عَ مدار الساعة


من الأرض أرضي، ومن الأرض يتكلم.. والذي يأتي من السماء، هو فوق الجميع..


ما غضب اللَّه إلا الغضب الذي تقبله آدم أولاً.. فلا نتباطأ في الشركة معه بنعمة اللَّه؟ (أغسطينوس)
♰♰♰
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين (يوحنا البشير ٣: ٣١-٣٦)

“الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع،
والذي من الأرض هو أرضي،
ومن الأرض يتكلم.
الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع”. (31)

العريس النازل من السماء (يو ٣: ١٣) هو فوق الكل، أعظم من موسى والأنبياء ومن يوحنا المعمدان نفسه.
يتحدث يوحنا عن نفسه عندما يقول: “الذي من الأرض”، لأنه وُلد كسائر البشر؛ لا يقدر أن يتكلم بما ينطق به المسيا السماوي، إنما يمهد للسماوي. ليس من وجه مقارنة بين الأنبياء (ومن بينهم يوحنا المعمدان) والسيد المسيح. فالأنبياء وإن شهدوا للحق لكنهم كبشر يتكلم الله بهم على الأرض، أما المسيح فيتكلم من السماء لأنه سماوي.

أراد أن يبين لنا أن المسيح لا يحتاج إلى أحد إذ هو كفء لذاته وهو أعظم من الكل… بقوله: والذي من الأرض هو أرضي، ومن الأرض يتكلم” يعني به ذاته… أرأيت كيف أن يوحنا المعمدان لم يقل قولاً آخر إلا أنه صغير، وآت من الأرض، وفي الأرض وُلد؟ أما المسيح فجاء إليهم من السماء، فبهذه الأقوال كلها أخمد حسدهم.
كأنه يقول: إن قورنت أموري بأمره تبدو قليلة وهابطة وفقيرة كما لو كانت تحمل طبيعة أرضية. (القديس يوحنا الذهبي الفم)

إذ يتحدث عن الإنسان فيه (في يوحنا) فهم أرضي يستنير باللَّه.
لو لم يستنر لبقي أرضًا ومن الأرض يتكلم…
لتأتِ نعمة اللَّه وتنير ظلمته، كما قيل: “أنت تنير سراجي يا رب، لتنر ظلمتي يا إلهي” (مز18: 28).
لتأخذ فكر الإنسان وتحوله إلى نورها، ففي الحال يبدأ يقول مع الرسول: “لا أنا بل نعمة اللَّه التي معي” (1 كو 15: 10)، “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا 2: 20)…
هكذا يوحنا، بكونه يوحنا هو من الأرض، ومن الأرض يتكلم، وأما ما تسمعه من إلهيات من يوحنا، فهو من ذاك الذي ينيره، وليس من ذاك الذي يستلمه. (القديس أغسطينوس)

“وما رآه وسمعه به يشهد،
وشهادته ليس أحد يقبلها”. (32)

ما ينطق به الأنبياء إنما يشهدون لما يخبرهم به الله بطريقة أو أخرى، أما ما ينطق به السيد المسيح فهو يعلن ما يراه ويسمعه، إذ هو غير منفصل عن الآب، هو الحق ذاته.
v “الذي يأتي من السماء، هو فوق الجميع. وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها” (31-32)… له الآب، بكونه ابن اللَّه. له الآب ويسمع الآب… هو كلمة الآب. (القديس أغسطينوس)

“ومن قبل شهادته، فقد ختم أن اللَّه صادق”. (33)
أرسل يوحنا تلاميذه إلى المسيح حتى وهو في السجن لكي يرتبطوا به… الآن إذ يتحدث المسيح بكلمات الله فإن من يؤمن ومن لا يؤمن، يؤمن بالله أو لا يؤمن به. لأن الكلمات “فقد ختم” تعني “قد أعلن”. ولكي يزيد فزعهم يقول إن “الله صادق”، مظهرًا أنه ليس من أحد يقدر أن يرفض الإيمان بالمسيح دون أن يتهم الله كأنه يرتكب بطلانًا. (القديس يوحنا الذهبي الفم)

“لأن الذي أرسله اللَّه يتكلم بكلام اللَّه،
لأنه ليس بكيلٍ يعطي اللَّه الروح”. (34)

تتقبل البشرية روح الله بكيل حسب ضعف إمكانياتها، أما السيد المسيح فيتقبله بغير كيلٍ لأنه واحد معه، مستقر فيه.

قول يوحنا المعمدان عن المسيح: “لأن الذي أرسله الله، يتكلم بكلام الله”، إذ أن المسيح لا يقول قولاً خارج أقوال أبيه، لكنه يقول أقوال الله، فمن يخالف هذا الابن فقد خالف أباه الذي أرسله، أرأيت كيف يلذعهم بهذه الأقوال؟
يقول: “لأنه ليس بكيل يعطى الله الروح”، أي أننا أخذنا كلنا فعل الروح بكيل وبمقدار، أما المسيح فقد امتلك الروح كله كاملاً دون أن يكون بمقدار.

