كانت لحظة فارقة لكنها متوقعة فالساحل السوري نقطة ارتكاز لسوريا، وخلال أقل من أربع وعشرين ساعة انتهت المصطلحات التي رافقت سقوط سلطة البعث، فالدخول السلمي لـ”هيئة تحرير الشام” لمعظم المناطق السورية شكل وهما على المستوى السياسي، لأن نهاية الأنظمة في الحروب لا يمكن أن تسير بنفس الطريقة التي حدثت في سوريا، خصوصا أن “الهيئة” تكوين يصعب التنبؤ بتصرفاته.
السرعة التي انبثقت منها الشرعية الجديدة كانت تحتاج إلى ارتكاز سياسي بعيد كل البعد عن التكوين الذي ظهر في أدلب، ثم انطلق ليسيطر على السلطة في دمشق، وخلال الأشهر الثلاث الماضية كانت التوقعات أكبر بكثير من الحجم السياسي الذي وفرته القوة التي سيطرت على سوريا، والاحتضان الإقليمي والدولي عبر عن مخاوف من انهيار النظام وليس تأييدا لـ”الهيئة”، فهو احتواء سياسي لدرء المخاطر؛ رافقه سردية عن بدايات لظهور منظومة إقليمية، لكن السيناريوهات السورية كانت ضيقة في ظل “الشح” السياسي الذي ظهر سريعا.
عندما تصبح الجغرافيا أداة للحرب
منذ أن شكلت القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى سوريا الجديدة كان وضع الساحل مختلفا، لأنه أهم المرتكزات الجيوبوليتيكية في الجغرافية السورية، فهو شهد الحضور العسكري الفرنسي بشكل مبكر، ولاحقا تحول الساحل إلى شريط لإعادة رسم سوريا ليس فقط خلال الانتداب بل في كافة مراحل الحكم الوطني، فهو الشرط لبقاء الدولة كونه المنفذ البحري الوحيد للدولة.
سكانيا شكلت تلك المنطقة الخزان البشري لكافة الأحزاب التي ظهرت، فعلاقته بالحياة السياسية لم ترتبط بحقبة معينة، وهو ما جعل أحداث الساحل الحالية مسألة تتجاوز مسألة محددة والمجازر الدامية التي شهدتها المنطقة في آذار 2025 لم تكن مجرد امتداد للحرب ضد “فلول النظام”، بل مثلت نقطة تحول مفصلية أعادت رسم الخريطة الديموغرافية والعسكرية للمنطقة.
“الجغرافيا تُصنع بالدم” حسب الباحث الجيوبولتيكي إيف لاكوست، والعنف الذي يجري اليوم سيؤدي إلى إعادة توزيع السكان، وتغيير موازين القوى، وتحويل الساحل السوري إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية معقدة.
لماذا الساحل السوري؟
لفهم الأحداث الأخيرة، لا بد من تحليل الأهمية الجغرافية للساحل السوري، فهو ليس مجرد منطقة “لفلول النظام” حسب البيانات الرسمية، بل يملك ثلاث أبعاد أساسية تجعله نقطة الارتكاز للعمق السوري، فحتى لو جرى “تقسيم” سوريا فإن الشريط الساحلي سيبقى الحالة المسيطرة على الكتلة الصلبة لسورية الواصلة من دمشق إلى حلب، والبوابة البحرية التي تمنح أي كانتون افتراضي للاستمرار، ويمكن ملاحظة هذه الأبعاد في:
- البُعد الاقتصادي: فالساحل شريانا اقتصاديًا رئيسيا، حيث يضم موانئ طرطوس واللاذقية، التي كانت نقاط ارتكاز هامة لحركة التجارة والإمدادات، ومصفاة نفط أساسية تعبر منها الطاقة إلى سوريا، وفي نفس الوقت فهو النافذة نحو العالم على الأقل في ظل التكوين السياسي الحالي الذي يجعل من الموانئ اللبنانية نقاط عبور بتعقيدات إدارية وسياسية.
- التركيبة الديموغرافية: سكن الساحل تاريخيا مجتمع مختلط يتقن تماما ثقافة التعايش، وذلك بسبب أنه كان نقطة التماس مع الآخر سواء عبر الحملات العسكرية أو التجارية، فالساحل منخ سوريا خصوصا في مرحلة الدولة الحديثة ثقافة “الدولة البحرية” التي تملك وفرة في رؤيتها للعلاقات السياسية والاجتماعية.
- الموقع الدفاعي: وفرت الجبال الساحلية تحصينات طبيعية ضد الاختراقات العسكرية، فهو نقطة التماس التي حمت الداخل السوري على امتداد التاريخ، وبغض النظر عن التوصيفات الإعلامية التي جعلته قاعدة للسلطة السياسية، في المقابل أتاح للسلطة المركزية إقامة الارتكاز إلى طبيعته في تأسيس البنية التحتية الدفاعية.

مجزرة 6 آذار: الشرارة التي أشعلت الفوضى
مع بزوغ فجر 6 آذار 2025، اجتاحت قوات تابعة لـ”فيلق الشام” قرى في ريف اللاذقية، مُرتكبة واحدة من أعنف المجازر في الحرب السورية، وأسفرت العملية عن مقتل آلاف المدنيين، فيما ردَّ النظام بقصف عشوائي أدى إلى دمار واسع، محولا ريف اللاذقية إلى منطقة منكوبة.
البُعد الجيوبوليتيكي للمجزرة:
- الموقع: تركزت الهجمات على القرى التي تُشكل خطا فاصلًا بين الساحل والداخل السوري.
- الهدف: تغيير التركيبة السكانية وخلق “حزام أمني” جديد.
- التوقيت: جاء بالتزامن مع انسحاب جزئي لقوات أجنبية، ما أحدث فراغا أمنيا استغلته الفصائل المتنافسة.
الآثار الجغرافية: كيف تغيَّرت الخريطة؟
- التغيير الديموغرافي: النزوح والتطهير العرقي
- نزوح جماعي: توضح تقارير المنظمات الحقوقية هروب أكثر من 50 ألف مدني من الريف ومن المدن، خصوصا باتجاه عكار اللبنانية، إضافة لنزوح نحو قاعدة حميميم التي تتواجد فيها القوات الروسية، ومن المتوقع نوح المزيد ليس بسبب الخوف من المجازر فقط إنما لفقدان مقومات الحياة بعد إحراق المنازل والممتلكات.
- إعادة التوطين: بدأت ميليشيات موالية لقوى خارجية بإسكان عائلات موالية لها في القرى المهجَّرة، ويعتبر هذا هو الانتشار الثاني لهذه المجموعات التي استوطنت في قرى أدلب ومحيطها منذ 2014، وهذا التهجير القسري وإعادة رسم الديموغرافيا حصل سابقا في التغيرات الاستراتيجية الكبرى خلال السيطرة العثمانية وقبلها في الغزوات الصليبية.
- التداعيات: تحولت المنطقة من مجتمع متجانس إلى واقع يصعب تصوره حاليا، فالانزياحات السكانية على تؤثر على المنطقة التي شهدت المجازر بل تعيد تكوين الثقافة الاجتماعية، والعلاقات بين المركز (دمشق) والأطراف.

- إعادة رسم خطوط السيطرة العسكرية
الاحتمال الأقوى هو أن تؤدي تلك المجازر إلى تغيير في توازنات القوى، فالروايات تتحدث عن اشتباكات ولو محدودة بين عناصر الأمن العام (تابعة للسلطة في دمشق) والميليشيات التي تم استدعاؤها من أدلب لعمليات المساندة، هذه المعارك هي محاول للحد من توسع المجموعات المسلحة، في قامت تركيا بتكثيف وجودها في محيط حلب لسد الفراغ الذي خلفه انتقال هذه المجموعات نحو الساحل، وأدت المجازر إلى ظهور ثلاثة كانتونات عسكرية جديدة:
- منطقة نفوذ سلطة دمشق: تشمل المدن الساحلية الكبرى والموانئ.
- الشريط الحدودي الجديد: تسيطر عليه الميليشيات التي أصبحت داخل عمق الساحل.
- الجيب العسكري المستقل: الذي تسيطر عليه القوات الروسية في محيط مطار حميميم.
السياقات التاريخية: دروس من البلقان ولبنان والعراق
البوسنة والهرسك: هندسة التغيير الديموغرافي بالمجازر
شهدت حرب البوسنة في التسعينيات عمليات تهجير واسعة، حيث تم تفريغ مدن بأكملها من سكانها الأصليين بعد مذابح ممنهجة، كما حدث في سربرنيتسا عام 1995، اليوم، يبدو الساحل السوري وكأنه يسير في اتجاه مشابه، حيث يؤدي العنف إلى إعادة ترسيم الحدود السكانية على أسس طائفية.
لبنان: الحرب الأهلية وتقسيم بيروت
على غرار ما حدث في لبنان بين 1975-1990، حيث انقسمت بيروت إلى شرق مسيحي وغرب مسلم، بات الساحل السوري مقسما فعليا بين مناطق نفوذ مختلفة، في تكرار لأنماط الصراعات الطائفية في المنطقة.
العراق بعد 2003: العنف الطائفي والتغيير الديموغرافي
عقب الغزو الأمريكي، شهد العراق عمليات تطهير طائفي، خصوصا في بغداد، مما أدى إلى تغيير التركيبة السكانية بالكامل، الأمر ذاته يحدث في الساحل السوري، حيث تسعى القوى المتنازعة إلى إعادة هندسة المشهد الديموغرافي.
مستقبل الساحل السوري: هل نحن أمام تقسيم دائم؟
مع استمرار الفوضى، تبدو ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- الاستقرار المشروط: يتم التوصل إلى هدنة تُكرس الوضع الراهن، مع الحفاظ على توازنات النفوذ بين القوى المختلفة.
- تقسيم فعلي: يستمر الفرز السكاني والمناطقي، ما يؤدي إلى نشوء كيان مستقل غير رسمي على الساحل.
- إعادة الدمج القسري: تحاول الحكومة فرض سيطرة عسكرية شاملة، مما قد يؤدي إلى مزيد من العنف.
خاتمة: الجغرافيا تصنع التاريخ
كما أكد إيف لاكوست، “الجغرافيا ليست مجرد علم محايد، بل هي أداة للصراع”. المجازر التي وقعت في الساحل السوري لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل جزء من عملية إعادة تشكيل جغرافية المنطقة وفق توازنات جديدة. ويبقى السؤال: هل ستتمكن سوريا من تجاوز هذه الصفحة الدامية، أم أن الساحل سيظل شاهدا على مرحلة جديدة من التفكك الجغرافي؟ الأيام القادمة وحدها تحمل الإجابة.