🌷♰🌷
يُوبِّخُ عَ كيفيَّة قراءةِ علاماتِ الطقس في الطبيعة وعدمِ قراءةِ علاماتِ مجيئِهِ الثاني
عن كتاب انتصار قلب مريم الطاهر – نهاية الأزمنة وجلجلة الكنيسة للأب غسان رعيدي (2)
يقعُ نص “الوكيلُ الأمينُ والوكيلُ الخائن” في إنجيلَي متَّى ولوقا بين مَقاطِعَ تَخُصُّ علاماتِ الأزمنةِ ونِهايَتِها (متَّى24: 45-51 و لو12: 42-48). يتحدَّثُ الربُّ في إنجيلِ متَّى عن خرابِ الهيكلِ وأوَّلِ المخاض، ثمَّ عنِ المخاضِ والمحنةِ الكبرى، وذلكَ قبلَ مجيئِهِ الثاني مباشرةً كعلامةٍ لِهذا المجيء. ثمَّ يتحدَّثُ عنِ المجيءِ الثاني وعلاماتِهِ المرموزةِ بعواملِ الطبيعةِ الَّتي يستطيعُ الإنسانُ أن يقرأَها ويفهمَ تَحرُّكاتِها، وكيفيَّةَ الاستعدادِ للمجيءِ الثاني.
إذًا، المجيءُ الأوَّلُ يُمَهِّدُ للمجيءِ الثاني، كما مَهَّدَ العهدُ القديمُ للمجيءِ الأوَّل. بعد ذلكَ، يُخبِرُ المسيحُ أمثالاً تتحدَّثُ عنِ الأُمَنَاءِ والخوَنَةِ بين شعبهِ، فمصيرُ الأُمنَاءِ هو الملكوتُ السماويُّ أمَّا مصيرُ الخَوَنةِ فهو البُكاءُ وصريفُ الأسنانِ في الظلمةِ البَرَّانيَّة. هذه الأمثالُ تبدأُ بِمَثَلِ العبدِ الأمينِ وتنتهي بِمَثَلِ الوَزناتِ الَّتي يتبعُها نصُّ الدينونةِ العظمى ونِهايةِ العالَم.
أمَّا في إنجيلِ لوقا، فيتحدَّثُ الربُّ يسوعُ عن عَمى الفرِّيسيِّينَ ويطلُبُ الاتِّكالِ على العنايةِ الإلَهيَّةِ للوصولِ إلى فرحِ الملكوتِ السماويِّ. ثمَّ يُخبرُنا عن الوكيلِ الأمين، وعن سببِ مجيئِهِ الأوَّلِ وعلاماتِ مجيئِهِ الثاني. ويُوبِّخُ على كيفيَّةِ قراءةِ علاماتِ الطقسِ في الطبيعةِ وعدمِ قراءةِ علاماتِ مجيئِهِ الثاني، ويقول: ” أيُّها الْمُراؤون، تعرفونَ أن تُميِّزُوا وجهَ الأرضِ والسماء، أمَّا هذا الزمانُ فكيفَ لا تُميِّزونَه؟” (لو12: 56).
الوكيلُ الأمينُ[1] هو ذاكَ الَّذي يتصرَّفُ بحكمةٍ وإيمانٍ وثقةٍ وأمانة، أمَّا الوكيلُ الشرِّيرُ فهو ذاكَ الَّذي يعمَلُ بِخُبْثٍ وضلالٍ وشكٍّ وخيانة… نذكرَ القدِّيسَ أفرامَ السريانيَّ، الَّذي تغنَّى بإلهِ المعموديَّةِ وقال: ” تبارَكَ مَن أنشأ المعموديَّةَ غفرانًا لبَنِي آدم. إنزِلوا يا إخوتي وٱلْبَسُوا الروحَ القدُسَ من داخلِ مياهِ المعموديَّة. وٱختلِطوا مَعَ الروحانيِّين، خُدَّامِ الأُلوهيَّة“[2]. هذا الكلامُ الكبير، يُحدِّدُ صفةً مُهمَّةً للكهنةِ وُكلاءِ الشعبِ أمامَ الله. فهُم خُدَّامُ الأُلوهةِ لا الشَيْطنة، هُمُ الروحانيُّونَ لا النَجِسون. هُمُ الَّذين يَمنَحُونَ سرَّ العمادِ لطالبيهِ.. إذًا، الوكيلُ الأمينُ هو الَّذي يتعبُ ويُجاهدُ جاعلاً رجاءَهُ بالإلهِ المخلِّص، مواظبًا على الصلاةِ وإعلانِ كلمةِ الإنجيلِ والوعظِ والتعليمِ وإعلانِ الحقِّ بشجاعة. أَلَيْسَ هذا ما يفعَلُهُ قداسةُ البابا بنديكتُسَ السادسَ عشر، وهو الَّذي ٱتَّخَذَ ٱسمَ “بنديكتُس” تيَمُّنًا بالقدِّيسِ “مبارك” أَبي الرهبانِ في الغربِ والمعروفِ بصلواتِهِ الطارِدةِ الشياطينَ، والمعروفِ أيضًا بصليبِهِ “صليبِ القدِّيسِ مبارك” الَّذي يحتوي على أيقونتِهِ الَّتي تَحمِلُ صلاةَ طردِ الأرواحِ الشِرِّيرة؟..
يجبُ التذكُّرُ بأنَّ الربَّ يسوعَ المسيحَ أوكَلَ أمرَ كنيستِه للروحِ القدُسِ ليشهَدَ له وليُعلِّمَنا الشهادةَ عينَها (يو15: 26-27). فالروحُ القدُسُ هو الْمُعزِّي الَّذي يُوبِّخُ العالَمَ على الخطيئةِ بسببِ عدمِ الإيمانِ بالمسيحِ ٱبنِ اللهِ الحيِّ والشرودِ عن الحقيقة، وهو الْمُعزِّي الَّذي يُوبِّخُ العالَمَ في أمرِ البِرِّ.. إذًا، عملُ اللهِ لَم يتوَقَّفْ بصعودِ المسيحِ يسوعَ إلى السماء وجلوسِه عن يَمينِ الآبِ السماويِّ، إنَّما هو مُستمرٌّ بفعلِ نورِ الروحِ القُدُس الَّذي يُلهِمُ ويُنْبِئُ ويُعلِّمُ لكي تتقدَّمَ النُفوسُ في فَهْمِ رسالةِ الإنجيل وعَيْشِها بالتقوى والقداسةِ والصدق ولعبادةِ الثالوثِ الأقدَسِ بالروح والحقِّ.
دورُ مريمَ العذراء
..تعودُ هذه الثقةُ أوَّلاً إلى أنَّ مريَمَ “مملوءةٌ نِعمةً” (لو1: 28)، أي ” كُلُّها جميلةٌ وليس فيها عيبٌ” (نش4: 7) لأنَّ قدرةَ العليِّ ظَلَّلَتْها (لو1: 35) لتكونَ ” مُبارَكَةً في النِساء” (لو1: 42) و”أُمَّ الله” (لو1: 43)، وتعودُ ثانيًا إلى ٱبتهاجِ روحِ مريَمَ بالله مُخلِّصِها الَّذي رفعَها إلى مرتبةٍ تفوقُ مرتبةَ الملائكةِ والآباء والرُسُل والقدِّيسين لِحُظوَةِ تواضُعِها،
فأنشَدَت: ” فها منذ الآن تُطَوِّبُني جميعُ الأجيال، لأنَّ القديرَ صنع بِيَ عظائمَ..” (لو1: 46-56).
فٱنطلاقًا من هذه الثوابتِ الإيمانيَّة، تغنَّى قدِّيسو كنيستِنا وآباؤها في الشرقِ والغرب بأمجادِ مريَمَ البتولِ البريئةِ من الدَنَس، وبالأخَصِّ القدِّيس أفرام السريانيُّ ومار يوحنَّا الدمشقيُّ. فالأوَّلُ أنشدَ عن مريَم على سبيلِ المثال: ” فهي بتولٌ وأُمٌّ معًا سُبحانَ مَنِ ٱصطفاها! مريَمُ فخرُ البتولات، وهي البتولُ علَّةُ الخيرات، ومنها النورُ على القابعين في الظُلُمات. بِمريَمَ رأسُ حوَّاءَ الْمُطَأطَأُ ٱرتَفَعَ، لأنَّها حَملَتِ الطفلَ قاهرَ الحيَّة!”[3].
