عَ مدار الساعة


النعمة تُبرّر القلب.. “قطفتُ مرّي مع طيبي”.. بالظاهر صنع متّى الوليمة، بالحق هي وليمة المَسِيَّا لمتى..


إن كانت التوبة بداية النعمة فأن احتقار التوبة هو تخلي عن النعمة (أمبروسيوس)

* ♰ *
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لدعوة متّى ( متى ٩: ٩-١٣)

يروي لنا الإنجيلي متّى قصة دعوته لتبعيّة المسيح في كلمات مختصرة: “وفيما يسوع مجتاز من هناك، رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه متّى، فقال له: اتبعني، فقام وتبعه” [9].
كان متّى (لاوي) جالسًا عند مكان الجباية وكان قلبه وكل أحاسيسه وأفكاره قد اِمتُصِّت بالكامل في أمور هذه الحياة وغناها. وكان الأمر يحتاج إلى كلمة من السيّد المسيح: “اتبعني”، قادرة أن تفك رباطاته وتسحب قلبه إلى السماويات، دون تردّد، وبغير حاجة إلى مشورة عائلته أو أصدقائه.
لحق الإنجيلي دعوته باجتماع السيّد بالعشّارين والخطاة، أو كما يقول الإنجيلي لوقا: “صنع له ضيافة كبيرة في بيته، والذين كانوا متكئين معهم كانوا جمعًا كثيرًا من عشّارين وآخرين” (لو 5: 29).
حقًا إذ يتقبّل الإنسان نعمة الله الغنيّة يتبرّر القلب من مكان الجباية حيث دفاتر الحسابات والخزائن المكدّسة بالمال، لا ليعيش في عوزٍ، وإنما ليتقبّل السيّد المسيح نفسه سرّ شبعه وغناه. يقول الرسول بولس: “إنكم في كل شيء استغنيتم فيه” (1 كو 1: 5). يتحوّل القلب الذي كان مسرحًا للهم والقلق إلى ضيافة عظيمة ووليمة يقيمها السيّد المسيح نفسه، ليكون على رأس المتّكئين، يهبهم ذاته سرّ غناهم. وعِوض البرّيّة التي كانت سِمة القلب الخاطيء، يصير فينا فردوس الله المملوء من ثمر الروح القدس. يفرح السيّد نفسه بهذه الوليمة فيترنّم قائلاً: “قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء” (نش 5: 1).
في الظاهر صنع متّى الوليمة، لكن بالحق هي وليمة السيّد الذي يفرح بجنّته المثمرة في قلوب طالبيه، فيدعوا الخطاة والعشّارين ليذوقوا هذا الثمر المفرح، ويقتدوا بمن نال هذه النعم!

لقد أعلن السيّد أننا لا نصوم مادام العريس حال في وسطنا، وكأنه يسألنا إذ نحمله فينا أن نفتح قلوبنا بالحب ليأكل من ثمره المقدّس فينا وندعو الآخرين يأكلون معه، قائلين: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!”… إننا ندعوهم لينعموا بالوليمة الداخليّة التي أقامها الرب بروحه القدّوس فينا، هذه التي تسبّب تذمُّرًا بين الكتبة والفرّيسيّين، قائلين: لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة؟ فيجيبهم: “لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة” [12].

يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على صنع الوليمة، قائلاً:
[عندما ترك مكان الجباية تبع المسيح بقلبٍ ملتهبٍ، ثم صنع له وليمة عظيمة. فمن يقبل المسيح في قلبه يمتلئ بالأطاييب الكثيرة والسعادة الفائقة، ويود الرب نفسه أن يدخل في قلب المؤمن ويستريح!…
كل من يقبل جمال الفضيلة، ويقبل المسيح في بيته، يصنع له وليمة عظيمة أي وليمة سماويّة من الأعمال الصالحة، هذه التي يحرم منها جماعة الأغنياء ويشبع منها الفقير.]

هذه الوليمة يدخلها الخطاة والعشّارون الذين يشعرون بالحاجة إلى المخلّص لكي يبرّرهم، بينما يقف الفرّيسيّون خارجًا ينتقدون السيّد على محبّته المتّسعة لهم، لذلك أكّد لهم السيّد: “لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى… لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة”.

يُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذا القول الإلهي، قائلاً: [لو لم يحب الله الخطاة ما كان قد نزل من السماء إلى الأرض].
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [إنه لا يدعو من يدعون أنفسهم أبرارًا، فإنهم إذ يجهلون برّ الله ويطلبون أن يُثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله (رو 10: 3). من يدعون أنفسهم أبرارًا لا تقترب إليهم النعمة. فإن كانت التوبة هي بداية النعمة فمن الواضح أن احتقار التوبة هو تخلي عن النعمة].

