تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٧: ٢٥-٣٠
٢٥ فَقالَ أُناسٌ مِنْ أُوْرَشَليمَ: أليسَ هذا هُوَ، الّذي يَطْلُبونَ قَتْلَهُ،
٢٦ وَها إنَّهُ يَتَكَلمُ علانِيَّةً وَلا يَقولونَ لهُ شَيْئًا، أَلَعَلَّ الرُّؤَساءَ تَيَقَّنوا أَنْ هَذا هُوَ المَسيحُ؟
٢٧ إلاَّ أَنَّ هَذا، قَدْ عَلِمْنا مِنْ أَينَ هُوَ، وَأمّا المَسيحُ، فَإِذا جَاءَ فَلا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ.
٢٨ فَصاحَ يَسوعَ في الهَيكَلِ وَهُوَ يُعَلِّمُ وقالَ: “إنَّكُمْ تَعْرِفوني، وَتَعْلَمونَ مِنْ أَيْنَ أنا وَأَنا لَمْ آتِ مِنْ عِنْدي، وَلَكِنَّ الّذي أَرْسَلَني هُوَ مُحِقٌّ، وَأَنْتُمْ لا تَعْرِفونَهُ.
٢٩ أَمّا أَنا فَأَعْرِفُهُ، لِأَنّي مِنْهُ وَهُوَ أَرْسَلَني.
٣٠ فَكانوا يَطْلُبونَ أَنْ يَقْبِضوا عَلَيْهِ، وَلكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدَهُ عَلَيهِ لِأنَّ ساعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جاءَتْ بَعْدُ.
إيمان كثيرين به
“فقال قوم من أهل أورشليم:
أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه؟” (25)
كانت أورشليم في نظر اليهود هي ينبوع الروحانية ومصدر المعرفة الإلهية الحقيقية، لكن الشعب في أورشليم صاروا في ارتباك من موقف القيادات الدينية. هل هم يطلبون حقًا قتله كمجدفٍ ومخادعٍ؟ ولماذا لم يلقوا القبض عليه، وها هو يعلم علانية؟
هنا نجد موقف الشعب القادم من خارج أورشليم مختلف عن أهل أورشليم، لأن القادمين لا يعرفون شيئًا عما تحمله القيادات من حسدٍ وغيرةٍ، أو من مقاومة للسيد المسيح، أما أهل أورشليم فعلى دراية بما يخططه هؤلاء ضده.
بخصوص موقف اليهود من السيد المسيح يميز بعض الدارسين بين ثلاث فئات:
- الرؤساء والكهنة والفريسيون، يحملون عداوة ضد السيد المسيح.
- أهل أورشليم، يعرفون ما تحمله مشاعر الفئة الأولى، وقد وقفوا في ارتباك بين خضوعهم للقيادات مع ملاحظتهم أنهم لا يتحركون للخلاص منه عمليًا وبين ما يتمتعون به من أعمال محبة وأعاجيب وتعاليم لها جاذبيتها الروحية وسلطانها يمارسها السيد.
- الغرباء الصاعدون إلى أورشليم للعيد، والذين اعجبوا من السيد وهم يجهلون موقف الفئة الأولى ضده. وقد دهشوا عندما سمعوه يقول أنهم يطلبون أن يقتلوه (٢٠)، وحسبوا ذلك وهمًا عنده أو فكرًا من الشيطان. نعتقد أن بقية الشعب اليهودي كانوا يجهلون خطة رؤسائهم، لكن أولئك الذين من أورشليم يعيشون معظم الوقت معهم، ويسكنون معهم في نفس المدينة، ويتقابلون معهم باستمرار، ويعرفون التخطيط الشرير الذي ملأهم ضد المخلص المسيح.
القديس كيرلس الكبير الذين عرفوا بأية شراسة كانوا يطلبونه تعجبوا بأيّة قوة حُفظ من أن يقبضوا عليه. وإذ لم يعرفوا قوته كما ينبغي توهّموا أن القادة عرفوا أنه المسيح نفسه، ولهذا السبب تركه الذين كانوا شغوفين جدًا أن يطلبوا قتله.