وأبرزَ القدِّيسُ أفرامُ كيف تستدعي مريَمُ مُحضِّري مجيءِ المسيحِ الأوَّلِ قائلةً: ” تعالَوا إلَيَّ أيُّها الحُكَماءُ وأنتُم أيُّها المُدافِعُونَ، رُسُلُ الرُوحِ القدُس، وأنتُم يا أيُّها الأنبياءُ الَّذين شاهَدُوا الخفيَّاتِ بِرُؤَاهُم الحقيقيَّةِ، أيُّها الزارعون الَّذين زرَعوا ورقَدوا على أمل، ٱستيقِظُوا وٱبتهِجُوا بثمارِ زَرْعِكُم، فها إنِّي أَحتَضِنُ سُنْبُلَةَ الحياةِ الواهبةَ الخبزَ للجائعين، والشبعَ للمُحتاجين!”[4].
والقدِّيسُ يوحنَّا الدمَشقيُّ ٱبتهل في حدثِ ٱنتقالِ مريَمَ وكتب: ” أَلْقِي علينا نظرَكِ، أيَّتُها الملكةُ السامية، والدةُ ربِّنا الرحيم؛ دبِّري مصيرَنا كما تشائين، قُودي سَيْرَنا نحو مرفأِ الإرادة الإلهيَّة الأمين…”[5]. وتابعَ الدمشقيُّ: ” كان يجبُ أن تَحظى مع الله بخيراتِ ٱبنها، وأن تُكرِّمَها كلُّ الخليقةِ أُمًّا وأَمَةً لله. ينتقلُ الإرثُ دائمًا منَ الوالِدِين إلى الأبناء؛ أمَّا هنا، فعلى حَدِّ تعبيرِ أحد الحُكماء، فتعودُ ينابيعُ النهرِ الْمُقدَّس إلى مصدرِها، لأنَّ الابنَ أخضَعَ لوالدتِه الخليقةَ بأجمعها“[6].
بعد كلِّ ما تقدَّمَ في موضوعِ ٱعتناقِ ما يُعلِّمُه البابا الأصيل، نبَّهَ الربُّ قائلاً: “مِن ثِمارِهم تعرِفُونَهم… كلُّ شجرةٍ طيِّبةٍ تُثمِرُ ثَمَرًا طيِّبًا…” (متَّى7: 16-17).. وإن كُنَّا غيرَ أُمَناءَ فهُوَ يبقى أمينًا، لأنَّهُ لا يقدِرُ أن يُنكِرَ نفسَهُ!” (2طيم2: 8-13). لكنَّ الربَّ رحومٌ وديَّانٌ أيضًا، لأنَّه عندما رفَضَتْ مدُنُ الجليلِ بشارَتَهُ الخلاصيَّةَ وما تابَت، قال: “الويلُ لكِ يا كُورَزِين! الويلُ لكِ با بيتَ صيدا! لأنَّه لو جرى في صورَ وصيدا ما جرى فيكُما من أعمالٍ قديرة، لَتَابَتَا من زمانٍ في المِسْحِ والرَّماد! ولكنِّي أقولُ لكم: إنَّ صورَ وصيدا، سيكونُ مَصيرُهُما، في يومِ الدِين، أَخَفَّ وَطْأَةً من مَصيرِكُما! وأنتِ يا كفرناحوم، أَلَن ترتفعي إلى السماء؟ فإلى الجحيمِ ستَهبِطين! لأنَّه لو جرى في سَدُومَ ما جرى فيكِ من أعمالٍ قديرة، لَبَقِيَت إلى اليوم! لكنِّي أقولُ لكم: إنَّ أرضَ سدوم، سيكونُ مصيرُها، في يومِ الدين، أَخَفَّ وَطأةً من مَصيرِكِ!” (متَّى11: 20-22).
عمَليًّا، هذا الكلامُ النَبَويُّ بدأَ يتحَقَّقُ في هذِهِ الأيَّامِ الأخيرةِ للشرِّير، ولبنان الذي تكرَّسَ، لقلبِ مريَمَ الطاهِرِ.. يكون قد حقَّقَنا رغبةَ المسيحِ الَّذي قال لِمَلاكِ كنيسةِ فيلادلفية: ” إنِّي آتٍ عاجلاً، فتَمَسَّكْ بِما لدَيْكَ لِئَلاَّ يأخُذَ أحدٌ إكليلَكَ” (رؤ3: 11).
عِلمًا أنَّ البابا بنديكتُس السادِس عشر قد فعلَ ذلك لدى زيارتِهِ لبنان بين 14 و 16 أيلول 2012، حين أعلَنَ قُبَيلَ التَبشيرِ الملائكيِّ: ” لِنُوَجِّهْ أنظارَنا الآنَ إلى مريَم، سيِّدَةِ لبنانَ، الَّتي حولَها يَلتقِي المسلمون والمسيحيُّون… مريَمَ، الَّتي هي أُمُّنا، تتفهَّمُ همومَنا وٱحتياجاتِنا. فمع البطاركةِ والأساقفةِ الحاضرين، أضعُ الشرقَ الأوسطَ في ظلِّ حِمَايَتِها الوالِدِيَّة“[7]، وذلكَ ليَحلَّ السَلامُ بمعونةِ الله.
[1]الخوري غسَّان رعيدي، العظة 5/2010، كنيسة مار شربل أدونيس، أحد الكهنة 24/01/2010 – زمن الدِنح. [2] القدِّيس أفرام السُريانيّ، أناشيد الدِنح 5، 1. كتاب الفرض المارونيّ، زمن الدِنح، الكسليك، 1978، ص354. [3] القدِّيس أفرام السُريانيُّ، الطُوباويَّة مريَم 2، المطران بطرس الجميِّل، صلاة المؤمن، الجزء الثالث، 2006، ص533. [4] القدِّيس أفرام السُريانيُّ، الطُوباويَّة مريَم 7، المطران بطرس الجميِّل، صلاة المؤمن، الجزء الثالث، 2006، ص540. [5] القدِّيس يوحنَّا الدِمشقيُّ، العظة الأولى عن الإنتقال 14، المطران بطرس الجميِّل، صلاة المؤمن، الجزء الثالث، 2006، ص544. [6] القدِّيس يوحنَّا الدِمشقيُّ، العظة الثانية عن الانتقال 14، المطران بطرس الجميِّل، صلاة المؤمن، الجزء الثالث، 2006، ص574. [7] البابا بنديكتُس السادِس عشر، التبشيرُ الملائكيُّ، حاضرة الفاتيكان، بيروت – لبنان، الأحد 16 أيلول 2012.
المصدر:انتصار قلب مريم الطاهر – نهاية الأزمنة وجلجلة الكنيسة 2012 ص: 12-13-14-15-16
يمكنك تنزيل الكتاب
***
الوكيلُ الأمينُ والوكيلُ الخائن (الجزء 1)
نهاية الأزمنة.. وتحدّيات “الوكيل الأمين”.. “لا تُطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوءات وٱمتحِنُوا كلَّ شيءٍ”.. (الأب غسان رعيدي)
“طُوبى للَّذي يَقرَأُ كَلِماتِ هذه النُبوءَة،
ولِلَّذينَ يَسمعونَها ويَحفظونَ ما هو مَكتوبٌ فيها،
لأنَّ الوقتَ قَريبٌ!” (رؤ1: 3)
“ها هو يأتي على السُحُب،
وسَتَراهُ كلُّ عَين،
وأيضًا الَّذينَ طَعَنوه،
فتَنتَحِبُ عليه قبائلُ الأرضِ كلُّها.
أجل! آمين.
أنا هو الأَلِفُ والياء،
يقولُ الرَبُّ الإله،
الكائن، والَّذي كان، والآتي،
الضابطُ الكُلَّ” (رؤ1: 7 – 8)