نختم حديثنا عن دعوة متّى الإنجيلي بالمناجاة التي ينطق بها القدّيس أمبروسيوس على لسانه بعد تركه موضع الجباية وتبعيّته للسيّد المسيح:
[لست بعد عشّارًا، فقد تبررت من أن أكون لاويًا! لقد خلعت عنّي لاوي، ولبست المسيح! كرهت أسْري، وهربت من حياتي الأولى! إني لا أتبع آخر سواك أيها الرب يسوع! يا من تشفي جراحاتي! من سيفصلني عن محبّة الله التي فيك؟ أشدة أم ضيق أم جوع؟(رو 8: 35).
تُسمّرني فيك بمسامير الإيمان، وتربطني بك قيود الحب الصالحة! وصاياك هي أداة الكيّ التي سأحتفظ بها على جرحي، إنها الوصيّة التي تحرق الموت الذي في الجسد، حتى لا تنتقل العدوى إلى الأعضاء الحيّة، إنه دواء مؤلم يحمي من عفونة الجرح! أيها الرب يسوع، اقطع بسيفك القوي عفونة خطاياي، وقيّدني برباطات الحب، نازعًا كل فساد فيّ!
أسرع وتعال لتفضح الشهوات الخفيّة والمتنوّعة! اكشف الجرح فلا تزداد عفونته! طهّر كل فساد بحميم الميلاد الجديد]. ‏‏‏

📖 كلمات من نور🕯 {يسوع يدعو متى}

وفيما كان يسوع مارًّا بالقرب من مكتب جباية الضرائب، رأى جابيًا اسمه متّى جالسًا هناك. فقال له:”اتبعني”، فقام وتبعه. (مت ٩ : ٩)

وكان يسوع مارًّا: لم ينزل إلينا ليستريح، لأننا لسنا في راحة، قلبنا دائما في حالة اضطراب، حتى نلتقيه ونستريح فيه. نزل ليمرّ على كل واحد منّا ليدعوه، ويمرّ من خلالنا على غيرنا ليدعوهم.

رأى جابيًا اسمه متّى جالسًا هناك: إنه وظّف كل حواسه ليبحث عن الإنسان، ليدعوه باسمه. نظر باتجاه مكتب الجباية فوقع نظره على متى الذي اسمه “عطيّة الله”. جمّدته المادّة على كرسيه، وعطّلت حركة الحياة فيه.

فقال له: “اتبعني”: دعوة يسوع لمتى، جعلته يعي معنى اسمه، وحرّكته ليعطي حياته كلّها لله.
فقام وتَبِعه: الجلوس في حركة الزمن، يشير إلى الشلل، وإلى الاكتفاء بالزمنيات. ويشير إلى السلطة على النّاس والأشياء… أمّا القيامة، هي حركة الحياة الخصبة التي لا تهدأ، ولا تملّ، ولا تكتفي، وهي الحضور الواعي، والجهوزية الدائمة لتلبية نداء الربّ، واتباعه…
المجد والحمد والتسبيح والشكران، لك أيها الربّ يسوع المسيح. لأنك تتقصّد المرور على كل المعابر والدروب لتبحث عنّي وعن كلّ إنسان. المجد لك، لأنك بنظرة عينيك توقظني من غفوتي، وتفيض فيّ الوعي لدعوَتي… المجد لك، لأنك بدعوَتك لي، ترفعني من جمودية أنانيّتي، لتجعلني أسير معك وأتبعك، أنت الطريق والحقّ والحياة… الحمد والمجد، والشكر لك…

👈 بأي ذهنية اتبع يسوع في حياتي اليومية، ذهنية المتمسك بمقعده، أو القائم يتبع الربّ❓

👈 صلاة القلب 💜

يا ربّ يسوع المسيح، أنظر إليّ بعيني رحمتك.
يا ربّ يسوع المسيح، المجد لاسمك، لأنك أعطيت الكرامة لاسمي…
يا ربّ يسوع المسيح، انهضني من تُرابيّتي، لاقوم واتبعك على درب الملكوت.

👈 نيّة اليوم: نصلّي، من أجل أن لا تعوقنا اشغالنا ووظائفنا، وكل ما نستعمله من حطام هذه الدنيا، عن اتباع يسوع والتّتلمذ له عن كثب.
يا يسوع أنرني بنور دنحك. 🕯