تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لدورنا الإيجابي في الملكوت (متى ١٦: ٢٤-٢٨)
إن كان السيّد قد دفع تكلفة الملكوت على الصليب، فإنّنا لا ننعم بهذا الملكوت ولا ننمو فيه ما لم نشترك إيجابيًا فيه بحمل الصليب مع عريس الملكوت المصلوب. لهذا يكمّل السيّد حديثه مع تلاميذه عن صلبه بالتزامهم بحمل الصليب، إذ يقول الإنجيلي:
“حينئذ قال يسوع لتلاميذه:
إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه،
ويحمل صليبه ويتبعني” [24].
وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: أن السيّد المسيح بهذا قد وبّخ القدّيس بطرس الذي انتهره عن حمل الصليب، [كأنه يقول لبطرس: أنت تنتهرني لأني أريد أن أتألّم، لكنّني أخبرك بأنه ليس فقط من الخطأ أن تمنعني عن الآلام، وإنما أقول لك أنك لن تقدر أن تخلُص ما لم تمُت أنت أيضًا.]
إن كان ملكوت السموات هو التبعيّة للمسيّا الملك، فإنه لا يقدر أحد أن يقبل هذه التبعيّة ما لم يدخل دائرة الصليب، ويحمل سمات الملك نفسه، أي الصليب. يلتزم أن ينكر نفسه أو يجحدها أو يكْفر بها، فتُصلب ذاته على الصليب، لا ليعيش في ضعف وضيق بلا أحاسيس أو مشاعر أو إرادة، وإنما وهو يدخل بالروح القدس إلى صليب السيّد يموت عن ذاته، ليحمل السيّد نفسه في داخله. تختفي الإرادة البشريّة الضعيفة، لا ليعيش بلا إرادة، إنّما تحلّ إرادة المسيح الحكيمة والقادرة لتعمل فيه. ولا ليعيش بلا أحاسيس أو عواطف إنّما وهو يموت عن هذه جميعها يتقبّلها جديدة من يديّ الآب بالروح القدس، فتكون له أحاسيس السيّد المسيح نفسه ورقَّته ووداعته وحنوُّه، ليحيا حاملاً سمات المسيح متجلِّية فيه. هذا هو مفهوم الصليب أنه يحمل خسارة، لكن في الحقيقة هو مكسب، وفيما يبيع المسيحي كل شيء يقتني ما هو أعظم. لذلك يقول السيد: “فإنّ من أراد أن يخلّص نفسه يُهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟! أو ماذا يُعطي الإنسان فداء عن نفسه؟!” [25-26].
هذا هو الطريق الملوكي الحق الذي فيه يحتمل كل تعب، حتى هلاك حياته الزمنيّة، ليجد نفسه متمتّعا بما هو فائق للحياة، وفيما هو يترك العالم يقتني ما هو أعظم.
إنه أخذ مستمر خلال الترْك والتخلِّي! لذلك كتب القدّيس أغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل روما هكذا [ماذا تفيدني ملذّات العالم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العالم؟ إني أُفضِّل أن أموت مع المسيح من أن أملك أطراف المسكونة، إني أطلب المسيح الذي مات من أجلنا، وقام أيضًا من أجلنا. قد قربت الساعة التي سأُولد فيها، اغفروا لي يا إخوتي، دعوني أحيا، اُتركوني أموت. إني أريد أن أكون لله. لا تتركوني في العالم، لا تتركوني ومغريات الأرض. دعوني أبْلغ إلى النور النقي.]
ماذا يعني إنكار الإنسان نفسه؟
ينكر الإنسان ذاته عندما لا يهتمّ بجسده متى جُلد أو احتمل آلامًا مشابهة، إنّما يحتملها بصبر. (القدّيس يوحنا الذهبي الفم)
إذ يحب أحد الله يبغض ذاته أي إنساننا الجسداني… ففي داخلنا وفي أفكارنا وقلوبنا وإرادتنا قوّة غير عادية تعمل دائمًا كل يوم وفي كل لحظة لتسحبنا من الله؛ تقترح علينا أفكارًا ورغبات واهتمامات ونيّات ومشاغل وكلمات، وأعمال باطلة تثير فينا الشهوات وتدفعها بعنف فينا؛ أقصد المكر والحسد والطمع والكبرياء والمجد الباطل والكسل والعصيان والعناد والخداع والغضب. (الأب يوحنا من كرونستادت)
الملكوت الأخروي
يختم السيّد حديثه عن بناء ملكوت السماوات كحياة داخليّة نعيشها هنا بالإعلان عنه كملكوت أُخروي أبدي، هو في حقيقته ليس غريبًا عن الملكوت الداخلي بل اِمتداد له. فما نعيشه الآن في المسيح يسوع خلال الإيمان ننعم به في كمال المجد خلال القيامة أخرويًا، إذ يقول: “فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله” [27].
الحياة الملكوتيّة التي نعيشها هنا وننعم بها ما هي إلا عربون للحياة الخالدة الممتدّة فوق حدود الزمن حين يظهر السيّد المسيح الملك مع ملائكته ليجازي كل واحد حسب عمله. إن كان الإيمان هو أساس الملكوت إلا أنه يلزم أن يكون “عمليًا” حتى يقدّم لنا السيّد الأكاليل الأبديّة مجازيًا “كل واحد حسب عمله”.
وإذ أراد أن يدخل بتلاميذه إلى هذا الملكوت بطريقة ملموسة سمح لثلاثة من تلاميذه أن ينعموا بتجلّيه ليختبروا لحظات من الحياة الملكوتيّة الأخرويّة، إذ يقول: “الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته” [28]. ويرى القدّيس أمبروسيوس أنه يليق بالمؤمن أن ينعم بالتمتّع بهذه الحياة السماويّة في عربونها وهو بعد على الأرض، إذ يقول: [ليس أخنوخ وحده حيّ، إذ ليس بمفرده أُخذ إلى فوق لكن بولس أيضًا أُخذ إلى فوق ليلتقي بالمسيح.] وكأنه يليق بنا أن نتمتّع بارتفاع النفس إلى فوق لتحيا مع السيّد المسيح السماوي فلا يغلبها الموت إلى الأبد.
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح