عَ مدار الساعة


الخوري أنطون عن ويلات حرب الـ14 بجران والبترون: بيعت الأرزاق بأثمان بخسة.. ومشى الناس حفاة عراة ومع الجوع اكل البعض لحوم حيوانات ميتة..


الحرب الكبرى 1914 – 1918
📌 أجبرت الدولة استعمال النقد الورقي بدل النقد المعدني فنكبت البلاد نكبة مالية بسبب سقوط قيمته..
📌نذهب بعد نص الليل ومعنا “تنكات” لنملأها من مياه البحر ونحملها عظهورنا لنغليها..
📌عدنا الى الضيعة الشبه فارغة، وبيتنا دون ابواب.. والويل لمن يحمل رغيفاً بيده ويسير عالطريق..
📌 مات الوالد وهو حاضن ابنه في الفراش..
📌 الأهالي مع كاهن الضيعة جمعوا عظام موتاهم من الأقبية والحقول وأخذوها للكنيسة فقدّس الكاهن وصلوّا صلاة الموتى ودفنوها في المقابر بكلّ احترام..

وفي سنة 1915، أخذ المجلس الحربي يصدر أحكامه وينفي ويقتل ويشنق، أخبرني كبار السنّ: لما احتكر الدولة القمح لم يبقى الاّ القليل لدى المزارعين، ففلحوا وزرعوا وطحنوا ما بقي عندهم، وخبزوا ليعيشوا، ولما نبت القمح وظهر السنبل، جاء الجراد الطيّار باعداد كثيرة حجبت نور الشمس، ينزل على الأرض ويأكل الأخضر واليابس وأوراق الشجر وقشورها، وينزل الى القمح ويقضي عليه، ممّا حمل الناس على الذهاب الى حقولهم ومعهم طناجر والواح معدنية يطرقون عليها فتعطي أصواتاً تهرّب الجراد، وهكذا ذهبت الأهالي لطرده، ومنهم من داخ ومات في الحقل من الجوع والتعب، وعجز المزارعون عن شراء البذار ليجددوا الزرع في السنة التالية بسبب ارتفاع أسعار الحبوب، فازداد عدد الأموات من الضيق وتفشّي الأمراض وعدم الإعتناء بالأمور الصحية. وفي سنة 1915 أجبرت الدولة السكان لإستعمال النقد الورقي بدل النقد المعدني فنكبت البلاد نكبة مالية بسبب سقوط قيمته.

كل هذا عجّل على الناس بالموت جوعاً، وانتشرت الأمراض ومنها حمّة “تيوفوس” و”الجدري”، فبيعت الأرزاق والمنازل بأثمان بخسة، وبسبب الحصار البحري الذي ضربه الحلفاء حول تركيا، فانقطعت المحروقات والمواد الغذائية وكلّ ما يستورد من الخارج. ومشى المحتاجون حفاة شبه عراة، ولبس بعضهم أكياس القنب (الجنفيص) ولشّدة الجوع اكل بعض الناس لحوم الحيوانات الميتة وقشور الثمار. وكان والدي “طنوس” من وقت لآخر يتنهّد وتدمع عيناه، وتابع كنّا نحن والجيران نأكل الأعشاب، وصاحب الحظ من لديه من الزيت ليقليها، وأما نحن وغيرنا ذهبنا الى مزرعة “المجيدل” لنزرع القمح القليل الذي معنا في بعض الأراضي الجيدة، وانقطع الملح لأنّ الدولة منعت صنع الملاحات، كنّا نذهب بعد نصف الليل ومعنا “تنكات” كبيرة فنملأها من مياه البحر ونحملها على ظهورنا ونغليها لنحصل على الملح. وكيفما ذهبنا نجد الموتى على الطرقات، فعدنا الى القرية الشبه فارغة، وبيتنا دون ابواب، وبعض الجيران ماتوا بالقرب من منازلهم، وقد أكلت الوحوش بعض هذه الجثث، وسمعنا بعض الجياع يشكو الى الله شدّة جوعه، ويقول: يا ربْ “أكلة فاصوليا وأموت..”، لأنّ الوف من الناس لم يذوقوا شيئاً على النار لمدة سنتين. وبعدها تركنا بيتنا وذهبنا الى مزرعة “بسبينا” فضمّنا بعض الأراضي وزرعناها بعض القمح وقليل من الكرسنة والشعير، وغيرنا ترك القرية فكنت ترى البيوت الخربة دون ابواب ولا سقف.. مناظر محزنة والأموات داخل البيوت أو حولها.

كنّا نشتغل ليلاً ونهاراً لنبقى احياء، النشيط بقي حياً امّا الكسلان اصطاده الموت. والويل لمن يحمل رغيفاً بيده ويسير على الطريق فلا يعلم أيّ يد جائع نشلتها، ويقول الأب الجليل انطون أبي سعد انّ والدته “روز ابي سعد” بأنّ والدها كان في سلك الدرك ولها اخوات ثلاثة واخوة اربعة. في السنة الثانية من الحرب مرض والدها ومات، وفقدت في بداية السنة الثالثة والدتها، وبعد ذلك ماث 3 من اشقائها واثنين من شقيقاتها، والثالثة تزوجت وماتت على الطريق بين مراح الزيات وجران. ووالدتي ذهبت الى شكا مع شقيقها الصغير، هرباً من الموت واقاما عند رجل غنيّ، هي تحيك شراشف بالإبرة والمكوك والصنارة. وخالي يعمل في الأرض يزرع ويحصد مقابل الطعام، ولما عادا الى القرية وجد البيت شبه خربة، وبيت جيرانهم الذي كان عندهم ولد صغير مات والداه أخذته امرأة من أقاربه وربتّه، وعائلة جرانية أخرى لديها ولد فماتت الوالدة فأخذه والده الى شكا حيث كان يعمل، ومات الوالد وهو حاضن ابنه في الفراش، فذهبت جدتي وحملت الصبي الى جران.

هكذا الحرب والموت والجوع فرقوّا العائلات والبعض من اهالي جران ذهبوا الى كفريا وبقوا فيها، والبعض ذهبوا الى شكا، ويعرفون باسم بيت “الجراني”، ومنهم هاجروا وانقطعت اخبارهم، واكثرية البيوت خلت من اصحابها منهم ماتوا من المرض أو الجوع ومنهم تهجروا من لبنان الى عكار وعملوا عند بيكاتها ولم يعودوا. بقي في القرية عدد قليل يصارعون الجوع والحرب والموت.

كان والدي يقول لي: ما عاش وخلّص من الموت في الحرب الاّ النشيط، كما استعملت تركيا طرق لتجويع الناس، باقامة حواجز على الطرقات ويطلبون من احد الأشخاص النوم على جانب الطريق مغطّى بالكامل، وكلّ من يمرّ عليه ان يدفنه لأنه مريض بالجدري.. أو يدفعون بعض القروش فيُسمح لهم بالذهاب الى طرابلس، ومرات يبنون غرف صغيرة وحتى يُسمح للإنسان ان يمرّ عليه أن يتعرّى من كلّ ثيابه ويدخل الى الغرفة لأجل تبخيره حتى لا يمرض بالطاعون المنتشر في طرابلس، ومن لا يتبخّر عليه ان يدفع قليلاً من جيبه. وبعض المرات يكون رجل في طرابلس وثيابه جديدة يأتي ولد صغير ويغمر الرجل ويصرخ ويبكي قائلاً “يا أبي لماذا تركتني لأموت جوعاً، اريد أن اذهب اليك الى البيت”، ولم يعد باستطاعته التخلص منه، فتأتي امرأة أو رجل ليقول: أعطه بعض الدراهم، وعندما يعطيه يذهب الولد.

وعند اشتداد الحرب في سنة 1917، مات الكثير من أهالي جران، وخربت البيوت وسافر عدد لا يُستهان به من شبابها طلباً للعمل والعيش بكرامة. الذين بقيوا في القرية من الفلاحة والزراعة ومن تربية الماشية، يعيشون من حليبها ولبنها ويحرثون الأرض، وينقلون على ظهور حميرهم وجمالهم بعض حاجيات الناس.

وبعد انتهاء الحرب في 11 تشرين الثاني 1918 انكسر الجيش التركي فعاد أهل القرى والمدن الى بيوتهم المتداعية، واعادوا بنائها من جديد، وعندما تنفّس الصعداء في جران اجتمع الأهالي مع كاهن الرعية وجمعوا عظام موتاهم من الأقبية والحقول وأخذوها الى الكنيسة فقدّس الكاهن وصلوّا صلاة الموتى ودفنوها في المقابر بكلّ احترام، ودامت الحرب العالمية الأولى أربعة سنوات وأربعة اشهر من 28 حزيران 1914 حتى 11 تشرين الثاني 1918.

ولما اخذ لبنان استقلاله، عينت الدولة السادس من شهر أيار عيداً وطنياً للشهداء.

وقدرّت النفقات المادية لحرب العالمية الأولى بـ173 مليون دولار يومياً لمدة اربع سنوات.

ومات من جران، في مدة الأربع سنوات 186 نفساً، وفق لجنة الإحصاء لأبشرية البترون المارونية، والتقرير محفوظ في دير مار يوحنا مارون في سجل رقم 93، التي دونها المطران بولس الفغالي بعد زيارته لأبرشية البترون سنة 1921.  

وقد بلغت خسائر لبنان في الأرواح 100 الف نسمة، منهم قضوا جوعاً أو تشرداً او قتلاً.

الأب الجليل أنطون أبي سعد

جران – البترون