أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


صانعو التّحرير 7 – كيف واجه الفرنسيُّون الأَوضاع المعيشيّة الصّعبة ومُزايدات المُشكّكين؟

   على رُغم الاتّفاق المُبرم بين فرنسا والولايات المتّحدة الأَميركيّة، القاضي بتزويد باريس بالمواد المعيشيّة الأَميركيّة، في غُضون 6 أَشهُر، غير أَنّ الاتّفاق هذا، لم يُساهم في حلّ مُشكلة عدم توفّر المحروقات وغيرها مِن أَساسيّات الحياة اليوميّة العاديّة في فرنسا… فطُرق “دنكرك”، و”برست”، و”لوريان”، وسان نازير”، وصولًا إِلى طريق “بوردو”، كانت كلُّها في يد المُحتلّ الأَلمانيّ مُنذُ 1940.

   وأَمّا باقي المناطق، كـ “كاليه بولون”، و”دييب”، و”روان”، و”الهافر”، و”شير برغ”، و”نانت”، و”مرسيليا”، و”طولون”… فكُلُّها كانت مُدمّرة، وقد باتت مُجرّد أَرصفةٍ وهي ممسوحةٌ بالخراب، والأَحواض فيها مهدومةٌ، والطُّرق مسدودةٌ، وثمّة أَكوامٌ مِن الحُطام والرُّكام…

   ووسط هذه الأَوضاع المعيشيّة المُتردّية جدًّا، هبّت فرنسا في انطلاقةٍ معنويّةٍ لم يتوقّعها أَحدٌ، ولم يُؤمن بها إِلَّا الشّعب الفرنسيّ، المُصرّ على تحرير أَرضه، والعارف بنتيجة هذا القرار، وبقيمة التّضحيات الغالية والرّخيصة في آنٍ!.

   وعلى رُغم الدّمار الجسيم والخراب المهول، شعر الفرنسيّون بأَنّ حُلم التّحرير الّذي ابتدأ في 14 حزيران 1940، بدأ يتجلّى خُطوةً خُطوةً. وسُرعان ما تلاشت مِن النُّفوس رذيلة السُّكوت عن انتهاك الحُقوق والمُقدّسات. صمتٌ لم يكُن مُبرّرًا فيما الخوف المشروع والمقبول إِنّما ينبغي أَن يكون على الوطن وحده!.

   وبالعودة إِلى نتائج الحرب على الأَرض الفرنسيّة، فقد اعتقد الفرنسيّون بأَنّ الإِنتاجيّة ستعود إِلى وضعها الطّبيعيّ في شكلٍ سريعٍ، وأَنّ التّموين سيتحسّن فورًا، وعناصر استعادة الرّخاء كافّةً، ستتوافر قريبًا. ولكنّ صحّة تقدير الدّمار اللاحق بفرنسا، ومعرفة النّقص الرّهيب في كُلّ الموادّ الأوّليّة الحياتيّة بدّدتا هذه المُعتقدات، فتلاشت الآمال للوهلة الأُولى.

   وعن الوضع الرّاهن آنذاك قال الجنرال شارل ديغول: “لقد رأَيتُ الأَطعمة تُوزّع في شكلٍ لا يسدّ جوعًا، ورأَيتُ الثّياب مفقودةً، والمنازل ترتعد بردًا، والمصابيح غارقةً في الظّلام. ومررتُ أَمام الدّكاكين الفارغة، والمصانع المُتجمّدة، والمحطّات الّتي ينعق فيها البوم. ولم تلبث أَن تصاعدت إِلى مسمعي أَنّات الجماهير، ومُتطلّبات الجماعات، ومُزايدات المُشكّكين، وقد كُنتُ على ثقةٍ بأَنّنا إِذا كُنّا نتمتّع بعطف الشُّعوب، فإِنّ قانون الدّول الحديديّ ينصّ على عدم منح أَيّ شيءٍ مقابل لا شيء، ولن نستطيع أَن نستعيد مكاننا في الحضارة الدّوليّة، إِلَّا إِذا دفعنا الثّمن… وإِذا كُنتُ أُقدّر التّضحيات الّتي ينبغي لنا أَن نقوم بها، قبل أَن يتسنّى لنا انتزاع نصيبنا من النّصر، وبالتّالي قبل أَن نقف على أَقدامنا… وإِذا كُنتُ أُقدّر تلك التّضحيات حقّ قدرها، فلا أُعلّل نفسي بالأَوهام الكاذبة، في حين كُنتُ أَعلم بأَنّني غير مُزوّدٍ بأَيّ سحرٍ، يُمكّن الأُمّة مِن بُلوغ هدفها، مِن دون ألمٍ ودفعٍ للثّمن. ومِن ناحيةٍ أُخرى، فأَنا مُزمعٌ على استخدام الثّقة الكاملة، الّتي منحتني إِيّاها فرنسا، في سبيل الوصول إِلى سلام بلادي!”.

   صحيحٌ أَنّ المُقاربات السّياسيّة قد تغيّرت جذريًّا منذُ أَربعينيّات القرن الماضي إِلى القرن الحادي وعشرين، غير أَنّ لكُلّ مُعضلةٍ حلًّا، وفي مقدور الشّعب أَن يُغيّر الوقائع على رُغم صعوبتها وتعقيداتها… إِذا ما أَراد التّغيير والإِصلاح.     

   وفي مجالٍ آخر، فقد ساهم العُمّال بدورهم ومع ديغول، في صناعة السّلام الّذي تحدّث عنه جنرال التّحرير في فرنسا. فالمصانع الخالية من الفحم، والمعامل الخالية أَيضًا مِن الآلات الصّناعيّة المطلوبة، قد تابعت عملها اليوميّ مُتحدّيةً كلّ تلك الظّروف الصّعبة، وعلى قدر المُستطاع. وقد عاين الجنرال ديغول خلال تنقُّلاته في المُدن الفرنسيّة، وجوهًا ما كانت تقوى على الابتسامة لعطشها إِلى الحياة والحريّة.

   وفي خضمّ المعركة التّحرُّريّة تلك، أَوجد النّاس طريقةً للحصاد ولادّخار المحاصيل. وعلى رُغم أَنّ المُزارع الفرنسيّ قد عانى كثيرًا مِن الحرب، وقد انعدمت وسائل الاستثمار تقريبًا، إِلَّا أَنّ كُل ذلك لم يحل دون رُؤية الحُقول المزروعة، في كُلّ مكانٍ، وأَمّا المواشي فعلى أَفضل ما تسمح فيه الظُّروف والإِمكانات… وبعد اجتياز فرنسا الظُّروف الاقتصاديّة – المعيشيّة الصّعبة، صار تحرير أَرضها أَقرب إِلى الواقع، وللحديث صلة.

رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ

______

* “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award“، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.