قد تتشابه كُلّ الشُّعوب في ردّات فعلها إِزاء الأَوضاع المصيريّة، وقد يسهُل على الدُّول الكبيرة ابتلاع تلك الصّغيرة، ولكن هل تتمكّن مِن هضمها؟.
لقد كانت بريطانيا العُظمى مُتأكّدةً مِن الإِجابة عن السُّؤَال أَعلاه، فوحّدت الجُهود للدّفاع عن الوطن. كما وقرّر البريطانيُّون أَن يُعوّضوا بعزيمتهم على التّضحية القُصوى، عن سلاحهم غير المُتكافئ البتّة مع ما يمتلكه الأَلمان مِن سلاحٍ.
أَحد الفنّانين أَراد تجسيد إِرادة الإِنكليز الصّلبة، فرسم “كاريكاتورًا” يُمثّل الجيش الأَلمانيّ، بما يمتلك من دبّاباتٍ ومدافعَ، وفيالقَ وجنرالاتٍ… أَمام حاجزٍ خشبيٍّ على حُدود الجزيرة البريطانيّة. وأَمام الحاجز لافتةٌ كُتب عليها: “إِدفعْ بنسًا (Pens) تمُرّ”. وأَمّا القيّم على الحاجز، فهو شيخٌ إِنكليزيٌّ نحيلٌ وضعيف البُنية، غير أَنّ إِرادته صلبةٌ. وفي “الكاريكاتور” يدفع الأَلمان بنساتٍ كثيرةً للشّيخ الجليل، غير أَنّه – وعلى رُغم ذلك – لا يسمح لهُم بالعُبور لأَنّه “غير راضٍ” عنهُم!.
وقد تجلّت تلك الإِرادة الصّلبة بأَعمال المُقاومة الرّائعة، وقد استُنفِر “سلاح الجوّ الملكيّ” على أَراضيه.
حتّى أَدولف هتلر، قدّر عزيمة الشّعب البريطانيّ وصلابة إِرادته الوطنيّة، فأَقام في 19 تمّوز 1940، عرضًا عسكريًّا في برلين، احتفل فيه بانتصارٍ حقّقه، غير أَنّ خطابه تجاه الإِنكليز اتّصف بالاعتدال، إِذ دعاهُم إِلى التّعاون معه “في سبيل السّلام”، بحجّة أَنّ الأَلمان – وعلى رأسهم هتلر نفسه – يبكُون الضّحايا البريئة الّتي قد تسقُط إِذا ما استمرّت الحرب.
وشدّد هتلر في خطابه على “وضع حدٍّ لهذه المُعاناة”، بيد أَنّ ونستون تشرشل – وشأنه في ذلك شأن كُلّ “صانعي التّحرير في العالم” – لم يكُن ليقبل بفكرة أَن تقوم دولةٌ بالاعتداء على دولةٍ أُخرى فتحتلّها. وكيف إِذا كان الأَمر يتعلّق بـ “بريطانيا العُظمى”؟. لذا فقد قرّر تشرشل مُتابعة الحرب حتّى استرداد “كرامة بريطانيا”. وأَملًا في رفع معنويّات شعبه أَكثر، أَكّد رئيس الوزراء البريطانيّ مُتابعة الحرب، وقال حينها: “لا صُلح مع الأَلمان قبل تراجُعهم عن المناطق الّتي احتلّوها”.
وبعد رفض البريطانيّين الاستسلام، أَعدّ الأَلمان خطّةً لغزو بريطانيا برًّا، من خلال تنفيذ إِنزالٍ بحريٍّ وجوّيٍّ. وقد مهّدوا لذلك عبر قطع خُطوط التّموين والمُساعدات الخارجية وتدمير سلاح الطّيران البريطانيّ، ليضمنوا نجاحهم في احتلال بريطانيا.
لقد كان مجموع الطّائرات الأَلمانيّة في بداية آب 1940، 2669 طائرةً. وأَمّا عدد الطّائرات البريطانيّة فكان 1475 فقط. وفي ذلك إِشارةٌ أُخرى إِلى عدم توازن القوّة بين الدّولتَين، لمصلحة أَلمانيا طبعًا. بيد أَنّ الكلمة الأَخيرة قد تكون للإِرادة الشّعبية الوطنيّة.
بدأ الالمان حملاتهم الجويّة العنيفة على بريطانيا في 8 آب 1940، وفي ذلك التّاريخ بدأَت “معركة بريطانيا” كما يُسمّيها الإِنكليز. كما واستهدف الأَلمان أَيضًا قوافل البواخر التّجاريّة، وقد شنُّوا عليها غاراتٍ عنيفةً، وكذلك استهدفوا المُدن السّاحليّة في جنوب شرقيّ إنكلترا. وقد أَعقب الأَلمان ذلك بغاراتٍ مُركّزةٍ على المطارات ومصانع الطّائرات…
حتّى أَواخر آب، كان الأَلمان دمّروا الكثير مِن السُّفن والمرافئ، وخُطوط المُواصلات، وخزّانات البترول، ومراكز توليد الكهرباء، والمطارات، وكلّ منشآت سلاح الجوّ البريطانيّ، ومصانع إِنتاجه وورش إِصلاحه.
وعلى رُغم كلّ الأَضرار الجسيمة الّتي لحقت ببريطانيا، غير أَنّ الأَلمان شعروا أَنّهم لم يتمكّنوا منها بعد!. لقد راودهُم شُعورٌ بالإِخفاق في مُحاولاتهم الكثيرة… فحوّلوا هدفهم هذه المرّة لإِثارة الرُّعب والذُّعر في نُفوس المُقاومين البريطانيّين. وظنّوا أَنّ مِن خلال ذلك يُمكنُهم انتزاع الفضيلة الوطنيّة مِن شعبٍ انتفض لكرامته. وللحديث صلة.
رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ
- “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.