القديس أغسطينوس
“وها هو يتكلم جهارًا ولا يقولون له شيئًا،
ألعل الرؤساء عرفوا يقينا أن هذا هو المسيح حقًا؟” (26)
إن لم يكن الرؤساء قد عرفوا يقينًا أن هذا هو المسيح (حقًا)، فما الذي يغريهم على تحمل توبيخه العلني لهم، وتجديده للأمور التي كانت فريضة منذ القديم، إذ وُجد يشفي حتى في يوم السبت، ويحزنهم أشد الحزن بقوله بصراحة: “أليس موسى قد أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل الناموس؟” وهم يتحملون كل هذا…
القديس كيرلس الكبير
“ولكن هذا نعلم من أين هو،
وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو”. (27)
عرف غالبية الشعب أن يسوع ولد في بيت لحم من بيت داود، ولكن حسبما يعلن إشعياء النبي: “جيله من يقدر أن يعلنه؟” (إش ٥٣: ٨)، أي أن ميلاده وظهوره سرِّيان. وكان الربيِّين لديهم هذا المثل: “ثلاثة أمور تحدث فجائيًا: شيء نجده بالمصادفة، لدغة العقرب، ظهور المسيا”. لهذا تساءل أهل أورشليم إن كان يسوع هو المسيح أم لا، لأنهم يعرفون من أين هو.
لم يدركوا أن ما نطق به إشعياء يخص ميلاده الأزلي الفائق، وأيضًا يخص كهنوته بكونه على رتبة ملكي صادق الذي لا يعرف أحد والديه. أما عن تجسده، فقد أعلن الأنبياء الكثير عن تفاصيله، وقد عرف اليهود أين يولد (مت ٢: ٤-٥).
إنهم لم يفطنوا إلى كلمات الأنبياء القديسين عنه وهي نوعان.
تشير أحيانًا إلى أنه سيأتي إلى العالم في الجسد، وتعلن لنا عن ميلاده من عذراء حسب الجسد. “فها العذراء تحبل وتلد ابنًا” (إش ٧: ١٤). أجل، بل وهي تعلن مكان ميلاده: “أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنتِ صغيرة، أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه من القديم، منذ أيام الأزل” (مي ٥: ٢).
لكنهم حينما كانوا يقدمون – قدر المستطاع – ميلاده غير المدرك من الله الآب يقولون ما ذكرناه آنفًا أن ميلاده من يخبر به؟ لأن “حياته أُنتزعت من الأرض”، أو ما يتصل بالنص المقتبس: “مخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل”. لأنه يعني هنا بتعبير “مخارج” الابن الوحيد، كخروج البهاء من النور، وكخروج خاص من جوهر الذي ولده، إلى كيانه الخاص (الذاتي) الذي قبل كل الدهور وكل يوم وكل لحظة…
القديس كيرلس الكبير
يقولون:” لا يعرف أحد من أين هو”، مع أن رؤساءهم عندما سُئلوا أصروا أنه ينبغي أن يولد في بيت لحم…
مرة أخري يقولون: لا يأتي من الجليل بل من بيت لحم (41، 42). ألا تروا أن قراراتهم صادرة عن ثورة غضب؟ يقولون “نحن نعلم” و”نحن لا نعلم”… فقد انشقوا في أمرٍ واحدٍ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
بكونه إنسانًا سبق فأخبرتنا الكتب المقدسة ما سيكون عليه، أما بكونه اللَّه فقد أُخفي هذا عن الأشرار، ويحتاج الأمر إلى أبرارٍ يكتشفونه. علاوة على هذا يقولون: “وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو” (27). لأن هذا ما نطق به إشعياء، مقدمًا لهم هذه الفكرة: “وجيله من يخبر به؟!” في اختصار قدم الرب نفسه إجابة على الطريقين، إنهم يعرفون من أين هو، وأيضًا لا يعرفون. وذلك لكي يشهد للنبي الذي سبق فأخبر عنه من جهة بشرية ضعفه، وأيضًا من جهة لاهوت مجده.
القديس أغسطينوس
“فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلاً:
تعرفونني وتعرفون من أين أنا،
ومن نفسي لم آتِ،
بل الذي أرسلني هو حق،
الذي أنتم لستم تعرفونه”. (28)
أجاب السيد المسيح على هذه التساؤلات علانية، مناديًا بصوت عالٍ في الهيكل. ولعله بهذا يدعو الكهنة والقيادات التي لم تعد تجسر أن تقترب، أو لا تطيق سماع صوته لكي يقتربوا ويسمعوا. إنه لا يُعلِّم خفية بل علانية، لأنه يقدم الحق بلا خداع كما ادعوا. كأنه يقول لهم: “من له أذنان للسمع فليسمع”.
