📌 درس بالانسحاب من الخطر ليس خوفًا إنما للخدمة..
📌 لا يذهب لاستعراض أو لكسب شعبية ولا لإظهار نفسه للعالم وإنما ليحقق خطة الخلاص..
📌 ..لم يدينهم لأن أعمالهم متناغمة مع فكر العالم. أما هو فلن يهادن العالم، فالعالم لا يطيقه..
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٧: ١-١٠
١٤ وَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلَا مُبَشِّرٍ
١٥ وَكَيْفَ يُبَشِّرُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا كَمَا كُتِبَ مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ ٱلْمُبَشِّرِينَ بِٱلسَّلَامِ ٱلْمُبَشِّرِينَ بِٱلْخَيْرَاتِ.
١٦ وَلٰكِن لَيْسَ كُلُّهُمْ أَذْعَنُوا لِلْإِنْجِيلِ فَإِنَّ أَشَعْيَا يَقُولُ يَا رَبُّ مَنْ آمَنَ بِمَا سَمِعَ مِنَّا.
١٧ فَٱلْإِيمَانُ إِذَنْ مِنَ ٱلسَّمَاعِ وَٱلسَّمَاعُ بِكَلِمَةِ ٱللهِ.
١٨ لٰكِنِّي أَقُولُ أَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! فَقَدْ ذَاعَ صَوْتُهُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْأرْضِ وَأَقُوَالُهُمْ إِلَى أَقَاصِي ٱلْمَسْكُونَةِ.
١٩ لٰكِنِّي أَقُولُ أَلَعَلَّ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ وَقَدْ قَالَ مُوسَى أَوَّلًا إِنِّيْ أُغِيرُكُمْ بِمَنْ لَيْسُوا شَعْبًا بِقَوْمٍ أَغْبِيَاءَ أُغْضِبُكُمٍ.
٢٠ أَمَّا أَشَعْيَا فَأَقْدَمَ وَقَالَ إِنِّي وَجِدْتُ مِمَّنْ لَمْ يَطْلُبُونِي وَٱعْتَلَنْتُ لِمَنْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي.
٢١ وَقَالَ لِإِسْرَائِيلَ إِنِّي بَسَطْتُ يَدَيَّ ٱلنَّهَارَ كُلَّهُ نَحْوَ شَعْبٍ كَافِرٍ وَمُقَاوِمٍ.
عدم ظهوره علانية في اليهودية
“وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل،
لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية،
لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه”. (1)
أثار شفاء المفلوج في يوم السبت هياج القيادات الدينية (يو ٥: ١٦) فأرادوا قتله، إما بإثارة الشعب ضده أو إصدار حكم قضائي ضده. لذلك مال السيد المسيح إلى عدم الظهور علانية في أورشليم، مفضلاً التردد سيرًا على قدميه في الجليل. لم يكن هذا عن خوف من الموت، لأنه جاء ليموت عن البشرية، وإنما في حكمة حتى تحين الساعة.
استخدم الإنجيلي تعبير “يسير” والذي ترجم في العربية “يتردد”، ليقدم لنا فكرة عن الحياة التي عاشها السيد المسيح أثناء خدمته. كان لا يعرف موضعًا يستقر فيه في الخدمة، فقد كان قبلاً يتردد في اليهودية، يسير من بلد إلى بلد قبل مجيئه إلي الجليل، وهذه الفترة تمثل الجزء الأول من خدمته التي لم يشر إليها الإنجيليون الإزائيون الثلاثة. وسافر إلي الجليل سيرًا على قدميه دون أن يمتطي فرسًا أو حتى حمارًا. فكان ومن معه يسيرون معًا من موضع إلى آخر، وحيثما حل يصنع خيرات.
يقدم لنا السيد المسيح درسًا عمليًا في الانسحاب من الخطر، ليس خوفًا وإنما من أجل الخدمة، كما أوصى تلاميذه بذلك (مت ١٠: ٢٣). أما إذ دُعينا للشهادة من أجل اسمه ولم يكن يوجد مجال لترك الموضع فنحسب أنفسنا غير أهلٍ لبذل نفوسنا لأجل اسمه.
