح نعمة البنوَّة لكل من آمن باسمه، وكان في رأس القائمة تلاميذه المقدََّسون، لأنه “نفخ وقال لهم أقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم عليه خطاياه أُمسكت” (يو 20: 22-23). وبما أن هؤلاء التلاميذ أصبحوا شركاء في الطبيعة الإلهيّة إذ مُنحوا نعمة الروح العظيم السلطان، الكبير الشأن، لزم أن تكون لهم قوّة إلهيّة، وذلك بغفران خطايا بعض الناس وإمساك خطايا قوم آخرين.]

ثالثًا: إذ نركِّز على كلمات السيِّد المسح في مدحه للقدِّيس يوحنا نجده يبدأ هكذا: “ماذا خرجتم إلى البريّة لتنظروا؟ أقَصَبة تحرِّكها الريح؟ بل ماذا خرجتم لتنظروا أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟…” [24-25].
يتطلَّع الرب إلى العالم، وكأنه قد صار بريّة خربة بلا أشجار مثمرة، إذ أفسدت الخطيّة الخليقة من جنَّة مبهجة ومُشبعة إلى برِّيّة قفراء ومرعبة. هذه البرِّيّة امتلأت بقصب تلعب به الرياح، تميل به يمينًا ويسارًا، أما القدِّيس يوحنا المعمدان فإنَّه وإن كان قد نشأ في برِّيّة العالم كقَصَبةٍ، لكن خلال إيمانه بالمسيَّا المخلِّص ليس بالقَصَبة التي تحرِّكها رياح الهرطقات وتحطَّمها زوابع الشهوات الأرضيّة. إنه بحق تلك القَصَبة التي أمسك بها السيِّد المسيح ليجعل منها قلمًا ماهرًا، كعادة النُسَاخ قديمًا، إذ كانوا يستخدمون القَصَبة في الكتابة بعد تهيئتها لهذا العمل. هكذا كان يوحنا في يديّ المخلِّص القلم الذي يكتب به ليدعو الكل للتمتَّع بخلاصه.

في هذا يقول القدِّيس أمبروسيوس:
[ يشبِّه الرب هذه الحياة بالبرِّيّة غير المزروعة ولا منتجة، ليس بها ثمر بعد. يحذّرنا الرب من التشبُه بالذين ينتفخون، وترتبط أفكارهم بالأرضيِات، هؤلاء الذين ليس لهم فضيلة خفيّة، بل يتباهون بمجد هذا العالم الزائل. هؤلاء إذ يتعرَّضون لرياح هذه الحياة وتقلُّباتها يضطربون. لهذا يُشَبَّهون بالقََصََبة، لأنهم بلا ثمر بِر حقيقي، لكن لهم الزينة العالميّة…
لكن إن اقتلعت القصبة من الأرض وشذبتها من كل شائبة، أي خلعت الإنسان القديم وأعماله (كو 3: 9) وسلمتها لتمسك بها يّد كاتب ماهر ليكتب بها بسرعة، إن فعلت هذا ينتعش هذا القلم وصايا الرب في أعماق قلبك، على ألواح قلب لحميّة (2 كو 3: 3)، فقد قيل عن هذا القلم: “لساني قلم كاتب ماهر” (مز 45: 1). [

إن كنَّا مغروسين في البرِّيّة كقَصَبة مرضوضة تلعب بها الرياح، فلنُسلِّم حياتنا في يديّ ذاك الذي قيل عنه: “قَصَبة مرضوضة لا يقصِف” (إش 42: 3)، فإنه يقتلعنا من أرض هذه الحياة ليغرسنا فيه كأعضاء جسده، محوّلاً حياتنا إلى قلمٍ ماهرٍ في يده، يغمسنا في دمه الطاهر مقدِّسًا أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا، فنصير بحق رسالة المسيح المكتوبة لا بحبر ولكن بروح الله الحيّ (2 كو 3: 2-3).
مرة أخرى يقول: “بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟…”
يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لا يعظ الرب هنا عن الثياب بالرغم من أن كثيرين يتشبَّهون بالنساء في تحلِّيهم بالثياب الناعمة… لكن يبدو أن الرب يشير إلى ثياب أخرى، إن لم أخطئ التقدير ألا وهي الأجساد البشريَّة التي ترتديها الروح، لهذا غُمس قميص يوسف بالدم (تك 37: 31) مثل جسد المسيح…
اللِباس الناعم هو أعمال الشهوة وعاداتها، لهذا يحثّنا الرسول أن نخلع الإنسان القديم لنلبس الجديد (كو 3: 9).]