“تعرفونني وتعرفون من أين أنا”، كأنه يقول: هذا حق، فإني من أمتكم، وأنا منتسب إليكم، وتعرفون موطن ميلادي. لكن من جهة لاهوتي لست تعرفونني ولا تعرفون من أين أنا، ولا ذاك الذي أرسلني.
“ومن نفسي لم آت”. إنه ليس بالإنسان المجرد الذي يعمل لحساب نفسه، بل هو مُرسل من الآب، يعمل لحساب البشرية كلها. إنه ابن الله الذي سبق فوعدهم بإرسال المسيا مخلص العالم، وهذا هو الوعد الإلهي يتحقق لكنهم يرفضونه ويرفضون إنجيله.
لم يكن من السهل أن يقبل الرؤساء هذا الحديث، إذ فيه اتهام ضدهم بالجهل؛ إنهم لا يعرفون الله، بينما هو وحده يعرفه، ليس لأنه أرسله كما يرسل الأنبياء وإنما هو “منه”، مولود منه أزليًا. فمن جهة ينسب إليهم الجهل، ومن جهة أخرى يقيم من نفسه ابنًا مولودًا من الآب، وفي نظرهم هذا تجديف يستحق عليه الموت. لكن قوة خفية منعتهم من إلقاء أيديهم عليه حتى تحين الساعة.
كإنسانٍ لم يأتِ من نفسه، وكابن اللَّه لم يأخذ بدايته من بشر، بل كما يقول: “أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به” (يو 25:8). الكلمات التي أكلمكم بها ليست بشرية بل إلهية.
إذن ما هو معنى “لا تؤمنوا بي” (يو ١٢: ٤٤)؟ لا تؤمنوا بما تدركونه في الشكل الجسدي، ولا في مجرد الإنسان الذي ترونه. إذ بقدر ما أنه يجب علينا ألاّ نؤمن به كمجرد إنسان بل أن يسوع المسيح نفسه هو الله والإنسان (في نفس الوقت). لهذين السببين يقول: “لم آتِ من نفسي” (يو ٧: ٢٨). كإنسان لم يأتِ من نفسه، وكابن الله لم يأخذ بدايته من إنسان، بل يقول: “أنا نفسي من البدء ما كلمتكم به”. الكلام الذي أكلمكم به ليس بشريًا بل هو إلهي.
القديس أمبروسيوس
القول:”تعرفون من أين أنا” لا تعني هنا موضعًا معينًا، وذلك هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه”، مشيرًا هنا إلى الجهل الذي ظهر من أعمالهم. وكما يقول بولس: “بأنهم يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرون” (تي 1: 16). فإن خطأهم يصدر ليس مجردًا عن الجهل بل عن شرٍ، عن رأيهم الشرير وحكمهم الشرير. فمع معرفتهم هذه أرادوا أن يكونوا جاهلين… بقولهم: “نحن نعلم من أين هو” لم يعلنوا أنه من السماء… وبقوله: “وتعرفون من أين أنا” (28)، يعني أنه ليس من الموضع الذي يظنونه، بل من الموضع الذي منه ذاك الذي أرسله.
بالقول: “من نفسي لم آتِ” يعلن أنهم عرفوا أنه مرسل من الآب، ومع ذلك لم يريدوا أن يبوحوا به.
إنه يلومهم من جانبين: أولاً انهم قالوا في الخفاء وهو تكلم علانية لكي يضعهم في خزي؛ وأنه أعلن ما هو في قلوبهم. فبينما أصروا على القول: “لا يعلم أحد من أين هو” أكد بذلك انه هو نفسه المسيح.
هم استخدموا الكلمات: “لا يعلم أحد” بالإشارة إلي تمييز بين أماكن محلية، لكنه بذات الكلمات يظهر نفسه المسيح، لأنه جاء من عند الآب… كلماته بخصوص الآب: “أنتم لستم تعرفونه” جعلتهم في سخطٍ، إذا يوبخهم هكذا لأنه إذ يعرف أنهم يتظاهرون بالجهل كان ذلك كافيًا أن يؤخزهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الكتاب الموحى به من الله أعطاكم أن تعرفونني، وأن تعرفوا من أين أنا، ليس لأنكم تعرفونني إنني من الناصرة أو من بيت لحم، وإنني مولود من امرأة، يوجب عليكم بهذا أن يصيبكم مرض عدم الإيمان. لكن بسبب تلك الأمور التي قيلت عني، وبسبب ميلادي الجسدي، كان ينبغي عليكم بالأحرى أن تتقدموا إلى إدراك الأسرار الخاصة بي، وألا ترددوا صوتًا وحيدًا لنبي يخبر عن ميلادي غير المدرك من الله الآب.