يعلق القديس كيرلس الكبير على هذه الآية، بأنه “بعد هذا”، أي بعد كل هذه الكلمات والأفعال التي صنعها يسوع صار يتردد بالأكثر في الجليل بكل سرور ولم يرد أن يتردد في اليهودية. لأن وجوده بين الجليليين (الأمم) ظهر أنه أفضل كثيرًا من الحياة مع إسرائيل، كما جاء في إرميا: “قد تركت بيتي، رفضت ميراثي، دفعت نفسي الحبيبة إلى أعدائي” (إر ١٢: ٧ LXX). يرى في طقس ذبيحة المحرقة حيث يُذبح الحمل ليس أمام المذبح على جانب الشمال (لا ١: ١٠، ١١)، وإنما كان المذبح متجها نحو الشرق، فيكون الحمل نحو اتجاه الجليل، كنيسة الأمم، إذ “عيناه تراقبان الأمم” (مز ٦٦: ٧).
وإن وجد ترحابًا في الجليل لكن الصليب كان يلاحقه أينما وجد، سواء في اليهودية أو الجليل أو في العاصمة أورشليم. ففي اليهودية كانوا يطلبون أن يقتلوه” (1). وفي الجليل مع كثرة معجزاته تركه أيضًا كثير من تلاميذه ولم يعودوا يسيروا معه. أما في أورشليم فقد كان الشغل الشاغل للقيادات الدينية هو الخلاص منه بأية وسيلة. لم يبالوا بحفظ الناموس بل طلبوا قتله (يو 7: 19)، وأرسل مجلس السنهدرين خدامًا ليمسكوه (يو7: 32)، وقد بثوا روح الرعب حتى لم يكن أحد يتكلم عنه جهارًا لسبب الخوف من اليهود (7: 13)، هذا وقد رفعوا حجارة ليرجموه (يو 8: 50)
حقًا لم يكن مندفعًا نحو الثائرين ضده، لكنه لم يتخلَ قيد أنملة عن رسالته وعمله الخلاصي، وإن كانت تكلفته عار الصليب.
قدم لنا الإصحاحان 7، 8 صورة حية عن مدى العداوة والحقد والضغينة التي كانت في قلوب القيادات اليهودية الدينية ضد شخص يسوع المسيح، ففي نظرهم شوّه صورة المسيا المنتظر. أرادوا المسيا الذي حسب هواهم البشري، وليس حسب خطة الله الفائقة.
كان شعب إسرائيل يمارس كراهية شديدة ضده، فكان في حالٍ أفضل وهو يعيش وسط أعدائه. جعل إقامته مع الذين أظهروا نحوه لطفًا أكثر مما وجده وسط أقربائه حسب الجسد، الذين كان يليق بهم أن يحبوه…
لا نحسب انسحاب المسيح ضربًا من ضروب الجبن، ولا نتهمه بالضعف، فهو القدير في كل شيء، وإنما نقبل هذا من قبيل التدبير الإلهي، لأنه يليق به أن يحتمل الصليب لأجل الجميع في حينه وليس قبل الأوان.
القديس كيرلس الكبير
ليس داء أشرّ من الحسد والحقد فعلى أساسه دخل الموت إلى العالم (حك 2: 24)، لأن إبليس لما أبصر الإنسان مكرمًا لم يحتمل حُسن حاله، فعمل كل ما أمكنه حتى قتله. وبالحسد ذُبح هابيل، وقارب داود أن يُقتل، وقُتل آخرون كثيرون من ذوي البر، وصار اليهود قتلة المسيح.
القديس يوحنا الذهبي الفم
قدم مثالاً لضعفنا. إنه لم يفقد قوته، لكنه يقدم راحة لضعفنا.
القديس أغسطينوس
حوار حول صعوده إلى أورشليم
“وكان عيد اليهود عيد المظال قريبًا”. (2)
عيد المظال: يحتفل في ١٥ تشري Tisri، أو تشرين الأول أو ليثام، ما بين النصف الأخير من سبتمبر والأول من أكتوبر، وهو الشهر السابع من السنة الدينية والأول من المدنية. أخذ العيد اسمه من المظال التي كانت تُقام بجوار الهيكل وفي الأماكن العامة والميادين وأسطح البيوت والحدائق حيث يسكن فيها اليهود لمدة ٨ أيام تذكارًا للأربعين عامًا التي عاشها آباؤهم في البرية. وهو أحد الأعياد الثلاثة الكبار التي كان يلتزم كل الرجال أن يصعدوا إلى أورشليم حسب الشريعة.
أهم سمات هذا العيد هو الفرح الشديد، والسكنى في المظال، وطقسه الفريد، الذي تميز بظاهرتين متكاملتين هما سكب الماء والإنارة. اعتاد اليهود أن يذهبوا إلى أورشليم قبل العيد بيومٍ، وكان بعضهم يذهب إليها قبل اليوم العاشر من الشهر ليشترك في عيد الكفارة، ويقيم هناك حتى يحتفل بعيد المظال فيه.
من جهة سكب الماء يذكر التلمود أنه ابتداء من اليوم الأول ولمدة سبعة أيام يخرج في الفجر موكبان عظيمان، أحدهما يتوجه لجمع أغصان الزيتون وسعف النخيل والأشجار الأخرى كالصفصاف والآس، ويربطونها معًا بخيوطٍ ذهبية أو فضية أو أشرطة. كانوا يحملونها طوال النهار ويأخذونها في المجامع، ويمسكون بها أثناء الصلوات. وفي الأيام التالية يحملونها معهم إلى الهيكل، ويسيرون بها حول المذبح، وهم يسبحون: “أوصنا، نطلب إليك خلصنا!” تُضرب الأبواق من كل جانب. ولعل القديس يوحنا كان يشير إلى هذا العيد وهو يتحدث عن نفوس الشهداء في الفردوس التي تحت المذبح (رؤ 6: 9) وقد أُعطيت سعف النخيل وهي تسبح: الخلاص لإلهنا…
أما ما يحسبه اليهود أكثر طقوس هذا العيد فرحًا فهو أن يتوجه الموكب الثاني إلى بركة سلوام ومعه رئيس الكهنة يحمل إبريقًا ذهبيًا ليغرف فيه الماء من البركة ويملأ الإبريق حيث يأتي به إلى الهيكل.
وكانت جماعات المرتلين ترافق الموكبين، ليعود الموكبان بين الهتافات والتسابيح المقتبسة بعضها من إشعياء ١٢ “هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص” (إش ١٢: ٢ – ٣). وقد اقتبست الكنيسة القبطية هذا النشيد “قوتي وتسبحتي هو الرب وقد صار لي خلاصا” لتترنم به في أسبوع البصخة باعتبار أن السيد المسيح قد أُخرج خارج المحلة، خارج أورشليم، ليقدم ذبيحة فصح لخلاص العالم. وكما يقول الرسول بولس: “لذلك يسوع أيضا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب؛ فلنخرج إذا إليه خارج المحلة حاملين عاره” (عب 13: 12-13). هذا الخروج تحدث عنه موسى وإيليا مع يسوع المسيح عند تجليه علي جبل تابور (لو 9: 30 الخ). هكذا ارتبط الصليب بعيد المظال حيث يخرج الكل من بيوتهم ويعيشون في المظال الزمنية استعدادا للدخول إلي الأحضان الإلهية أبديًا.
يصل الموكبان إلى الهيكل في وقت واحد، فتُقدم محرقة الصباح. ويقيم حاملو الأغصان مظلة جميلة على المذبح بينما يستقبل الكهنة رئيس الكهنة الذي يحمل الإبريق الذهبي بالنفخ ثلاثة في الأبواق. يصعد الكاهن على درج المذبح ومعه كاهن آخر يحمل إبريقًا آخر من الذهب به الخمر، فيسكبان سكيب المحرقة من الماء والخمر في طاسين من الذهب مثقوبين ومثبتين على المذبح، فينساب السكيب إلى أسفل المذبح، وكان الناس يستقون الماء بفرح من بركة سلوام في أيام العيد تذكارًا لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي وشرب آبائهم منها، متذكرين كلمات إشعياء النبي: “أيها الجياع جميعًا هلموا إلى المياه، والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا، هلموا واشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا”، “فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص” (أش 1:55؛ 3:12).