لم يلبس يوحنا اللباس الناعم كالذين يعيشون في القصور، أي لم يسلِّم جسده للشهوات والملذَّات والعادات الرديئة كمن أُسروا في قصر إبليس، إنما تقدَّس جسده مع نفسه لحساب مملكة الله!
يكمل السيِّد المسيح مديحه، قائلاً: “بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًا؟ نعم أقول لكم، وأفضل من نبي، هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك”.
هكذا يؤكِّد السيِّد المسيح أن يوحنا نبي بل وعظيم بين الأنبياء، وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير على لسان السيِّد: [نعم لأنه قدِّيس ونبي، إلا أنه نبي يفوق الأنبياء الآخرين مكانةً ونبلاً، لأنه لم يعلن فقط عن مجيئي بل أشار إليّ… وصرخ قائلاً: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم” (يو 1: 29).]

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [نعم وأعظم من نبي، إذ به ينتهي عصر الأنبياء. وهو أعظم من نبي، لأن كثيرين اشتهوا أن يروا (مت 13: 7) ذاك الذي تنبَّأ عنه يوحنا وعاينه وعمده… إنه أعظم من الذين تساوى معهم في الميلاد، أما طبيعة الرب فمُغايرة، ولا تقارَن بميلاد بشري، ولا وجه للمقارنة بين الإنسان والله. ]

إذ مدح السيِّد المسيح ملاكه يوحنا المعمدان أوضَح قوّة الكرازة بالإنجيل، فإنَّ يوحنا مع ما بلغه من عظمة إذ دعاه “أعظم مواليد النساء” لكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه، إذ مثّل يوحنا عهد الناموس، أما رسالة الإنجيل فقدَّمت “النبوَّة لله”، خلالها ينعم المؤمن بما هو أعظم ممَّا ناله رجال العهد القديم.

وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح

تذكار مديح مار يوحنا المعمدان

ان الكنيسة الشرقية تخصّص يوم 7 كانون الثاني بمديح مار يوحنا المعمدان، وقد استحق هذا المديح بعد ان عمد يسوع. فما من انسان شَهِد له الله نفسه كيوحنا المعمدان، كما ان الانجيليين ايضاً قد افاضوا بمدحه. فالقديس لوقا يقول: ان امه العاقر حبلت به بعد ان بشر الملاك جبرائيل اباه زكريا. وقد باركه يسوع وهو جنين، اذ قالت امَّه لمريم:” مذْ بلغَ صوتُ سلامكِ أذُنيَّ، ارتكض الجنين بفرح عظيم في بطني” ( لو 1: 44) ونسك يوحنا منذ حداثته في البرية، لباسه من وبر الإبل وعلى حَقوَيه منطقةٌ من جلد. طعامه الجراد وعسلُ البرّ.
👈 وكان نبياً، اذ تنبأ على المسيح قائلاً:
” سيأتي من هو اقوى مني وهو يعمدكم بالروح القدس والنار”.
👈 ودعاه المسيح ملاكاً بقوله:” هذا هو الذي كُتب عنه: هانذا أرسل ملاكي امام وجهك. وقال للجمع: *ماذا خرجتم تنظرون في البرية؟ انبياً؟ نعم اقول لكم انه اعظم من نبي”.
☝لانه دلَّ على المسيح بالاصبع قائلاً: هذا هو حمل الله.
👈وهو رسول لان الله ارسله لينهج الطريق امام ابنه.
👈وهو مبشر لانه وعظ الناس وبشَّرهم بالمسيح.
👈 بل هو اعظم من رسول لانه عمّد يسوع رب الرسل.
👈وهو معترف لانه اعترف بانه ليس هو المسيح بل هو رسول امامه وان المسيح هو ابن الله.
👈 وهو كاهن لانه من النسل الكهنوتي، ولانه عَمَّد وخدم رأس الكهنوت ومبدعه.
👈 وهو شهيد لانه قُطعَ رأسه في السجن ارضاءً لتلك الفاجرة هيروديا. وحسبُه ان المخلص ☝ له المجد قال عنه:
” انه لم يَقُمْ في مواليد النساء اعظم من يوحنا المعمدان” (متى 11:11). وكان استشهاده نحو السنة الثلاثين للميلاد. صلاته معنا. آمين. 🙏