وسّعت فرنسا السّاعية إِلى الحُريّة والاستقلال، ميدانها الدّيبلوماسيّ بين صَيْفَيْ 1941 و1942، وقد أَسّس الجنرال شارل ديغول في هذا السّياق، “اللجنة الوطنيّة” في 24 أَيلول 1941، الّتي كانت بالنّسبة إِلى “فرنسا المُحاربة”، “جهاز التّوجيه” المُكوّن مِن الأَحرار الّذين تجمّعوا حول ديغول، وبتعبيرٍ آخر، فإِنّ هذه اللّجنة ستكُون بمثابة حُكومةٍ.
تزامُنًا واجه ديغول الكثير مِن الانتقادات، لكنّه بقي صامدًا، فيما بدأَ يتكوّن داخل فرنسا، أَكثر مِن نواة مُقاومةٍ للاحتلال الأَلمانيّ. وقد بادر بعض الأفراد بتحرير “نشراتٍ دعائيّةٍ”، وطبعوها، ووزّعوها، والبعض الآخر تجسّس على العدوّ، ناقلًا المعلومات إِلى إِحدى شبكات المُقاومة الفرنسيّة. ومِن أَوجه المقاومة أَيضًا، تشكيل مجموعات عملٍ لأَغراضٍ مُختلفةٍ: مُؤازرة تصفية جُنود الاحتلال، تنفيذ عمليّات مقاومةٍ، تلقّي عتادٍ أُنزل بالمظلّات، وتنظيم توزيعه على المُقاومين، تسهيل عمليّات مُقاومة الاحتلال…
إِذًا فقد اتّسمت المقاومة الفرنسيّة للاحتلال الأَلمانيّ في تلك الفترة، بأَنّها “سلبيّةٌ وهادئةٌ”، فيما فكّر بعض المُقاومين في توجيه ضرباتٍ إِلى “العدوّ” الأَلمانيّ مِن داخل الأَراضي الفرنسيّة. وفي آب 1941، بدأَت سلسلة الهجمات المُنفردة على العسكر الأَلمانيّ في فرنسا. وأَوّل “صيدٍ ثمينٍ” للمُقاومة الفرنسيّة كان ضابطًا أَلمانيًّا برتبة نقيبٍ، قُتل خلال خُروجه من “المترو”. وكذلك قُتل ضابطٌ آخر في “بوردو”، وجُنديّان اثنان في “باريس”، وقد أَعقبت ذلك اغتيالاتٌ عدّة، فيما ثأَر الأَلمان لذلك، بإِعدام مئات الرّهائن الفرنسيّين، وملء السُّجون بالآلاف مِن المُواطنين الفرنسيّين، وفرض “غراماتٍ” على المُدن الّتي كان يسقط فيها جُنودٌ أَلمان.
ودعمًا للمُقاومِين صرّح الجنرال ديغول في 23 تشرين الأَوّل 1941 مِن “الإِذاعة”: “إِنّه لطبيعيٌّ حتمًا، وممّا يُمكن تبريره إِطلاقًا، أَن يقتُل الفرنسيُّون الأَلمان. فإِذا كان هَؤُلاء لا يُريدون أَن يموتوا على أَيدينا، فما عليهم إِلاّ أَن يعُودُوا إِلى ديارهم… وما داموا لم يُوفَّقوا في إِخضاع العالم، فهُم على يقينٍ أَنّ كُلّ واحدٍ منهُم سيغدو جُثّةً أَو أَسيرًا… ولكن ثمّة تكتيكٌ للحرب ويجب أَن يقودها أُولئك الّذين أُوكِل إِليهم أَمرُها، وعاشُوا أَسرارها… والأَمر الّذي أُوجّهه الآن إِلى الأَرض المُحتلّة، هو أَن يقتلوا فوقها أَلمانًا على نحوٍ مكشوفٍ، لسببٍ واحدٍ، هو أَنّ مِن السّهل جدًّا على العدوّ في هذه الفترة، أَن يردّ الكيل كيلَيْن اثنَيْن، فيذبح مُحاربينا العُزّل. وبخلاف ذلك، فعندما نُمسي قادرين على الانتقال إِلى الهُجوم، فستصدُر الأَوامر بذلك”.
وعشيّة 25 تشرين الأَوّل 1941، قتل الأَلمان 50 رهينةً في “نانس” و”شاتوبريان”، و50 فرنسيًّا أَيضًا في “بوردو”، وسريعًا أَذاع ديغول: “لقد حَسِب العدوُّ إِذ أَعدم شُهداءَنا، أَنّه سيُدخل الرُّعب إِلى قُلوب الفرنسيّين، لكنّهُم سيُثبتون له بأَنّه على خطإٍ”. كما ودعا ديغول، كُلّ الفرنسيّات والفرنسيّين، إِلى وقف كُلّ نشاطٍ لهُم، وأَن يبقى كُلٌّ منهُم صامتًا في مكانه، يوم الجُمعة في 31 تشرين الأَوّل 1941، من الرّابعة بعد الظُّهر بتوقيت باريس، إِلى الرّابعة وخمس دقائق، في ما وصفه بـ “التّأَهُّب الجبّار”. وهدف هذا الإِضراب الوطنيّ الشّامل، إِلى جعل العدوّ أَمام الخطر المُحدق به فرنسيًّا. كما وأَظهر “الإِخاء” الفرنسيّ بحسب رأي ديغول.
وقد كرّر جنرال التّحرير في فرنسا، نداءه عشيّة اليوم الموعود. وفي الواقع فقد اتّسمت التّظاهرة حينها، وفي الكثير من الأَمكنة، وبخاصّةٍ في المصانع الفرنسيّة، بالمشهد الوطنيّ العارم والمُؤَثّر… وقد شعر ديغول حينها، بالمزيد من القُوّة المقرونة بالفخر والاعتزاز، وبات شغله الشّاغل، أَن ينأَى بالمُقاومين مِن الانزلاق إِلى الفوضى، حتّى أَنّه حاول قدر المُستطاع، أَن يجعل مِن هذه المُقاومة مجموعةً مُنظّمةً، مِن دون أَن يحدّ مِن رُوح المُبادرة الفرديّة الخلّاقة.
لقد انطلقت أَعمال المُقاومة الأُولى مِن العسكريّين، وكان ثمّة عددٌ مِن ضُبّاط الجيش التّابعين للأَركان العامّة والمناطق، يعمدون إِلى تخبئة العتاد وتدريب المُتطوّعين على حمل السّلاح واستخدامه، في دوراتٍ سريّةٍ جرت تحت إِشراف “مُرشدي رابطات الشّباب”. هذه الرّابطات الّتي ضمّت عددًا كبيرًا مِن قُدامى القوّات الفرنسيّة المُسلّحة، حتّى أَنّ الشُّيوعيّين دخلُوا أَيضًا ميدان العمل المُقاوم أَواخر العام 1941، بعدما كانوا يطعنون بالـ “ديغوليّة”. لقد تغيّر موقفهم بعد غزو هتلر روسيا، فما وجد هَؤُلاء أَمامهم إِلاَّ “النّضال السرّيّ” ضدّ المُحتلّ، فراحُوا يُشاركون في الحرب الوطنيّة في شجاعةٍ ومهارةٍ. وللحديث صلة.
رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ
* “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.