كان الصدوقيون يرون الاقتصار على سكب الخمر وحده دون الماء. ففي حوالي عام 95ق.م. كان رئيس الكهنة اسكندر بانياس من الصدوقيين قد سكب الماء على الأرض بعيدًا عن المذبح فثار ضده الفريسيون وأرادوا قتله، فقامت معركة بين الصدوقيين والفريسيين، وانتهت بنصرة الفريسيين، بعد أن قتل أكثر من ستة آلاف شخص.
على أي الأحوال إذ كان الماء والخمر يسكبان على المذبح تعزف موسيقى الهيكل وترنم مزامير الهليل (مز 113-118). وكانوا عندما يأتون إلى المقاطع التالية: “احمدوا الرب لأنه صالح”، “يا رب أنقذ”، “احمدوا الرب” (مز 1:118، 25، 29)، يلوح المتعبدون بالأغصان حول المذبح.
هذا ويظهر مدى ارتباط هذا العيد بالماء أن اليوم الثاني من العيد كان يسمى “الاحتفال الأصغر” يقام فيه احتفالات مسائية مبهجة مع بقية الأيام تسمى “فرح مجاري المياه”. وقد جاء في التلمود بكل وضوح: “لماذا دعي اسمه “مجاري المياه”؟ من أجل تدفق الروح القدس حسب ما قيل: بالفرح تنفجر المياه من ينابيع الخلاص.
في اليوم السابع يطوفون حول المذبح سبعة مرات، ويسمى هذا الموكب “أوصنا العظيمة Hosanna rabba”.
في هذا العيد كانت تُقدم ذبائح كثيرة. ففي اليوم الأول يقدمون بجانب الذبائح العادية ذبيحة محرقة، ١٣ ثورًا وكبشين و١٤ حملاً مع تقدمات من دقيق وسكب الخمر. كما يقدمون ماعزًا ذبيحة خطية. وفي الأيام التالية يقدمون نفس الذبائح مع إلغاء ثورٍ واحدٍ كل يوم حتى متى جاء اليوم السابع يُقدم فقط سبعة ثيران. وفي اليوم الثامن الذي يحسب قمة الفرح في هذا العيد يقدمون ثورًا واحدًا وكبشًا واحدًا وسبعة حملان ذبيحة محرقة، وماعزًا واحدًا ذبيحة خطية مع التقدمات المعتادة وسكب الخمر. وفي هذا اليوم أيضًا يقدمون في الهيكل بكور محاصيلهم الأخيرة أو تلك التي نضجت مؤخرًا.
أوصى موسى بالاحتفال بالعيد لمدة ٨ أيام، لكن اليهود أضافوا يومًا تاسعًا، دعوه “فرح الشريعة” حيث يتممون قراءه أسفار موسى الخمسة.
ورد تأسيس هذا العيد في لاويين ٢٣: ٣٤، وحدث تجديد له بعد عدم ممارسته مدة طويلة (نح ٨: ١٤).
“فقال له اخوته:
انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية،
لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل”. (3)
اعتاد الكتاب المقدس أن يدعو الأقرباء من ذات الأسرة اخوة، لذلك فإن كلمة “اخوته” غالبًا ما يُقصد بها أقرباء السيد المسيح حسب الجسد أيا كانت القرابة. هؤلاء بدافع حب الظهور والكرامة طالبوه بالصعود إلى أورشليم لهدفين: الأول لكي يسند التلاميذ الذين رافقوه أكثر من سنتين في الخدمة، فيروا مجده في وسط أورشليم أثناء الاحتفال بالعيد، والثاني لكي يؤسس مملكته في العاصمة. هذا ولعل اخوته هؤلاء إذ لم يكونوا بعد يؤمنون به – كما علق الإنجيلي نفسه – طلبوا هذا ليس عن إخلاص له، بل بنية غير سليمة. فمن جهة أرادوا أن يقدموا له مشورة كمن هو غير قادر حتى على قيادة نفسه بل في حاجة إلى من يقوده. ومن جهة أخرى لم يكن يشغلهم سلامه لأنهم يعلمون مدى خطورة ظهوره في أورشليم وسط القيادات المشحونة نفوسهم بالحقد نحوه.
ويرى البعض أنهم طالبوه بهذا لكي إذا ما صنع آيات وعجائب يفحصها الفريسيون والقادة يكتشفون عن ما تحمله هذه الأعمال من خداع، وبهذا يبرر الأقرباء عدم إيمانهم به.
“لأنه ليس أحد يعمل شيئًا في الخفاء،
وهو يريد أن يكون علانية.
إن كنت تعمل هذه الأشياء،
فاظهر نفسك للعالم”. (4)
لقد ظنوا أن ربنا يسوع يشاركهم نفس مشاعرهم وأفكارهم، فيصنع الآيات لكي يظهرها للناس، وليس بدافع الحب للغير. لهذا قدموا له نصيحة لكي ينتهز كل فرصة لتحقيق هذا الهدف، فلا يضيع وقته في صنع العجائب في الجليل، في المدن والقرى بين أناسٍ جهلاء لا يمكن أن يسندوه. لكنه يصنعها في العاصمة ليقيم لنفسه شعبية من أشخاص لهم وزنهم في المجتمع، ولكي ينتشر خبره في كل الأمة حيث يقدم إلى العيد رجال من كل بلد. كأنهم يقولون له: “إن كنت في طريقك أن تكون المسيا فلتصعد إلى العاصمة وتعلن عن نفسك، فإنك لن تستطيع أن تكون مسيا إسرائيل وأنت مقيم في القرى والمدن الصغيرة بعيدًا عن مراكز التجمع الشعبية والقيادية”.
“لأن اخوته أيضًا لم يكونوا يؤمنون به”. (5)
لم يؤمنوا به أنه المسيا المنتظر الموعود به، ربما ظنوا أنه قائد له تقديره أو نبي. فإنه لو كان المسيا مخلص إسرائيل كان يلزم أن يعلن عن نفسه للعالم كله.
لم يكن أقرباؤه يؤمنون به، لكنهم طلبوا إبراز أعماله المعجزية علانية من أجل إعجاب الناظرين. لم يتكلموا بحكمة لأجل خلاص نفوسهم وخلاص اخوتهم. جاء في إرميا النبي: “لأن اخوتك وبيت أبيك هم أيضًا يزدرون بك، ويصرخون، ومن بين أتباعك، قد اجتمعوا معًا، فلا تصدقهم، إن هم تكلموا عليك بالخير” (إر ١٢: ٦(LXX..
تبدو كلماتهم صادرة عن أحباء، لكنها كانت صادرة عن خبثاء. فإنهم يتهمونه بالجبن هنا مع محبة المجد الباطل. فالقول: “ليس أحد يعمل شيئًا في الخفاء” هو تعبير يوجه لأشخاص يتسمون بالجبن، ومن يتشككون في الأعمال التي يمارسونها أنها ليست حقيقية. وبإضافة: “وهو يريد أن يكون علانية” يتهمونه بالمجد الباطل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ كانوا لم يؤمنوا به فكلماتهم كانت بدافع الحسد.
لماذا لم يؤمنوا به؟ لأنهم طلبوا مجدًا بشريًا. فقد تظاهر اخوته وهم ينصحونه أنهم يشيرون عليه من أجل مجده… كانوا يتحدثون بحكمة الجسد مع الكلمة الذي صار جسدًا وحلّ بيننا.
القديس أغسطينوس
“فقال لهم يسوع:
إن وقتي لم يحضر بعد،
وأما وقتكم ففي كل حين حاضر”. (6)
جاءت إجابة السيد المسيح في دفاعه عن أسلوب اختفائه في الجليل كل هذه المدة هي أنه لا يريد أن يسبق الأحداث، فإن وقته لم يحضر بعد. فإنه لا يريد أن يذهب إلي أورشليم فيثير الرؤساء في أورشليم حتى يحين وقت آلامه حسب خطته الإلهية التي دبرها. هذا وقد أوضح لهم أنه لا يذهب لاستعراض أعمال معجزيه، ولا لكسب شعبية، ولا لإظهار نفسه للعالم، وإنما يذهب ليحقق خطة الخلاص. هم يستطيعون أن يذهبوا إلي أورشليم كزائرين، أما هو فيذهب هذه المرة لكي يُفحص ويُقدم ذبيحة فصح، إذ هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
لم يحن بعد وقت آلامه، لأن هذا العمل الخلاصي يتحقق حسب خطته الإلهية، أما بالنسبة لهم فهم كأصدقاء للعالم لا يجابهون خطرًا، بل يذهبون أينما أرادوا. أيضًا وقت صعوده إلى العيد لم يحن بعد، لأن له خطة خاصة في صعوده، أما بالنسبة لهم فيمكنهم الذهاب إلى العيد في أي وقت. هنا يفضح نيات اخوته بطريقة غير مباشرة، دون أن يحرج مشاعرهم. فإذ كانت نياتهم شريرة وخبيثة فالعالم الخبيث بشره لا يبغضهم، لأن أعمالهم متناغمة مع فكر العالم. أما هو فلن يهادن العالم، فالعالم لا يطيقه.
دائمًا وقتكم حاضر حيث تكونون بلا خطر، أما وقتي حيث حلَّ زمن الصليب يلزمني أن أموت. وإذ كان المعنى هكذا أظهره بقوله بعد ذلك: “لا يقدر العالم أن يبغضكم”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
من يتمتع بالشركة مع السيد المسيح يلزمه أن يسلك بلياقةٍ وتدبيرٍ، فيعرف أن لكل عمل وقته المعين أو ملء زمانه، أما الذين يسلكون في استهتار وتسيب، فيعيشون كما يحلو لهم، كل الأوقات تناسبهم دون التزام. لم يحن الوقت بعد لدعاية بلا قيود، ولا للإعلان المكشوف للجميع، إذ لا يزال عقل اليهود غير ناضج بعد للفهم، حتى يستطيعوا قبول كلماتي دون ثورة أو غضب. ليست الفرصة سانحة بعد لدعوتي الآن أن أكون معروفًا للعالم… أما هم فزمانهم حاضر ومهيأ دائمًا… يفعلون حسبما يرتبون وليس من ضرورة تعوقهم أو تدعو لتدبير ملائم يرشدهم إلى عمل شيء أو الامتناع عنه، كما كان الحال بالنسبة للمسيح.
القديس كيرلس الكبير
انظر كيف أجابهم المسيح ألطف جواب، لأنه لم يقل لهم: “ومن أنتم إذ تشيرون عليّ بهذه المشورات وتعلمونني“، لكنه قال: “إن وقتي لم يحضر بعد”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
قدموا له مشورة أن يسعى نحو المجد، كمن ينصحونه بطريقةٍ عالمية، وبتدبيرٍ أرضيٍ، حتى لا يكون غير معروف بل يصير مشهورًا، ولكي لا يخفى نفسه في غموض.
هكذا أجاب الرب على الذين قدموا له مشورة خاصة بالمجد: “إن وقتي لم يحضر بعد“، أي وقت مجدي لم يحضر بعد.
يا لعمق هذه الإجابة!
هم نصحوه للمجد، وهو أراد المجد الذي يسبقه التواضع، أراد أن يهيئ الطريق للمجد ذاته بالتواضع، فإن هؤلاء التلاميذ أيضًا كانوا حتمًا يطلبون مجدًا ليجلسوا الواحد عن يمينه والآخر عن يساره. فكروا فقط في الغاية، ولم يروا ما هو الطريق الذي يلزم بلوغه.
استدعاهم الرب إلى الطريق حتى يبلغوا به إلى وطنهم في تدبير لائق. فالوطن في العلا، والطريق أسفل على تلك الأرض هي حياة المسيح، أي هو موت المسيح.
تلك الأرض هي سكنى المسيح، والطريق هو آلام المسيح. من يرفض الطريق، لماذا يطلب الوطن؟ في اختصار قدم الإجابة التالية لمن يطلبون أيضًا المجد: “أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟” (مت 20: 22). انظروا الطريق الذي يلزمكم به أن تبلغوا الأعالي التي ترغبونها. الكأس التي أشار إليها هي بالحق هذه الخاصة بتواضعه وآلامه.
لنكن مستقيمي القلب، فإن وقت مجدنا لم يأتِ بعد. لنقل لمحبي هذا العالم كما قيل لاخوة الرب: “وقتكم في كل حين حاضرً” (6)… لنتجاسر ونقول هذا. فإننا إذ نحن جسد ربنا يسوع المسيح، مادمنا أعضاءه، مادمنا نعرف بفرح رأسنا، لنقل هذا بغير تردد، مادام قد تنازل هو وقال هذا من أجلنا.
وعندما يشتمنا محبو هذا العالم فلنقل لهم: “وقتكم في كل حين حاضر، أما وقتنا نحن فلم يحضر بعد”. إذ يقول لنا الرسول: “لأنكم قد متُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في اللَّه”.
متى يحضر وقتنا؟ يقول: “متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو 3: 3-4).
القديس أغسطينوس
“لا يقدر العالم أن يبغضكم،
ولكنه يبغضني أنا،
لأني اشهد عليه أن أعماله شريرة”. (7)
لا تقدر القيادات اليهودية أن تضطهدكم، لأنكم تحملون ذات أفكارهم، حيث تطلبون مسيا زمنيًا، يقيم نفسه ملكًا أرضيًا. إنكم أبناء العالم وخدامه، لا يشغلكم أمر سوى الأرضيات، والعالم حتمًا يحب من له. أما أنا فإذ أدين الفساد والخطية فإن العالم يبغضني.
لم يرد السيد المسيح أن يصعد إلى العيد مع أقربائه، لئلا تحت دعوى الحاجة إلى إظهار المسيح يستخدمون الدعايات، بينما قيل عن السيد المسيح أنه لا يصيح ولا يسمع أحد صوته (إش ٤٢: ٢).
العقل الساقط تحت أسر الملذات الرديئة يغضب تمامُا من النصح الذي يحثه على الرزانة اللازمة.
القديس كيرلس الكبير
“لا يقدر العالم أن يبغضكم” (7). ما هذا إلا أن العالم لا يقدر أن يبغض محبيه، شهود الزور؟ لأنهم يدعون الأمور الشريرة صالحة، والصالحة شريرة. “ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى هذا العيد” (7-8). ماذا يعني “هذا”؟ حيث تطلبون المجد البشري… حيث يرغبون في المبالغة في الأفراح الجسدية ولا تتأملون في الأفراح الأبدية… في يوم العيد هنا تطلبون مجدًا بشريًا، أما وقتي، أي وقته مجدي، فلم يأتِ بعد. هذا سيكون يوم عيدي، لا يسبق هذه الأيام ويتخطّاها بل يبقى أبديًا، سيكون ابتهاجًا وفرحًا بلا نهاية، يكون أبديّا لا ينتهي، هادئًا بلا سحاب.
“أنا لست أصعد إلى يوم العيد هذا” (8). لأن رغبته ليست في المجد الزمني، بل أن يعلمهم شيئًا ينتفعون به، أن يصلح البشر ويحثهم على العيد الأبدي، لكي يحول حبهم لهذا العالم إلى حب للَّه.
القديس أغسطينوس
“اصعدوا أنتم إلى هذا العيد.
أنا لست اصعد بعد إلى هذا العيد،
لأن وقتي لم يكمل بعد”. (8)
يرى القديس كيرلس الكبير أن اخوته أو أقرباءه هنا يمثلون الشعب اليهودي ككل بكونهم اخوة السيد المسيح، إذ هم خاصته. وقد طلب منهم أن يصعدوا ليحتفلوا بالرمز إذ لا يزالوا يحبون الظلال، أما هو فمسرته ليست في الرموز والظلال بل في الحقيقة، حيث يحل الوقت اللائق، ويأتي ملء الزمان ليقدم نفسه عيدًا حقيقيًا.
يقول الرب هنا بوضوح إنه لن يعَّيد مع اليهود أو يذهب معهم ليشاركهم فرحهم في الظلال. لأن ما قيل عن قليلين يمتد في معناه على كل جنس إسرائيل… فإن كل جموع اليهود يحسبون رمزيًا اخوته. لذلك يمتنع عن حضور العيد معهم، حسبما قيل بأحد الأنبياء القديسين: “بغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا التفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع” (عا ٥: ٢١-٢٣). كما يقول المخلص نفسه: “لأن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو ٤: ٢٤).
