أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


الأب بشارة الخوري يسلّط الضّوء على “دور الجامعات في زمنِ الأزمات”

“تتوالى الأزماتُ على بَلدِنا، تفعَلُ فيه فِعلَها، وتخلّفُ آثارًا سلبيّةً بليغةً لا نلبَثُ أن نعتادَها ونتكيَّفَ معها، ثُمَّ نحاوِل أفرادًا ومجموعاتٍ صغيرةً أن ننهضَ من كبوتِنا، مُتَمثّلينَ بطائرِ الفينيقِ المسكينِ الذي – على ما أعتقِدُ – ضاقَ ذرعًا بِنا، بكونِنا أتْعبناهُ كثيرًا، وكأنّي به يصرُخُ راجيًا مُستَغيثًا: “أيُّها اللّبنانيّاتُ واللّبنانيّون كفاكُم، هلمّوا، أُنْظروا إلى الأمام، استشرِفوا غَدَكم، خطّطوا، تحسَّبوا، اتّحدوا، ولا تنتظروا وقوعَ المصيبةِ وحلولَ الأزمةِ لكي تُسارعوا لِفعلِ شيءٍ آنيٍّ، مُزَعزَعٍ، ضعيفٍ، مُتّكلينَ عليَّ لإنهاضِكُم من رمادِكُم الذي دفنتُم أنفُسّكم تحْتَهُ نتيجةَ لا وعيِكم وتشرذُمِكم وعدمِ رؤيتِكم، ولأسبابٍ كثيرةٍ غيرها…” بهذه المقدّمة استهلّ رئيس جامعة سيّدة اللّويزة الأب بشارة الخوري كلمته عن دور الجامعات في زمنِ الأزمات التي تعصف ببلدنا.

وتابع: “كفاكم يا هذا الشّعبُ، دعوني أعيشُ بسلامٍ مرفرفًا في فضاء الحرّيّةِ، فقد سئمتُ الرّمادَ…

عذرًا يا ذا الطّائرُ المسكينُ، إنّنا ظلمناكَ كثيرًا … وإذا كان كثيرونَ لا يريدون سماعَ نوائِكَ واستغاثتِكَ، وقد صمّوا آذانَهم عن وجَعِكَ ووجَعِ الوطنِ وأجيالهِ، وعن وجَع التّاريخِ والقلقِ على المستقبل،

غيرَ أنّنا نحنُ قد سَمِعْناكَ وأدركْنا ما تقول… 

نعَمْ، نحن في جامعاتِنا، وفي هذا الوقتِ بالذّاتِ، حيثُ لا زِلْنا نعيشُ أزمةً بل أزماتٍ، وحيثُ كان وقْعُها علينا، كما على سوانا من المؤسّساتِ وفي غيرِ قطاعٍ، قاسيًا جدًّا لأنّنا لم نتَحَسّبْ لَها، ولأنّنا تعلّمنا درسًا بعناوينَ متعدِّدةٍ وقد أجابَ عن جُملَةِ تساؤلاتٍ أبرزُها:

•        إذا كُنّا نحن في كُلِّ جامعاتِ لبنان لم نمتلِكْ حِسَّ إمكانيّةِ حصولِ أزمةٍ وطنيّةٍ كبرى طالتِ الجميع، في حينِ نعتبرُ أنفسَنا نُخبَويّين، فمن تُراهُ كانَ سيُدرِكُ ذلك مُسْبقًا؟

•        تُرى، أيُّ دورٍ تاريخيّ ووطنيّ كبير لَعِبَتْهُ جامعاتُ لبنان في تلكَ الأزماتِ وفي هذهِ الأزماتِ؟

•        ألَمْ يكُن ما حصل ولما يزَلْ، سببًا كافيًا لاتّحادٍ جامعيّ فعليّ فاعلٍ وفعّالٍ؟

•        وبَعْدُ، وعودًا على بَدْءٍ، ألا تَرَوْنَ معي يا أيُّها القيّمونَ على جامعاتِ لبنانَ أنَّ لها دورًا عظيمًا في زمنِ الأزماتِ؟

بَلْ لَها في اعتقادي أكثرُ من دورٍ في زمنِ الأزماتِ وقبلَهُ وبعدَه.

وأرى أنّهُ لا يختلِفُ إثنانِ في دورٍ أساسٍ وطبيعيّ، وهو السّعيُ المُستدامُ إلى رَفْعِ المستوى التّعليميّ وَدَفْعِهِ إلى مواكبة عَصْرِهِ… ولا ننْسى، بل لا نُنْكِرُ أنّ هذا المستوى قد تأذّى، وربّما بقوّةٍ في بعضِ جوانِبِه ومفاصلِه بفعلِ أزمات لبنانَ. وَلَمْ تسلَمْ منْ أذيّةِ هذهِ الأزماتِ الكياناتُ الجامعيّةُ بِكُلِّ مَنْ وما فيها، ولعلَّنا نكونُ قد أخَذْنا عِبْرَةً للزّمَنِ الآتي…

وهُنا لا بُدّ من الإشارةِ إلى مادّةٍ ببندَيْنِ إثنينِ وعنوانُها مدُّ اليَدِ إلى الخارجِ، مرَّةً لاستجلابِ اعتماداتٍ هي سيفٌ ذو حدّينِ، فبمقابِلِ تشكيلِها قيمةً مُضافةً إلى شهاداتِنا الجامعيّةِ اللّبنانيّةِ، فإنّها تحرِمُنا وتحرِمُ لبنانَ من قدراتِ حامليها وكفاءاتهم وإمكانيّةِ استثمارهم كموارِدَ بشريّةٍ على أرضِ الوطن، وذلك بفعلِ هجرة هذه الموارد، ومرّةً لِطَلَبِ دَعْمٍ ماديٍّ من مقتدرين في الخارج، من أبناءِ الجاليةِ وبناتِها، ومن هيئاتٍ ومَحافِلَ دوليّةٍ… وهي بالطّبعِ لم تبخلْ علينا إبّانَ أزماتِنا، ولا زِلْنا ننتظرُ منها الكثير.

وبَعْدُ، وفي سياقِ الكلامِ على المستوى، ولا بُدَّ لي من التّطرُّقِ إلى دور الجامعاتِ في اسْتِشرافِ المستقبَلِ، وكلُّ مستوى مطلوب يَصُبُّ في هذهِ الخانةِ التي ترقُبُ المستقبَلَ وَتَرصُدُه…

نَعَمْ، للجامِعاتِ دورٌ كبيرٌ جدًّا في صناعةِ المستقبَلِ، وهذا الدّور يتجلّى في عَدَدٍ من المهامِّ المطلوبَةِ من كلِّ جامعةٍ من جامعاتِنا حتّى من الجامعةِ الوطنيّةِ اللّبنانيّةِ إذا استطاعَتْ ذلك.

وأُولى هَذهِ المهامِّ هي أن نُخرِج من الجامعات كمؤسّساتٍ تعليميّةٍ تمتلِكُ خبراتٍ معرفيّةً ما تمتلِكُهُ إلى العَلَنِ في زَمَنِ الأزماتِ لإلقاءِ الضّوءِ على ما يجري، وتبيانِ حقائقِ الأمورِ للنّاسِ.

ويبقى السّؤالُ: ترى هل فَعَلَتْ جامعتُنا هذا؟ وجوابي هُوَ لا، باستثناءِ إطلالاتٍ تقليديّةٍ خجولةٍ لم تَكُنْ كافيةً لتشكيل صندوقٍ أسودَ تجتمعُ فيهِ شتّى الحلولِ الممكنةِ، فيستعانُ بمخزونِهِ في زمنِ الأزماتِ.

أمّا ثاني هذه المهام فهي أنّها كانت وَضْعُ خُطَطٍ استراتيجيّةٍ للجامعاتِ ذاتِ منهاجٍ يراعي وظيفةَ خدمةِ المجتمَع في شتّى ظروفِهِ وأحوالِهِ، ويتوقّعُ ما يمكنُ أن يكونَهُ الغَدُ الآتي… آخِذة بالاعتبارِ الظّروفَ الاستثنائيّةَ كالحروب والثّوراتِ والأزماتِ على أنواعِها التي تشكِّلُ مدخلاتِ النّظام، بحيثُ تتمكّنُ الجامعاتُ من أن تكونَ هي المخرَّجاتِ في إطارِ التّغيُّراتِ.

صحيحٌ أنّ جامعة سيّدة اللّويزة التي انضمّت إلى نادي الجامعات العالميّ من خلال نيلها الاعتماد المؤسّساتي الأرقى NECHE، أصبح لديها المسؤوليّة بأن تلعب دورًا رياديًّا ومركزيًّا في إعادة تحصين وتفعيل ركيزة التّعليم العالي في لبنان، وإعادته جامعةَ الشّرق وأكثر.

ومن أدوار الجامعاتِ أيضًا دعمُ الأبحاثِ وتأثيراتِها، والتّشجيعُ على التّطويرِ التّكنولوجيّ لإيجادِ حلولٍ فَعّالةٍ لما يمكِنُ أن يطرأ في الآتي من الأيّام. وحريّ بالجامعاتِ توفيرُ المعارِفِ اللّازمةِ من خِلالِ تقديمِ المعلوماتِ والخبراتِ الضّروريّةِ للتّصدّي للأزماتِ من خلالِ برامجها التّعليميّةِ، وتوعيتها على التّعامُلِ مع الأزماتِ.

