-لم يكن إفشال عهد عون هدفاً للأميركيين إلا لكونه حليفاً لحزب الله***
يبدو انتصار تموز بكل عظمته، وما تلاه من انتصار أسطوريّ على التكفيريين في سوريا والمنطقة، مجرد محطتين أساسيتيْن على طريق ما هو قيد التحقّق اليوم، لجهة الترسيم والالتزام الأميركي – الفرنسي – القطري بتفعيل وتسريع التنقيب في الحقول اللبنانية. ورغم أن ما يحصل يبدو في غالبيته دبلوماسياً – اقتصادياً– خارجياً، إلا أنه يمثل في واقع الصراع في المنطقة ولبنان انعطافة هائلة في المعادلات
حين انتُخب ميشال عون رئيساً للجمهورية، غداة الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني، أُقِرَّ المطلب السياسي الإصلاحيّ الأول المتمثّل بنظام الانتخاب النسبيّ (بمعزل عن الإصلاحات الضرورية بشكل دوري ودائم لقانون الانتخابات) وأجريت الانتخابات، وفي الأمن، طويت صفحة التكفيريين وصفحات التشنّج الطائفي، وأُقرت مراسيم النفط، وانتظم إصدار الموازنات، وبدأت الكتل النيابية البحث في محرّمات مزمنة، مثل حق المرأة بإعطاء الجنسية لأولادها، وإنشاء محكمة خاصة بالجرائم المالية. بدا لوهلة كأنّ كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح، باستثناء ملف الكهرباء طبعاً، حتى زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبيروت في آذار 2019، في إطار جولة تمهيدية لمؤتمر صفقة القرن الذي عُقد في 25 حزيران 2019.
(هيثم الموسوي)
مع خروج بومبيو من باب القصر خائباً بدأ الأميركيون استراتيجية الأرض المحروقة: امتنعت شركة توتال عن الالتزام بعقود التنقيب، وتحوّلت الحرائق الموسمية المتكررة إلى حدث استثنائي، وصادرت المصارف أموال اللبنانيين وودائعهم، وأُقفلت أبواب دول عربية أمام الصادرات اللبنانية، ومُنعت مصر والأردن من الالتزام بتزويد لبنان بالغاز لتشغيل معامله عملاً بالاتفاقيات الموقّعة مع لبنان منذ سبع سنوات، وتحوّل تفجير المرفأ إلى منصة للتحريض المسيحيّ – الشيعيّ والتعبئة، وشهر الأميركيون سيف العقوبات، في وقت كانت ذراعهم المالية المتمثّلة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة تتنقّل بين البنزين والمازوت والدواء والخبز والكهرباء لافتعال أزمات متتالية.
في القصر الجمهوري “لم يكن ثمة إنَّ” في الموضوع؛ كان واضحاً جداً من يفتعل هذا كله، معتقداً أن عشرات الملاحقات المسرحية المصوّرة للمسؤولين العونيين ستنتج كرة ثلج شعبية تطيح على نحو دراماتيكيّ بالعونيين للاستفراد بحزب الله. وكان الرئيس واثقاً أن فشل عهده أو نجاحه ليس هدفاً بحد ذاته للأميركيين، إنما فشل عهد عون بوصفه حليف الحزب هو الهدف والغاية. فلو كان عون صديق الأميركيين الذي ينفذ مطلب وزير خارجيتهم بتوجيه أوامره للقوى العسكرية للبحث عن مخازن الرؤوس الذكية (الخاصة بالصواريخ) لما كانت انسحبت “توتال” ولا استقوت المصارف على اللبنانيين ولا “فرعن” حاكم أو تأخّر غاز؛ لو كان عون صديق الأميركيين الذي يسكت عن دمج النازحين ويسير بركب المطبّعين عشية صفقة القرن لما كانوا موّلوا مجتمعاً مدنياً وإعلاماً وأضاع ديفيد شينكر وقته بتنشئتهم وتغذيتهم وإدارتهم.
في لحظة عاصفة بالتفاؤل، افترض الأميركيون أن الحصار حقّق غايته تماماً، قرروا الذهاب في ملف الترسيم أبعد من انتزاع الحقوق اللبنانية إلى ربط الاقتصاد اللبناني بإسرائيل عبر مبادرات (شجاعة في وقاحتها) كان هدفها الأول والأخير تكليف إسرائيل التنقيب في المناطق المتنازع عليها، لتعود وتعطي من شدة كرمها للدولة اللبنانية مصروفها. وقد فرخ هنا وهناك متخصّصون بالنفط والترسيم والتنقيب ما كان لَفُّهُم ودورانهم حول السيادة يوصلان إلى غير هذا. وقد ذهبوا بعيداً جداً في تفاؤلهم الوقح، من دون أن يدركوا أن من في قصر بعبدا هو ميشال عون وليس ميشال سليمان، ومن في البحر والجو والبر هو حزب الله وليس بولا يعقوبيان وجورج عدوان ووائل أبو فاعور. انتزع الأول ملف التفاوض من الطاولات الجانبية ووضعه على مكتبه الخاص، فيما كثّف الثاني رسائله. ومن معادلة إلى أخرى، كان الحزب والرئيس يكملان عام 2022 ما بدآه عام 2006. أولئك الذين ينتظرون الحرب المقبلة ليروا مقاتلي الحزب يجتاحون المستوطنات المحاذية للحدود للاستقرار في الجليل، عليهم أن يدركوا أن الحزب وعون ذهبا في الأسابيع القليلة الماضية إلى ما بعد بعد الجليل. فقد خرج الفريق المحاصر منذ ثلاث سنوات ليقول للإسرائيليين لن نكتفي بعدم قبول ربط الاقتصاد اللبنانيّ بالقرار الإسرائيلي إنما سنربط الاقتصاد الإسرائيلي بالقرار اللبناني؛ فلا تنقيب في كاريش وما بعد بعد كاريش ما لم يحصل لبنان على حقوقه كاملة. هذه المعادلة البسيطة: “تنقيب مقابل تنقيب” لا “قانا مقابل كاريش” تمثل تحولاً هائلاً على مستوى المنطقة، ولبنان والصراع مع إسرائيل. وفي ظل الخشية الإسرائيلية من الحرب (أولاً) وعدم تحمل الكرة الأرضية لحربين في الوقت نفسه (ثانياً) والحاجة الأوروبية إلى غاز المتوسط في ظل الحرب الأوكرانية (ثالثاً) رضخ الإسرائيلي. وأياً كان ما يقوله بعض اللبنانيين فإن رضوخ الإسرائيلي للمعادلة الكبيرة الجديدة (استمرارية اقتصادكم مقابل نهوض اقتصادنا) موثّق بتصريحات كبار الأمنيين والسياسيين والصحافيين الإسرائيليين.
لم يكن إفشال عهد عون هدفاً للأميركيين إلا لكونه حليفاً لحزب الله
فيما ينشغل كثيرون بصخب فراغهم، طوّر رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل والحزب معادلة الردع لتصبح معادلة بناء اقتصادي، وحوّلا ضعف “الدولة التي لا تملك شيئاً لتخسره” إلى فائض قوة في مواجهة الكيان الذي يملك الكثير ليخشى عليه. وقف الرئيس عون حيث يُحِبّ، على حافة الهاوية، وقال لمهدّديه إنه إذا قبل استقالة الحكومة وغادر القصر في ظل ترسيخ حزب الله لمعادلة الردع عن التنقيب فإن الإسرائيلي لن يجد من يحق له دستورياً توقيع أي اتفاق، ناهيك بأن الاتفاق مع رئيس حليف للحزب شيء والاتفاق مع سواه أمر آخر. وها هو الرجل الذي أرادوا تحميله كل الفشل المتراكم منذ نشأة الجمهورية يتحضّر ليكون رسمياً الرجل الذي وضع الجمهورية على سكة التحول إلى دولة نفطية؛ الرجل الذي أرادوا تحميله مسؤولية الهجرة المتواصلة منذ نشأة الجمهورية بحثاً عن فرص العمل سيكون هو الرجل الذي وضع الجمهورية على سكة النهوض الاقتصادي بكل ما يتضمن ذلك من فرص عمل واحتمالات هجرة مضادة وغيرها. أن يكون عون الرئيس الذي وضع الحجرَ الأساسَ لقيامة لبنان الاقتصادية، سواء وُقِّع الترسيم في عهده أو بعده، إنما هو تفتيت لكل جهود خصومه في الداخل والخارج في السنوات الثلاث الماضية. وهو إذ كان يقول دائماً في النقاشات معه إنه يعود ليربح في الجملة كل ما يخسره بالمفرق؛ فإنه يفتخر بصوابية رهانه على الابتسامة الدبلوماسية من جهة، والصواريخ الذكية والمُسيّرات واستعداد مجتمع المقاومة المنقطع النظير لتعريض نفسه لمخاطر الحرب وويلاتها من أجل ضمان حقوق لبنان وتكريس معادلات استثنائية من جهة أخرى. أرادوا لعون أن يخرج مهزوماً محطّم المعنويات، وها هو اليوم يستعد لمغادرة القصر مزهواً بحفاظ البلد – بفضل بصيرة حليفه – على استقراره في عهده رغم حدة الأزمة الاقتصادية التي كانت ستفتك بالاستقرار الأمني في أكثر الدول مناعة، مسجّلاً فعله كل ما يلزم في التشريعات الدستورية والتدقيق الجنائي وملف الغاز وتعرية حاكم مصرف لبنان لتأمين نهوض اقتصادي حقيقي إذا ما توفّرت الإرادة من بعده.
ومع ذلك، مخطئ جداً من يعتقد أن لبنان قاب قوسين من النهوض الاقتصادي بحكم الالتزام الأميركيّ بالسماح للشركات بالتنقيب في المساحات الاقتصادية اللبنانية. لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن تتحول الولايات المتحدة من استراتيجية الأرض المحروقة إلى دعم الازدهار أو السماح به في ظل موازين القوى السياسية نفسها. ستستنفر الولايات المتحدة أدوات كثيرة لتخريب عملية التنقيب لبنانياً كما سبق وأخّرت عبر هذه الأدوات توقيع مراسيم التنقيب. وعليه تنتهي معركة لتبدأ معركة أخرى.