لست مثلكم، ولا أحاكي خستكم التي تمرستم عليها جيدًا. فأنا لم آتٍ من نفسي، ولا أنا بمرسل نفسي مثلكم، بل أنا آتٍ من السماء، والذي أرسلني هو حق، وليس مثل الشيطان مرسلكم، شيطان الكذب، الذي تقبلون روحه، فتتجرأون على التنبؤ بالكذب، الذي هيجكم لتخترعوا كلمات من الله، فهو ليس حقًا، لأنه كذاب وأبو الكذاب (يو ٨: ٤٤).
القديس كيرلس الكبير
كأنه يقول: أنتم تعرفونني، وتعرفون من أين أنا، وأنتم لا تعرفون من أين أنا.
أنتم تعرفون من أين أنا، يسوع الناصري، وتعرفون والديه. لأنه قد خفي عليهم ميلاده من البتول وحدها، الأمر الذي يشهد له زوجها، فإنه قادر أن يشهد بأمانة لهذا كزوجٍ غيورٍ، فإن هذا هو الميلاد البتولي المتوقع.
لقد عرفوا في يسوع ما يخصه كإنسان، وجهه كان معروفًا، مدينته كانت معروفه، أسرته كانت معروفة، أين ولد كان معروفًا بالسؤال عنه. بحق قال “تعرفونني وتعرفون من أين أنا” (28)، وذلك حسب الجسد وشكل الإنسان الذي أحمله.
أما ما يخص لاهوته: “من نفسي لم آتِ، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لا تعرفونه” (28). كان يمكنكم أنتم أن تعرفوه، وتؤمنوا بالذي أرسلني. إنه لن يرى أحد قط اللَّه إلا ابن اللَّه الوحيد الذي في حضن الآب، هو يخبر عنه (يو 1: 8). لا يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له (مت 11: 27) .
القديس أغسطينوس
“الذي لستم تعرفونه”، حيث أنكم لا تعرفون ذاك الذي هو منه، الذي فيه وحده يًرى الآب. لأن من رأى الابن فهذا قد رأى الآب (١٤: ٩). والذي يعرف الابن لا يجهل ذاك الذي ولده…
إنه ليس مثلهم لا يعرف أباه الشخصي، لكنه يؤكد أنه يعرف نفسه ويعرفه (الآب) حق المعرفة تمامًا. لأنه إله من الله الآب يملك معرفة خاصة عجيبة وغريبة بتلك الأمور كلها، كما يليق به وحده، لأن الابن لا يعرف الآب بنفس الطريقة التي نعرفه نحن بها. لأن طبيعة المخلوقات تبلغ إلى رؤية الله بالفهم فقط، ولا تتجاوز حدودها التي تلائمها، وتذعن بغير إرادتها إلى الطبيعة الإلهية المجتمعة في الكلمات التي لا يُنطق بها. أما الابن الوحيد الجنس لله الآب فيرى ذاك الذي ولده كاملاً في ذاته، ويرسم جوهر الآب في ذاته ويعرفه، بطريقة لا يُمكن التعبير عنها، لأن أمور الله لا يُنطق بها.
القديس كيرلس الكبير
“أنا أعرفه لأني منه،
وهو أرسلني”. (29)
لماذا يقول: “أنا أعرفه”؟ “لأني منه، وهو أرسلني” (29). لقد أظهر كليهما بطريقة مجيدة. يقول: “إني منه”، لأن الابن من الآب، وما هو عليه الابن إنما هو من ذاك الذي هو ابنه. لذلك نقول إن الرب يسوع المسيح هو إله من إله، ولا نقول عن الآب إنه إله من إله بل هو اللَّه. ونقول عن الرب يسوع نور من نور، ولا نقول عن الآب إنه نور من نورٍ، بل هو النور. بهذا فهو يقول: “إني منه”.
ولكن حسبما ترونني في الجسد هو “أرسلني”.
عندما تسمع “أرسلني” لا تفكر في وجود اختلاف في الطبيعة بل في سلطان ذاك الذي وُلد.