القديس كيرلس السكندري
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه قال بأنه لا يذهب إلى العيد في تلك اللحظات (الآن)، أي يذهب معهم. لم يرد أن يذهب معهم في ذلك الوقت لكي يصلب إذ لم تكن ساعة الصلب قد حلت.
“قال لهم هذا ومكث في الجليل”. (9)
بيّن من هذه الأقوال أنه ليس محتاجًا إليهم ولا يريد أن يتملقهم، لكنه أطلق لهم أن يعملوا الفرائض اليهودية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يمكث المسيح فرحًا في الجليل، مبتعدًا عن اليهودية، حيث يقيم في سلامٍ أكثر وأمان… يظهر كلاً من حبه الحقيقي لهم ورفضه لسكان اليهودية… لقد جعل كنيسة الأمم مستحقة فعلاً للمحبة الإلهية… يُظهر جمال كنيسة الأمم، أحبها وذهب إليها كما إلى عروسٍ في خدرها.
القديس كيرلس السكندري
“ولما كان اخوته قد صعدوا،
حينئذ صعد هو أيضًا إلى العيد،
لا ظاهرًا بل كأنه في الخفاء”. (10)
لقد رفض الذهاب مع أقربائه لأنهم طلبوا هذا ليس من أجل النفع الروحي، وإنما من أجل نوال كرامات بسبب المعجزات.
عالج القديس أغسطينوس ما يُثار من البعض، لأن السيد المسيح قال لاخوته أنه لا يصعد إلى العيد وتركهم يذهبون دونه إلى أورشليم، لكنه عاد فذهب. يوضح القديس بأن السيد لم يقل أنه لا يصعد إلى العيد وإنما “اليوم”. لما كان العيد يحتفل به إلى أيامٍ كثيرةٍ، بقى في الجليل ذلك اليوم ثم صعد إلى أورشليم بعد ذلك. أما غاية ذلك فهو أن اخوته لم يطلبوا أن يذهب معهم في صحبة مشتركة، بل أن يصعد هو أولاً. لكنه كما يقول القديس ظهر كإنسانٍ ضعيفٍ يهرب من المقاومين كما هرب إلى مصر من وجه هيرودس. هكذا تركهم يصعدون إلى أورشليم، وبعد ذلك صعد هو في يومٍٍ تالٍ. يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح صعد في منتصف العيد بعد أيام كثيرة.
قول السيد المسيح “بعد” يشير إلي رفضه الصعود معهم في تلك اللحظات، وليس الرفض النهائي للصعود للعيد. واضح أن السيد المسيح بحديثه معهم يفصل بين فكرهم في الصعود للعيد وفكره هو. فهم يذهبون للمشاركة الشكلية في أفراح العيد والالتقاء مع الأقرباء والأصدقاء، وقد وجدوا في العيد مجالاً خصبًا لصعود السيد كي يبرز أعماله للشعب. أما هو فيصعد إلي العيد لتقديم نفسه ذبيحة فصح عن العالم. لهذا أراد أن يصعد بمفرده ليعزل مفاهيمهم عن مفاهيمه.
هذا وصعودهم كجماعة يكون علنيًا يرافقه التسابيح مع الزمر وأغصان النخيل، أما هو فيصعد كمن في الخفاء ليحقق رسالة مستترة لم يكن العالم قادرًا أن يدركها.
أخيرا فقد صعدوا هم إلي أورشليم مباشرة، أما هو فقد انتقل إلي الجليل وجاء إلي تخوم الهيودية من عبر الأردن (مت 19: 1؛ مر 10:1)، وفي نهاية رحلته ذهب إلي قرية ببت عنيا بجوار أورشليم لزيارة لعازر وأختيه (لو 10: 38-39)، ومن هناك دخل أورشليم في منتصف العيد. هكذا كان خط سيره مختلفًا تمامًا عن خط سير أقربائه.
لم يقل “في الخفاء” بل “كأنه في الخفاء”. فإنه بهذه الطريقة أراد أن يستخدم هذا لتعليمنا كيف ندبر الأمور.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لكي تعرفوا الله العظيم، الواهب الحياة، ابن الله القدير أضاف برهانًا لجلاله بقوله: “وكل مالي هو لك، وما لك هو لي” (١٠).
القديس أمبروسيوس