يشعر الداخل إلى قصر بعبدا هذه الأيّام أنّه يزور “الحدود”. ففي هذا القصر، الذي يحمل إرثاً كبيراً من الذكريات الحاسمة، العونيّة تحديداً، من العام 1990 وصولاً إلى 2022، يرتسم الكثير من أشكال وأنوع الحدود اليوم.
هنا يقيم ملفّ ترسيم الحدود. وهنا الحدود في علاقات لبنان الخارجية، من إيران، إلى العرب، مروراً بأوكرانيا وبيان وزارة الخارجية الذي يدين هجوم روسيا على أوكرانيا. وهنا خطوط الترسيم واتّهام رئيس الجمهورية بالخيانة. وهنا حدود العلاقة بين الدولة وحزب الله. وهنا الحدود الكبرى: هل تُجرى الانتخابات النيابية؟ أم تؤجّل؟ وحدود الولاية الرئاسية: هل تنتهي في موعدها؟ أم تُمَدّد؟
يدرك الرئيس عون حجم الامتعاض العامّ من القوى السياسية، ويكشف أنّ الإحصاءات تُظهر بوضوح هذا الامتعاض: “60% من الذين يُسألون عمّن سينتخبون، يجيبون: لا أحد”
الابتسامة المُرّة
يستقبلكَ رئيس الجمهورية في مكتبه بابتسامة لا تخلو من مرارة. فهو يعتبر أنّ الحرب عليه كبيرة جدّاً. ينقسم اللبنانيون حوله بين فريقين: فريق يتّهمه بأنّه يريد إرساء نظام رئاسي، لأنّه قرّر أن يستخدم ما تبقّى من صلاحيّاته الرئاسية. وفريق يتّهمه بأنّه لا يستعمل صلاحيّاته بما يكفي وكما يجب. “مش مخلّصين مع حدا”، يقول.
ثمّ ينتقل الحديث إلى أوضاع البلاد المتردّية. تسأله عن الانتخابات فيقول إنّ مجلس الوزراء عيّن أعضاء هيئة الإشراف على الانتخابات الشاغرة أماكنهم: “أذهب وأنام مرتاحاً لأنّني قمت بكلّ ما يتوجّب عليّ لإجراء الانتخابات. أمّا إذا أراد أحد تعطيلها فهذا لا يعنيني”.
يتذكّر رئيس الجمهورية المقاطعة المسيحية عام 1992 بعد مغادرته لبنان: “الحالة الوحيدة التي يُخشى فيها أن تتأجّل الانتخابات بسببها هي “المقاطعة السنّيّة”. لا يمكن احتمال المقاطعة السنّيّة. شفنا شو صار بـ92″.
يدرك الرئيس عون حجم الامتعاض العامّ من القوى السياسية، ويكشف أنّ الإحصاءات تُظهر بوضوح هذا الامتعاض: “60% من الذين يُسألون عمّن سينتخبون، يجيبون: لا أحد”.
شهدت الأشهر الأخيرة الكثير من النقاش حول “انتهاء صلاحيّة” ورقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ. منهم مَن قال إنّها تحتاج إلى صيانة، ومنهم مَن اعتبر أنّها “أنهت محكوميّتها”.
لكن ماذا يقول الرئيس؟ وهل يؤدّي حجم الاختلافات مع الحزب إلى فكّ التحالف معه؟
يتحفّظ الرئيس عون في إجاباته، مكتفياً بالقول: “عزل حزب الله يعني حرباً أهليّة. فهل نذهب إلى حرب أهليّة؟”.
ثمّ يتحدّث عن إيجابيّة حزب الله في التعامل مع المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، ويكشف للمرّة الأولى: “الحزب منطقيّ، وترك للحكومة التعاطي مع هذا الملفّ، وهو يدعم ما سيتقرّر في هذا المجال في ضوء نتائج المفاوضات والخطّ الرسمي الذي سيُعتمد، سواء كان 23 أو غيره”.
نسأله عن الاتّهامات التي طالته بـ”الخيانة العظمى”، لتخلّيه عن الخطّ 29 واعتباره خطّاً تفاوضياً وتأييد الخط 23. يصمت قليلاً. ثمّ يأتي من على مكتبه بورقة ومسطرة. يرسم الخطوط أمامه، كلّ خطّ بلون. يشرح حيثيّات كلّ خط بدءاً من الخطّ 1 الذي تريده إسرائيل حدوداً لها. ثمّ خطّ هوف الذي رُسِم باعتراف دولي، ثمّ الخطّ 23 الذي رُسِم أيضاً باعتراف دولي. ثمّ يتحدّث عن الخطّ 29، الذي اعتبره الوفد العسكري “خطّاً تفاوضيّاً للبنان”.
يقول رئيس الجمهورية إنّ هذا الخطّ صُنِعَ في لبنان ولم يتمّ الاعتراف به دوليّاً، وإنّ لبنان تبنّاه ليحسّن شروطه التفاوضيّة. “ذهبنا إلى المفاوضات متمسّكين بالخطّ 29 فتمسّكت إسرائيل بالخطّ 1. سقط الخطّان تلقائيّاً وتوقّفت المفاوضات. فماذا نفعل؟ لا وقت لدينا لنهدره. والحلّ يكون بالعودة إلى المفاوضات مع تحصيل لبنان حقّه بالتنقيب”.
الرئيس عون: الهدف هو الوصول إلى حلّ يسمح بالبدء في التنقيب عن النفط في أسرع وقت ممكن وفقاً للخطّ المعترف به والمسجّل في الأمم المتحدة، لأنّ الوقت يداهم لبنان الغارق في حفره الكثيرة وأزماته
زيارة هوكشتاين
إذاً ما الذي جرى مع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين خلال زيارته الأخيرة؟
“يجري التفاوض اليوم حول الخطّ 23. لا يعني هذا الكلام أنّ الخط 23 هو الخطّ التفاوضي، بل يعني أنّ التفاوض يحصل على تعرّجاته، التي تسمح للبنان أن يتمسّك بحقّه في حقل قانا كاملاً، بينما لا يزال الإسرائيلي يطالب بتقاسمه مع لبنان”.
“يعتبر الإسرائيلي أنّ الكلام عن قانا مقابل كاريش ساقط لأنّه يعتبر كاريش داخل حدوده. ولذلك المفاوضات عالقة عند رفض لبنان تقاسم قانا مع إسرائيل وتمسّكه بخطّ متعرّج يحفظ قانا له”.
لهذا طلب الرئيس عون من هوكشتاين أن يكون الطرح الأميركي مكتوباً ليرسم لبنان من حوله أطراً قانونية. ولا يزال ينتظر أن يرسل الموفد الأميركي الطرح بعد أن ينهي مفاوضاته مع الجانب الإسرائيلي.
فهل هذه خيانة؟
“حتماً لا”، يقول عون. بالنسبة إليه فإنّ الهدف هو الوصول إلى حلّ يسمح بالبدء في التنقيب عن النفط في أسرع وقت ممكن وفقاً للخطّ المعترف به والمسجّل في الأمم المتحدة، لأنّ الوقت يداهم لبنان الغارق في حفره الكثيرة وأزماته. ويعتبر أنّ الحفرة الأساسية والكبرى تقع في مصرف لبنان، الذي على حاكمه أن يكشف للّبنانيين أين هي ودائعهم وأموالهم: “هذه غصّة في صدري”، يقول عون متحدّثاً عن “ارتكابات سلامة بحقّ اللبنانيين، ووجوب تطبيق القوانين”.
نسأله عن رسالة لبنان إلى الأمم المتحدة والجدل المتّصل بسحبها وإعادتها، فيضحك عون قائلاً إنّ “هذا واحداً من الأمور التي لا دخل لنا فيها وتُلصق بنا. اتّصلت مندوبتنا في الأمم المتحدة وأكّدت أنّ الرسالة موجودة، وإذا سُحبت أو أُعيدت في خانة أخرى فلا شأن لنا بذلك، بل هذا يعني موقع الأمم المتحدة”.
نخرج من بعبدا حاملين الخطّ الذي رسمه بخطّ يده. خطّ التفاوض. رسمه بقلم رئاسيّ. فيما هو يقف بوجه الحملة الإعلامية عليه، منتظراً لحظة البدء بالتنقيب، ليعلن انتصاره السياسي الأهمّ، في حال تحقّق: استخراج النفط، وفي قلبه غصّة كبيرة اسمها “التدقيق الجنائي في الحسابات الماليّة لمصرف لبنان”.
نستدرك بسؤال عن الجدل الذي نشأ بسبب موقف وزارة الخارجية من الهجوم الروسي على أوكرانيا. فيقول الرئيس إنّ “موقف لبنان واضح لجهة ضرورة حلّ الخلافات بالحوار، ولا سيما أنّ لبنان واجه خلافات ومواجهات وأحداثاً أمنيّة صعبة انتهت كلّها بالحوار. لذلك لبنان مع التفاوض السياسي لحلّ النزاع القائم بين روسيا وأوكرانيا وفق المبادىء المحدّدة في ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية ذات الصلة التي تتوسّل السبل السلميّة لمعالجة النزاعات بين الدول”.
جوزفين ديب – أساس ميديا