القديس أغسطينوس
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على تواضع السيد المسيح العجيب، فإنه بهذا كسب نفوسًا كثيرة للإيمان به.
ألا ترون كيف يطلب على الدوام أن يبرهن: “لم آتِ من نفسي”، “الذي أرسلني هو حق”، مجاهدًا إلاَّ يُحسب عدوًا لله؟ ولتلاحظوا عظمة نفع تواضع كلماته، فإنه قيل بعد هذا: “ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا الإنسان؟”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فطلبوا أن يمسكوه،ولم يلقِ أحد يدًا عليه،
لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد”. (30)
أسكتت توبيخات (الرب) الفريسيين، وإذ قد تأكدوا أن صمتهم حيال هذه الأمور قد أضر بعنادهم وانتفع به الجمهور (إذ اقتنعوا انه المسيح)… تعطشوا مرة أخرى إلى قتله، إذ طرحوا وقار الناموس جانبًا… وحُسبوا غير أهلٍ لتذكر الوصية: “لا تقتل البريء والبار” (خر ٢٣: ٧). لكن العمل الإلهي قمعهم وكبح أعمالهم الشريرة، وحوَّل خطتهم إلى مجرد محاولات.
القديس كيرلس الكبير
“فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلقِ أحد يدًا عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد”، أي لأنه لم يكن يرد ذلك.
فإنه ماذا تعني “ساعته لم تكن قد جاءت بعد”؟ لم يولد الرب تحت مصير معين. يجب ألا تعتقد بذلك بالنسبة لك (أنك مُصيّر، فكم بالأولى لذاك الذي خلقك. إن كانت ساعتك هي حسب إرادته الصالحة (وليس قضاء وقدرًا)، فكم تكون ساعته إلا بإرادته الصالحة؟
إذ لا يعني بالساعة التي يموت فيها قسرًا بل التي تنازل لكي يموت فيها (بإرادته). إنه كان ينتظر أن يموت فيها كما انتظر الساعة التي وُلد فيها. تحدث الرسول عن هذا الزمن، قائلاً: “ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل اللَّه ابنه مولودًا” (غل 4: 4). لهذا السبب كثيرون يقولون لماذا لم يأتٍ المسيح من قبل؟ نجيبهم: لأن ملء الزمان لم يكن قد جاء بعد. وفي المكان الأول كان من الضروري أن يُخبر مسبقٌا عنه بسلسلة طويلة من الأزمان والسنوات، لأن مجيئه ليس بالأمر التافه. كان يجب أن يُخبر مُسبقًا لمدة طويلة عن ذاك الذي نتمسك به أبديًا.
كلما زادت عظمة القاضي القادم كلما طال صف المعلنين عنه السابقين له.
في اختصار إذ حلّ ملء الزمان جاء ذاك الذي يخلصنا من الزمن. وإذ نخلص من الزمن سنأتي إلى الأبدية حيث لا زمن. عندئذ لا نقول: متى تأتي الساعة؟ لأن اليوم أبدي، لن يسبقه أمس، ولن يقطعه غد. لكن في هذا العالم الأيام تتكرر وراء بعضها البعض، أيام تمضي وأخرى تأتي، وليس من يوم يدوم. اللحظات التي نتكلم فيها تسحب اللحظة غيرها، كل لحظة بدورها…
منذ بدأنا نتحدث صرنا إلى حدٍ ما أكبر (عمرًا)، فبدون شك الآن أنا أكبر مما كنت عليه في الصباح. هكذا لن يبقى شيء على حاله، ليس شيء ثابت في الزمن. لهذا يليق بنا أن نحب ذاك الذي به خلق الزمن، حتى نتخلص من الزمن، ونثبت في الأبدية، فلا يكون بعد تغيير في الزمن.
عظيمة هي مراحم ربنا يسوع المسيح الذي من أجلنا وُجد في زمن، هذا الذي أوجد الأزمنة، إذ وُجد بين كل الأشياء ذاك الذي به كل شيء كان، فصار ما قد صنعه…
إذ صار إنسانًا ذاك الذي خلق الإنسان، حتى لا يهلك ما قد صنعه. نحسب هذا التدبير قد جاءت ساعة ولادته فوُلد، لكن في ذلك الحين لم تكن قد جاءت ساعة آلامه، لذلك لم يكن بعد قد تألم.
القديس أغسطينوس