يقول يوحنا الإنجيلي عن الابن “إنه لا يعطي اللَّه الروح بكيلٍ” (يو 34:3) للذين يستحقون. إذن لا يوجد مكيال لدى الابن، فهو لا يُمكن قياسه بل يفوق كل المقاييس لأنه اللَّه، فكيف يُقاس الذي لا يُقاس ويُوصف بأنه أقل؟ (القديس كيرلس الكبير)

كتب الذهبي الفم: “بالروح يعني هنا الطاقة ” فإننا جميعًا ننال طاقة الروح بقياس، أما المسيح فله كمال الطاقة بلا قياس، بل في كمالها. فإن كانت طاقاته بلا كيل فبالأكثر يكون جوهره. يدعوه الطاقة، الروح أو بالأحرى ذات روح الله كما قال المعمدان، وبالقول أن الطاقة بلا كيلٍ يشير إلى طبيعتها غير المخلوقة. بقوله نحن نقبلها بقياس يشير إلى اختلاف الطاقة غير المخلوقة بالنسبة للجوهر غير المخلوق… الآن إن كانت طاقة الروح بلا كيل كم بالأكثر يكون الجوهر. (الأب غريغوريوس بالاماس)

يميز القديس يوحنا المعمدان بين إرساليته وإرسالية السيد المسيح. إرسالية يوحنا المعمدان هي إرسالية اللَّه لرسول بشري، يتكلم ويشهد قدر ما ينال من نعمة. أما إرسالية المسيح فهي إرسالية ابن اللَّه وكلمته الواحد معه، وحده يرى الآب كما هو، وقادر أن يشهد له، روحه القدوس هو روح الآب القدوس، لذا لا يناله بكيلٍ كما الأنبياء أو الرسل أو المؤمنون بوجه عام.

“لأنه ليس بكيلٍ يعطي اللَّه الروح” (34). اسمع ما يقوله الرسول: “حسب قياس هبة المسيح” (أف4: 7). بالنسبة للبشر يعطي بقياسٍ، وبالنسبة للابن الوحيد لا يعطى بكيلٍ. كيف يعطي للبشر بقياس؟ “فإنه لواحدٍ يعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة…” (1 كو12: 8 الخ)… أما المسيح الذي يعطي فهو يتقبل بلا كيل. (القديس أغسطينوس)

“الآب يحب الابن،
وقد دفع كل شيء في يده”. (35)

يظهر يوحنا المعمدان أن يسوع فوق كل معلمٍ أو نبيٍ أو رسولٍ إلهيٍ بغير حدود. نال بعض الأنبياء مواهب معينة وآخرون رؤى معينة وآخرون أحلامًا، وآخرون موهبة التعليم، وآخرون موهبة التعزية الخ، أما السيد المسيح فهو وحده فله كل شيء في يده.

“الآب يحب الابن” (35)، ولكنه كآبٍ يحب وليس كسيدٍ يحب خادمه، بل بكونه الابن الوحيد الجنس وليس ابنًا بالتبني… لذلك إذ تنازل وأرسل لنا الابن لا نتخيل أن هذا الأمر أقل من الآب المُرسل إلينا. إذ يرسل الآب الابن، يكون كمن يرسل نفسه الآخر (إذ هو واحد معه ومساوٍ له). (القديس أغسطينوس)

“الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية،
والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة،
بل يمكث عليه غضب اللَّه”. (36)

يقول يسوع: “أنا هو الباب” (يو 6:14؛ 9:10)، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي”، “لا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له” (مت 27:11)، فإن أنكرت من يعلن لك تبقى في جهل.

لقد جاء في الإنجيل العبارة التالية: “الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله” (يو 36:3). فالآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. فإن كان الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده، فإن احتقر أحد ابنه الوحيد فمن يقدر أن يطفئ غضب الآب من أجل ابنه الوحيد؟! (القديس كيرلس الأورشليمي)

قد يقول قائل: فهل يكفي أحدنا أن يؤمن بالابن فيمتلك حياة أبدية؟ نجيب: لا يمتلكها بجهة من الجهات، لأن المسيح نفسه يقول: “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات” (مت 7: 21). فلو أن أحد الناس يؤمن بالآب والابن والروح القدس إيمانًا قويمًا ولا يسلك في حياة تقوية، لا يحصل له من إيمانه ولا على فائدة واحدة تبلغ به إلى خلاصه. فلا تظن أن الإيمان بالابن فيه كفاية لخلاصنا، لكننا نحتاج إلى حياة قويمة مهذبة وطريق نقي طاهر. (القديس يوحنا الذهبي الفم)

عندما يؤمن أحدٍ يعبر غضب اللَّه وتحل الحياة. إذن أن تؤمن بالمسيح هو أن تقتني الحياة، لأن من يؤمن به لا يُدان (يو 13:3). لكن بالنسبة لهذه العبارة يتذرعون بأن من يؤمن بالمسيح يلزمه أن يحفظ وصاياه، ويقولون أنه مكتوب في كلمات الرب نفسه: “أنا جئت نورًا لهذا العالم، فمن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة. وإن سمع أحد كلمتي وحفظها لا أدينه” (راجع يو 47:12). (القديس أمبروسيوس)

لم يقل: “يحل عليه غضب اللَّه”، بل يقول: “يمكث عليه غضب اللَّه”. كل الذين ولدوا هم قابلون للموت، يرافقهم غضب اللَّه. ما هو غضب اللَّه إلا الغضب الذي تقبله آدم أولاً… من هذه السلالة جاء الابن، بلا خطية، والتحف بالجسد وقبول الموت. إن كان قد شاركنا غضب اللَّه، إذ حمل خطايانا، فلماذا نتباطأ في الشركة معه بنعمة اللَّه؟ إذن من لا يؤمن بالابن، يمكث عليه غضب اللَّه. أي غضب للَّه؟ هذا الذي يقول عنه الرسـول: “كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا” (أف 2: 3). الكل هم أبناء الغضب، لأنهم جاءوا من لعنة الموت.
آمنوا بالمسيح، فمن أجلكم صار قابلاً للموت.
لقد عاش وأنت كنت ميتًا.
لقد مات لكي ما تحيا أنت.
لقد جلب نعمة اللَّه ونزع غضب اللَّه.
غلب اللَّه الموت، لئلا يغلب الموت الإنسان. (القديس أغسطينوس)

وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح