14 عاما من الحرب انتهى فيها نظام سياسي وظهر آخر، ولم تعد سوريا مجرد ساحة قتال تقليدية، بل تحوّلت إلى مختبرٍ للعنف المُمنهج، حيث تتداخل التكتيكات العسكرية الحديثة مع فوضى السلاح، وتكشف تقارير شباط 2025 عن مقتل 222 مدنيا خلال شهر واحد، فالعنف لم يتوقف بل تحول مع السلطة الجديدة ليصبح أكثر تعقيداً، وأنتج ديناميكيات خفية جعلت من العنف جزء الشرعية، وظاهرة أيضا لصراع النفوذ على سوريا.
وجوه العنف المتعددة… من الفوضى إلى الاستراتيجية
يتحول العنف في سوريا بشكل سريع ليصبح استراتيجية للنظام السياسي الناشئ، ويؤشر على أن طبيعة التحالف الذي أنتج “هيئة تحرير” يصعب التحكم به مركزيا وعبر سلطة دولة ومؤسساتها، فهذا التحالف الذي أدار خلال فترة استثنائية محافظ إدلب السورية (شمال غرب) وجد نفسه أمام حالة معقدة ولم يستطع سد الفراغ الذي خلفه سقوط سلطة البعث، وتعطيل المؤسسات السيادية مثل الجيش وجهاز الشرطة.
عمليا يختلط العنف مع أداء السلطات الجديدة، فهي مازالت تستند إلى مليشيات تعتبر خليطا متعدد الجنسيات، وينتشر على الجغرافية السورية دون أن يتبع لـ”ثقافة الدولة”، ويتعامل مع النسيج الثوري بمنطق “المنتصر” وليس بشرعية الدولة، وهذا ما يجعل العنف أكثر تعقيدا وتشعبا.
الألغام: إرث دموي ينتظر الضحايا
ربما لا تشكل الألغام نتيجة مباشرة لظهور سلطة جديدة في سوريا، لكنها تبدو غائبة أو منسية خصوصا مع انتهاء الجبهات السابقة مع سقوط السلطة السياسية في دمشق، فالألغام مزروعة في مناطق زراعية وحضرية لشلّ الحياة الاقتصادية (مثل انفجار لغم في كفرنايا أثناء محاولة مزارع إزالته)، وضحاياها بلغت خلال شهر شباط 48 ضحية (21.6% من الإجمالي)، و “المنطق الخفي” من نشرها تُحوّيل الأراضي إلى مصائد موت دائمة، مما يدفع السكان للنزوح القسري، ومع عدم وجود خرائط دقيقة، ستستمر الألغام في القتل لعقود.
الرصاص المجهول: سلاح الفوضى والإنكار المنظم
أحد أهم أشكال العنف السائدة حاليا هي إطلاق الرصاص بشكل عشوائي خلال تحرك “القوى الأمنية” أو الميليشيات المتحالفة معها لتنفيذ بعض المهام، ويُستخدم الرصاص المجهول لخلق رعب جماعي دون مساءلة (مثل اغتيال مهندس وزوجته في طرطوس) وراح ضحية هذا الرصاص 62 مواطنا (27.9%)، وطبيعة العمليات التي يتم فيها إطلاق الرصاص تغيب عنها هوية الفاعلين، فحتى تحركات “الأمن العام” تتم عبر عناصر ملثمة، ووفق وتيرة العنف لهذا الرصاص سترتفع الوفيات بهذه الطريقة بحدود 35% عن معدلها الحالي بحلول 2026 مع تصاعد صراعات الفصائل.
التفجيرات والمجازر: هندسة الرعب
تعاني المدن السورية من التفجيرات والمجازر، فالسيارات المفخخة تطال مناطق التماس في الشمال السوري، بينما تظهر المجازر في الأرياف عموما، فالتفجيرات العشوائية تستهدف أسواق مكتظة (مثل انفجار منبج) لتعظيم الخسائر، أما المجازر فتطال عائلات كاملة كمجزرة طريق M4 التي أودت بحياة 20 مدنياً، وبالأجمال فإن هذا الحوادث في شهر شباط الجاري أودت بحياة 42 شخصا نتيجة تفجيرات و38 مواطنا من خلال المجازر، والهدف الخفي هو تفتيت التماسك الاجتماعي عبر زرع الخوف.
التعذيب: آلة القمع التي لا تتوقف
السجون والمعتقلات نشطت أيضا رغم الحديث الإعلامي عن “تبييض السجون” وضحايا شهر شباط المعلن عنهم بلغ 9 أشخاص، 7 منهم على يد قوات الأمن، ومسألة المعتقلين ماتزال غامضة في سياسة السلطة الجديدة نظرا لعدم وجود جهات رسمية يمكن مراجعتها في أي قضية اعتقال فردي أو جماعي بعد مداهمة أحياء بكاملها.
الصورة الكاملة لسوريا يصعب رسمها اليوم عبر وسائل الإعلام فقط، لأن الحدث السوري جاء في سياق انهيار إقليمي، ونتج عنه حالة من إغفال أو تجاوز الواقع الذي ظهر بعد سقوط سلطة البعث، وهو واقع مازالت شرعيته قائمة على فرض الأمر الواقع، ومحاولة بناء سردية خاصة عن مقارعة “فلول النظام”.
