📌 الرأس قد صار ذنبًا.. والقائد تابعًا..
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٧: ٣١-٣٦
٣١ فَآمَنَ بِهِ كَثيرٌ مِنَ الجَمْعِ، وَقالوا إِذا جاءَ المَسيحُ، أَفَلَعَلّهُ يَعْمَلُ آياتٍ أَكْثَرَ مِمّا عَمِلَ هَذا.
٣٢ فَسَمِعَ الفِرّيسيونَ مُهامَسَةَ الجَمْع ِبِذلِكَ في شأنِهِ، فَأرْسَلَ رُؤساءُ الكهَنَةِ والفِرِّيسيّونَ شُرَطًا لِيَقْبِضوا عَلَيْهِ.
٣٣ فقالَ لَهُمْ يَسوع: “أَنا مَعَكُمْ بَعْدُ زَمانًا يَسيرًا، ثُمَّ أَذْهَبُ إلى الّذي أَرْسَلَني،
٣٤ وَسَتَطْلبونَني وَلا تَجِدونَني، وَحَيْثُ أَكونُ أَنا لا تَستَطيعونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتوا.
٣٥ فقالَ اليهودُ فيما بينَهُمْ: إلى أينَ هذا مُزْمِعٌ أنْ يَنْطَلِقَ حتَّى لا نَجِدَهُ، أَلَعَلَّهُ يَنْطَلِقُ إلى شتاتِ اليونانيّينَ وَيُعَلِّمُ اليونانيّينَ؟
٣٦ ما هَذا الكَلامُ الّذي قالهُ سَتَطْلبونَني وَلا تَجِدونَني، وَحَيْثُ أَكونُ أَنا لا تَسْتَطيعونَ أَنتُمْ أَنْ تَأْتوا.
“فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا:
ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟” (31)
كلما اشتدت الضيقة وحاول الرؤساء بالأكثر أن يقتلوا السيد المسيح، مع استعبادهم للشعب كان الحق يتجلى بالأكثر. لذلك آمن به كثيرون.
وجد الرؤساء في حديث السيد المسيح العلني تجديفًا لا يُحتمل، بينما وجد كثير من الجمع في أعمال محبته الفائقة برهانًا أكيدًا أنه المسيا المنتظر، إذ لم يكن ممكنًا أن يقوم أحد بعمل آيات مثلما فعل السيد المسيح. وكما قال السيد أنه جاء لقيام كثيرين وأيضًا لسقوط كثيرين.
كما أكرر كثيرًا، أن الجسدانيين ينقادون لا بالتعاليم ولا بالكرازة وإنما بالمعجزات.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لقد اجتهدوا دائمًا أن يبينوا أنه ليس هو المسيح، فلو اعتبرنا أن هذا ليس هو المسيح، فهل يكون ذاك أفضل من هذا؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
شفى الرب المتواضعين والفقراء. كان القادة في جنونٍ، لهذا ليس فقط لم يعرفوا الطبيب، وإنما أيضًا يطلبون قتله. وُجد جمع من الناس رأوا بسرعة مرضهم، وبغير تأخير عرفوا علاجه. انظروا كيف تحرك هذا الجمهور بواسطة معجزاته… فآمنوا به.
القديس أغسطينوس
“سمع الفريسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه،
فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه”. (32)
بدأ كثيرون يؤمنون به وصار تهامس بين الشعب. وشعر الرؤساء أن كل تأخير ليس من مصلحتهم، فأرسلوا خدامًا (جند الهيكل) ليلقوا القبض عليه.
اتهمهم الناس بحق أنهم مغلوبون من الحسد أكثر من اهتمامهم بالأحرى بخلاص الناس… ويبدو أن الجمع أساءوا إليهم… وصاروا متعطشين بالأكثر إلى الإيمان به.
كان يليق بهم (رؤساء الكهنة) أن يكونوا قدوة في الأفكار الصالحة، وأن يمسكوا بزمام التوجيه في المشورة التي لا تقاوم الله. لكنهم إذ كانوا مبتعدين عن كل اتجاه صالح، وقد طرحوا الناموس الإلهي وراء حياتهم الشخصية، انجرفوا إلى ما يرضي انفعالاتهم التي بلا فطنة وحدها. لأن الرأس قد صار ذنبًا كما هو مكتوب (تث ٢٨: ٤٤). إذ صار القائد تابعًا، وباتفاقه مع عدم تقوى الفريسيين يطلق العنان لهجماته ضد المسيح أيضًا.
القديس كيرلس الكبير
“فقال لهم يسوع:
أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد،
ثم أمضي إلى الذي أرسلني”. (33)
حديثه هنا موجه للشعب وليس لخدام الهيكل، مظهرًا لهم أنه عالم بكل ما يخططه الرؤساء ضده خفية، وإن كانوا قد عجزوا عن تنفيذه عمليًا.
أخبروني لماذا أنتم ناقمون، كأنني باقٍ معكم زمانًا طويلاً في هذا العالم؟ إني أقر أنني حمل ثقيل عليكم، ولا أشَّكل مسرة كبيرة عند الذين لا يكرمون الفضيلة… لكن لا تنصبوا لي شبكة الموت في غير أوانها. “أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد”، وسوف أرحل بفرحٍ حين يأتي الوقت المناسب لآلامي… سأرحل من وسط الأشرار كإله، لكنني أبقى مع خاصتي كل الأيام حتى وإن ظهرت كأني غائب بالجسد…
لماذا تمزقون أنفسكم إربًا بمشورات غير مثمرة؟
اغمدوا سلاح الحسد، لأنكم تصوبونه بلا هدف.
لن تخضع الحياة للموت، ولن ينال الفساد من عدم الفساد شيئًا.
لن تمسكني أبواب الجحيم، ولن أصبح جسدًا ميتًا في قبوركم، بل أنطلق مرتفعًا إلى ذاك الذي أنا منه.
سأصعد ثانية إلى السماء، منظورًا من الناس والملائكة معًا، كحاكم على تجديفكم. فسيتعجب البشر من صعودي. وحينما يلاقيني الملائكة يقولون: “ما هذه الجروح في يديك؟” أجيبهم: “هي التي جرحت بها في بيت أحبائي” (زك ١٣: ٦).
القديس كيرلس الكبير
يلزمني أن أكمل تدبيري، بهذا تأتي آلامي.
القديس أغسطينوس
“ستطلبونني ولا تجدونني،
وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا”. (34)
يشبه البعض حديث السيد المسيح هنا بعمود السحاب والنار اللذين كان يظهران لشعب بني إسرائيل في البرية. لهذا الحديث جانبه المشرق المفرح كما له الجانب المظلم.
الجانب المفرح أن السيد المسيح يسير في هذا العالم يسيرًا ليعبر وادي الألم ويصعد إلى حيث الآب. إنه عالم مملوء بالمتاعب، لم يعبر به يوم دون أن يحمل فيه الصليب، لكن الزمن لن يطول. أيامنا مليئة متاعب، يلزمنا أن نحتمل الأشواك، ونتخطى العقبات والحواجز، لكن شكرًا لله أنها قليلة! لن تعبر الآلام معنا إلى الفردوس!
بقوله “أمضي” يؤكد أنه قد قَبِل الموت بإرادته وليس قسرًا، كما اختار هذه الرحلة الشاقة، كسفيرٍ عن الآب يقدم حياته مبذولة عن العالم ثم يعود إليه. ثورة الرؤساء ضده ومقاومتهم له ليس لها قوة بدون سماحٍ منه، وفي نفس الوقت تلهب قلبه كابن البشر أن يعبر إلى الآب.
أما الجانب المظلم فهو ما يحمله الرؤساء من بغضة وكراهية، فيسرعون إلى الخلاص منه من الأرض كلها، لكنهم لم يدركوا أنهم يطلبونه ولا يجدونه. إنهم ينالون ثمر جحودهم له، ويشربون من كأس خطاياهم، حيث لا يستطيعون التعرف عليه والبلوغ إليه.
يرى البعض أنه يتحدث هنا عما سيحل بهم حين يهاجم الرومان مدينة أورشليم بقيادة القائد تيطس، فيصرخون طالبين مخلصًا كما طلب آخاب الملك إيليا النبي وبحثوا عنه فلم يجدوه (١مل ١٨: ١٠).
لعله قصد أنهم في يوم الدينونة إذ يكتشفون مقاومتهم للحق يطلبون التمتع بشركة المجد مع المسيا فلا يجدون، لأن باب التوبة يُغلق، ويُجازى كل واحد حسب أعماله. إنهم يتوقعون أنهم يخلصون ويتمتعون بالسماء، فيجدون الذي قاوموه هو السماوي ديان البشرية، وأنهم لم يتأهلوا للدخول إلى السماء، إذ رفضوا الصليب، شجرة الحياة.
يقول الطوباوي بولس عن حق: “هوذا الآن وقت مقبـول، هوذا الآن يوم خلاص” (٢ كو ٦: ٣). وأيضًا: “حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع” (غل ٦: ١٠)… فإنه حينما تمضي الفرص لا يتوفر لنا ما تأتينا به. ينبغي علينا ألا ننام عندما تكون الخيرات حاضرة، بل أن نسهر بالأحرى، وألا نجتهد بغير حكمة أن ننال ما هو نافع، حينما يكون البحث بلا طائل.
فليأت إذن بولس الروحاني مناديًا بصوتٍ عالٍ للذين ماتوا عن الخطية: “لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو ٣: ٣-٤). وفي عظته عن القيامة أيضًا يقول: “ثم نحن الأحياء سنُخطف جميعًا معهم في السُحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب” (١ تس ٤: ١٧)…
أجل، إذ يخاطب اللص الذي عُلق معه، وعند أبواب الموت عينها، وبالإيمان به، أمسك بنعمة القديسين، فيقول له: “الحق الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو ٢٣: ٤٣).
فالذين كرموه بالطاعة يكونون معه دون عائق ما، وسيفرحهم بالخيرات التي تفوق الفهم، أما الذين لا يكفون عن إهانته بحماقتهم، فبالرغم من كونهم أبناء العرس سيُطرحون في الهاوية في حزن لينالوا عقوبات مرة. وكما هو مكتوب: “يُطرحون إلى الظلمة الخارجية” (مت ٨: ١٢).
القديس كيرلس الكبير
هنا يسبق فيخبرهم بقيامته، فإنهم لم يعرفوه حين كان حاضرًا، لكن بعد ذلك سيطلبونه حينما يجدون الجماهير قد آمنت به.
ستحدث آيات عجيبة عندما يقوم الرب ويصعد إلى السماء. ستتم أعمال قديرة بواسطة تلاميذه، لكنه هو العامل بهم كما عمل بنفسه، إذ قال لهم: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5).
عندما مشى ذلك الأعرج الذي كان جالسًا عند الباب على قدميه، وذلك عند سماعه صوت بطرس، فتعجب الناس، تحدث معهم بطرس أنه ليس بقوته فعل ذلك بل بذاك الذي قتلوه (أع 3: 16). نُخس كثيرون في قلوبهم وقالوا: “ماذا نفعل؟” إذ رأوا في أنفسهم أنهم قد رُبطوا بجريمة الشر البشعة، إذ قتلوا ذاك الذي كان يليق بهم أن يكرّموه ويعبدوه.
لم يقل: “حيث سأكون أنا” بل “حيث أكون أنا” (34). لأن المسيح كان دائمًا في هذا الموضع عندما كان في طريقه للعودة. فقد جاء بطريقة لم يفارق بها الموضع (السماء). “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو 3: 13). لم يقل أنه كان في السماء. لقد تحدث وهو على الأرض، وقال أنه في ذلك الوقت كان في السماء.
لم يقل “سوف لا تقدرون أنتم أن تأتوا” بل “لا تقدرون أنتم أن تأتوا” (34)، لأنهم في ذلك الحين لم يكونوا قادرين على هذا. ولكي يعرفوا أنه لم يقل هذا لكي يسبب لهم يأسًا قال هكذا لتلاميذه: “حيث أذهب لا تقدرون أنتم أن تأتوا” (يو 13: 33). مع هذا في صلاته من أجلهم قال: “أيها الآب، أريد حيث أكون أنا يكونون هم أيضًا” (يو 17:4). وأخيرًا شرح ذلك لبطرس وقال له: “حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيرًا” (يو 13: 36).
القديس أغسطينوس
حتى في الحياة الحاضرة إن تصرف جندي بغير لياقة مع ملكه، فإنه لن يقدر أن يرى الملك، إنما يُعزل من سلطته وينال عقوبة عنيفة. لذلك نحن إن سرقنا أو طمعنا أو أسأنا إلى الآخرين، إن لم نمارس أعمال الرحمة لن نستطيع أن نذهب إلى هناك، بل نعاني مما حدث مع العذارى (الجاهلات). فحيث يوجد هو لا يستطعن أن يدخلن بل يتقاعدن، تنطفئ مصابيحهن، أي تفارقهن النعمة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فقال اليهود فيما بينهم:
إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟
ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين، ويعلم اليونانيين؟” (35)
ظنوا أنه يتحدث عن تركه لليهودية وانطلاقه إلى شتات العالم يكرز بين اليهود المشتتين في دول كثيرة يحملون ثقافة يونانية، ويستخدمون الترجمة السبعينية اليونانية. وكان يهود اليهودية يطلبون تنقية اليهود من الفكر الهيليني (اليوناني)، ولعله قصد هنا ذهابه إلى الأمم الوثنيين ليكرز لهم.
ما هو “شتات اليونانيين”؟ هكذا كان اليهود يدعون الأمم، لأنهم كانوا مبعثرين في كل موضع، وممتزجين الواحد مع الآخر دون شبع. هذا الخزي سقط بهم هم أنفسهم بعد ذلك، إذا صاروا في شتات… بعد قولهم هذا لاحظوا كيف أنهم لم يقولوا عنه انه ذاهب لكي يهلكهم بل “ليعلمهم”. إلى هذه الدرجة اسقطوا غضبهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
بالحقيقة كان الرب ذاهبًا إلى الأمم (اليونانيين)، ليس بحضوره الجسدي، وإنما بقدميه. ما هاتان القدمان؟ هاتان اللتان أراد شاول أن يطأهما باضطهاده عندما صرخت الرأس إليه: “شاول، شاول لماذا تضطهدني؟” (أع9: 4).
هذا ما يقول عنه الرب أنهم لا يعرفون الموضع – إن صح القول أنه موضع – الذي هو حضن الآب، هذا الذي لن يفارقه المسيح، ولم يكونوا كفء أن يدركوا أين كان المسيح، الذي منه لن يُسحب قط المسيح، فإلى حيث هو ذاهب كان هو أيضًا قاطنًا.
كيف يمكن للقلب البشري أن يدرك هذا؟
وبالأكثر كيف يمكن للسان أن يشرحه؟
هذا لم يدركوه قط، ومع هذا سبقوا فأعلنوا عن خلاصنا بأن الرب يذهب إلى شتات الأمم، ويحققوا ما قرأوه ولم يفهموه. “شعب لم أعرفه خدمني، بسماع الأذن أطاعني” (مز 18: 14). هؤلاء الذين كانوا أمام عينيه لم يسمعوا له، والذين سمعوا بآذانهم كان صوته يرن فيها.
القديس أغسطينوس
“ما هذا القول الذي قال: ستطلبونني ولا تجدونني،
وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟” (36)
لا يقولون أنه سيصعد إلى السماء، مع أنهم سمعوا بوضوح: “أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني” (٣٣). لكنهم يتخيلون مدينة اليونانيين كأن الآب أرسله في وسطهم…
إنهم كمن يتنبأون، وهم لا يدرون بما يقولون، إذ تحركوا بدافعٍ إلهيٍ ما، فيقدمون المسيح إلى مدينة الأمم خلال الشك، مفكرين فيما يكون بعد قليل حقيقةً.
إنهم بهذا يلقون عليه وصمة عارٍ، كأنه قد تعدى الناموس فعلاً… وأن ذلك فيه نقض للنواميس الإلهية وعدم مبالاة بالأمور.
القديس كيرلس الكبير