ولا نغْفَلُ ضرورةَ إطلاقِ برامجَ تعليميّة تعتمدُ على تعزيزِ المهاراتِ المطلوبةِ في مستقبلِ العملِ كالتّفكيرِ التّحليليّ، النّقديّ والإبداعيّ، وتطوير كلّ ما يندرِجُ تحتَ عنوانِ مهاراتِ التّفكير المستقبليّ، لتطويرِ حلولٍ جديدةٍ للتّحدّياتِ المستقبليّةِ.

إلى ما تقدّمَ، فإنَّ جامعتِنا مدعوّةٌ اليومَ قبْلَ الغدِ، إلى الانشغالِ بِهَمٍّ كبيرٍ وهو العمل على تكوينِ وتشكيل واستخراجِ طبقةٍ سياسيّةٍ مُنتِجةٍ أكثر ممّا هي مُسْتَهْلِكَةٍ للسّلطة، وإنّني لَمُقتَنِعٌ جدًّا أنَّ طلّابنا شبابًا وشابّاتٍ يمتلكونَ القابليَّةِ لأن يكونوا نواةَ هذهِ الطّبقةِ السّياسيّة المختلفةِ عن الطّبقةِ الحاليّةِ التي باتَ معظَمُ عناصِرِها مُنتَهيَ الصّلاحيّةِ؛ عتيقًا، باهتًا، سخيفًا، مسطَّحًا، يجتَرُّ المواقِف، يُرغي ويُزيدُ ولا يُخرِجُ شيئًا ذا قيمةٍ، يعيشُ على هامشِ التّاريخِ، متلهّيًا بالقشورِ والفُتاتِ، ولا يعنيهِ إطلاقًا أنْ يَدْخُلَ التّاريخ من بابِ المستقبلِ وصناعتِه…

من هُنا، أرى أنَّ من أكْثَرِ أدوارِ الجامعاتِ الدّفع بطلّابها إلى الانخراطِ التّامّ في الحياةِ السّياسيّةِ، ذلكَ لأنّني مؤمِنٌ جدًّا، وبقوّةٍ، أنّ القياديّينَ يُصنَعونَ في الجامعاتِ ومنها ينطلقون… ووصولاً إلى تحقيقِ هذينِ الهدفِ والغايةِ، فإنّنا، كجامعاتٍ، مدعوّون إلى تدريبِ طلّابِنا على صُنْعِ القرارِ، وعلى تزويدهم بمهاراتِ الحوار، وتشجيعِهم للقيامِ بأنشطةٍ قياديّةٍ داخِلَ حرمِ الجامعةِ وخارجَها…

ونحن مدعوّون أيضًا إلى تطويرِ برامِجَ دراسيّةٍ تشمَلُ مجموعةً واسعةً من المواضيعِ السّياسيّةِ بما فيها النّظريّاتُ السّياسيّة، التّاريخُ السّياسيُّ والعلاقاتُ الدّوليّةُ، وذلك لتعزيز الوعي السّياسيّ والثّقافة السّياسيّة…

نَعَمْ للجامعاتِ دورٌ فكريٌّ يتسلّلُ إلى العقولِ ويُسهِمُ في التّأثير، يقوّي السّلطة ولو بشكلٍ غير مباشِرٍ أحيانًا…

وفي زمَنٍ أرى فيه أنَّ أكبرَ أزماتِ لبنانَ هي أزمةُ الفكر السّياسيّ العميق لدى من يتعاطونَ السّياسة من داخل السّلطة وخارِجَها، وحيْثُ إنّني لم أقَعْ في السّنواتِ الأخيرةِ على كتابٍ قَيِّمٍ يعكِسُ فِكْرَ هؤلاءِ السّاسةِ، أراني توّاقًا إلى زَمَنِ “النّدوةِ اللّبنانيّةِ” التي تجلّت فيها قوّةُ المفكّرين، ومنها انبثقَتْ مظاهِرُ الحركةِ الفكريّةِ والثّقافيّةِ في لبنان… فأينَ نحنُ منه اليومَ؟ 

خِتامًا، عسى أنْ نَجِدَ جامعاتِنا في المستقبَلِ تُناقِشُ ما يجرى في مجتمعِنا من مشاكل، وتَضَع الحلولَ وتطرح البدائلَ وتوصي بما يجِبُ عَمَلَهُ… وتُنتِجُ استراتيجيّاتٍ تعزّز الانتاجيّة… وعسانا نُطلِقُ مشاريعَ تحفيزيّة لطلّابنا لكتابةِ وثائقَ تُعبِّرُ عن رؤيتِهم السّياسيّةِ في غدٍ قريبٍ لا يُشبِهُ أمْسَهُم…”.