عَ مدار الساعة


المرحلة الانتقالية السورية بين الوعد الدستوري ومخاطر الاستنساخ السياسي

ظهر الإعلان الدستوري في سوريا في مرحلة حرجة، فبغض النظر عن الإجراءات السريعة التي حكمت اجتماعات الحوار الوطني، وطبيعة اللجنة التي تم تشكيلها، والأهم إغفال التاريخ الدستوري لسورية، فإن الإعلان جاء وسط المخاوف بعد مجازر الساحل السوري، والتساؤلات حول مدى قدرة هذا الإعلان على تحقيق انتقال حقيقي، خاصة في ظل عملية سياسية غامضة لأبعد الحدود، وحكومة انتقالية أحدثت تحولات مفصلية في تركيبة الدولة بعد أن وضعتها في “موقع الشك” وبدأت بتغيير بنيتها.

قراءة في الإعلان الدستوري… بين النص والسياق

السلطات المركزية التي ظهرت في الإعلان تُكرس هيمنة نظام سياسي أبعد ما يكون عن الديمقراطية، فالسلطة التشريعية التي يعين رئيس الجمهورية ثلث أعضائها ومن غير المعروف كيف سيتم تعيين باقي الأعضاء، ودور الرئيس في إقرار القوانين دون سلطة رقابة حقيقية على التنفيذ هو نموذج يُشبه “المجالس الشكلية” في الأنظمة الشمولية، كما في مصر ما قبل 2011، حيث تُدار السلطة عبر نخبة مُغلقة.

بالنسبة للسلطة التنفيذية فإن الرئيس يجمع بين منصبه القيادي ورئاسة الجيش، مع صلاحيات واسعة مثل حق الاعتراض على القوانين، وهذا التركيز يُذكر بنموذج روسيا ما بعد السوفيتية، حيث تحولت الديمقراطية إلى “استبداد انتخابي” تحت حكم بوتين، وأما السلطة القضائية ورغم النص على استقلال القضاء فإن أحد المواد تمنح “المجلس الأعلى للقضاء” – الذي يُسيطر عليه النظام بحكم صلاحيات الرئيس – صلاحية حل محاكم الإرهاب وإدارة آثارها، مما يفتح الباب لتسييس القضاء. 

الحقوق والحريات: خطابٌ تقدّمي في إطارٍ تقليدي

نص الإعلان الدستوري على “تشكيل لجنة لإعداد قانون الأحزاب”، لكنها تُعلق النشاط الحزبي حتى يُنظم القانون، وهو ما سيؤجل التعددية إلى ما لا نهاية، كما حدث في الجزائر خلال التسعينيات، كما تُلزم أحد مواد الإعلان الدولة بـ”محاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا”، لكن غياب آليات واضحة (كلجان مستقلة أو محاكم مختلطة) يجعلها حبراً على ورق، كما في العراق ما بعد 2003، حيث فشلت المحاكم في تحقيق مصالحة وطنية، وبالنسبة للمرأة و”الأقليات” فرغم النص على المساواة وحماية المرأة، فإن المادة التي تُعلي من شأن الفقه الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع تهدد حقوق “الأقليات الدينية” والمرأة، كما في إيران بعد الثورة، وبالنسبة للاقتصاد نص الإعلان على “منع الاحتكار”، لكن غياب ضوابط شفافة لتنظيم الاستثمار يُكرس هيمنة طبقة رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة السياسية، كما حدث في مصر بعد 2013، حيث تحكمت النخبة العسكرية في الاقتصاد.

المرحلة الانتقالية السورية… مقارنة بتجارب عالمية

مقارنة بجنوب إفريقيا التي حققت انتقالا ناجحاً خلال 4 سنوات (1990–1994) عبر تفاوضٍ شامل بين النظام والفصائل المُعارضة، مع إنشاء “لجنة الحقيقة والمصالحة”، فإن الإعلان الدستوري يفتقر إلى مشاركة التشكيلات السياسية في صياغة الدستور أو تشكيل المجلس التشريعي، وبعكس تجربة جنوب إفريقيا لا توجد قيادة توافقية فهيمنة رئيس الجمهورية تعكس غياب “روح مانديلا” القادرة على تجاوز الانقسامات.

من جانب آخر يمكن النظر أيضا إلى التجربة التونسية التي نجحت في اعتماد دستور تقدمي (2014) عبر حوارٍ بين الإسلاميين والعلمانيين، لكنها تعثرت لاحقا بسبب الأزمات الاقتصادية، والفارق الجوهري مع سوريا هو دور الجيش التونسي الذي حافظ على حياده، بينما الجيش السوري الذي يتم تشكيله مازال يثير أسئلة حول وجود عناصر أجنبية فيه، إضافة لواقع الفصائل المسلحة التي أثبتت المجازر في الساحل أنها لمتحل نفسها بعد، يُضاف إلى ذلك تمتع النشطاء التونسيون بحرية نسبية، بينما تم استبعاد المجتمع المدني في سوريا من كافة الإجراءات التي سبقت الإعلان الدستوري.

خمس سنوات انتقالية… بين الفرص والمخاطر

تشير الدراسات إلى أن المراحل الانتقالية القصيرة (1–5 سنوات) معرضة للانتكاس إذا غاب الإجماع الداخلي، كما في مصر (2011–2013). في سوريا، يُضاعف من هذا الخطر استمرار نفس المجموعات السياسية والعسكرية التي كانت موجودة في أدلب، واحتفاظ الرئيس الانتقالي بصلاحية مطلقة منها تعيين ثلث مجلس الشعب.

ورغم أن الإعلان الدستوري السوري يحتوي على بنودٍ كانت موجودة في الدساتير السابقة، لكن “الهيمنة” لاتجاه واحد على السلطات وتهميش الاتجاهات السياسية والفئات الاجتماعية يُنذر بأن الانتقال يشكل مسار لإنتاج “نخب سياسية” متراكبة مع السلطة الحالية وتواجهها الإسلامي الراديكالي، والسؤال الأكبر يبقى: هل تملك السلطة الانتقالية إرادة حقيقية للتغيير نحو المسار الديمقراطي، أم أن هذا الإعلان الدستوري مجرد غطاء لاستمرارها؟