عشت تحولات العلوم الطبيعية.. تلاشت بعض الاقتناعات الظاهرة ضد الإيمان، مُثبتةً أنها ليست علمًا، بل مجرّد تفسيرات فلسفية.. رافقت مسيرة اللاهوت من 60 عام، سيما العلوم البيبليّة، ومع تعاقب الأجيال رأيت أطروحات أثبتت أنها مجرد فرضيات..
أوصى البابا الراحل بأن تكون جنازته بسيطة. كذلك طلب أن يُدفن في الموقع الذي دفن فيه يوحنا بولس الثاني، في سرداب كاتدرائية القديس بطرس.
ننشر في ما يلي النص الذي صاغه البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر
(٢٩ آب ٢٠٠٦)
“إذا نظرتُ في هذه المرحلة من حياتي إلى الوراء إلى العقود التي قطعتها، أرى أولاً دوافع عديدة عليَّ أن أرفع الشكر من أجلها. أشكر الله أولاً، مانح كل عطية صالحة، الذي أعطاني الحياة وأرشدني خلال لحظات ارتباك عديدة؛ وأنهضني دائمًا في كل مرة كنت أبدأ فيها بالانزلاق ومنحني دائمًا ومجدّدًا نور وجهه. وإذ أنظر إلى الوراء، أرى وأدرك أنه حتى الأجزاء المظلمة والمتعبة من هذه المسيرة كانت من أجل خلاصي، وأنه قد أرشدني جيدًا فيها.
أشكر والديَّ، اللذان أعطياني الحياة في زمن عصيب واللذان، على حساب تضحيات كبيرة، أعدا لي بحبهما بيتًا رائعًا، مثل نورٍ صافي، أنار كل أيامي وصولاً إلى اليوم. لقد علَّمنا إيمان والدي الشفَّاف نحن الأبناء أن نؤمن، وكعلامة درب كانت دائمًا ثابتة في وسط جميع دراساتي العلمية؛ إن ورع والدتي العميق وصلاحها الكبير قد شكّلا إرثًا لا يمكنني أبدًا أن أشكر عليه بما فيه الكفاية. لقد ساعدتني أختي على مدى عقود بإيثار وباهتمام محب؛ وأخي، بشفافيّة أحكامه، وعزمه القوي وصفاء قلبه، مهَّد لي المسيرة على الدوام؛ وبدون ومرافقته المستمرّة لي لم أكن لأتمكن من أن أجد الدرب الصحيح.
أشكر الله بصدق على العديد من الأصدقاء، الرجال والنساء، الذين وضعهم دائمًا بجانبي؛ وعلى معاونيَّ في جميع مراحل مسيرتي؛ وعلى المعلمين والتلاميذ الذين أعطاني إياهم. أوكلهم جميعًا بامتنان إلى صلاحه. وأريد أن أشكر الرب على وطني الجميل في سفوح جبال الألب البافارية، التي رأيت من خلالها على الدوام تألُّق روعة الخالق نفسه. أشكر أهل وطني لأنني تمكّنتُ فيهم دائمًا من أن أختبر مجدّدًا جمال الإيمان. أُصلّي لكي تبقى أرضنا أرض إيمان، وأسألكم يا مواطني الأعزاء: لا تسمحوا لأحد بأن يُحوِّلكم عن الإيمان. وأخيرًا أشكر الله على كل الجمال الذي تمكنت أن أختبره في جميع مراحل مسيرتي، خاصة في روما وإيطاليا التي أصبحت وطني الثاني.
من جميع الذين ظلمتهم بأي شكل من الأشكال، أطلب المغفرة بصدق.
ما قلته من قبل لمواطني، أقوله الآن لجميع الذين في الكنيسة قد أوكِلوا إلى خدمتي: أثبتوا في الإيمان! لا تسمحوا لأحد بأن يُضلِّلكم! غالبًا ما يبدو أن العلم – العلوم الطبيعية من جهة والبحث التاريخي (ولا سيما تفسير الكتاب المقدس) من جهة أخرى – قادرًا على تقديم نتائج لا تقبل الجدل على عكس الإيمان الكاثوليكي. لقد عشت تحولات العلوم الطبيعية منذ العصور القديمة وتمكّنتُ أن أرى، كيف تلاشت بعض الاقتناعات والضمانات الظاهرة ضد الإيمان، مُثبتةً أنها ليست علمًا، بل مجرّد تفسيرات فلسفية فقط تعود إلى العلم؛ كذلك كيف من جهة أخرى، تعلم الإيمان أيضًا في الحوار مع العلوم الطبيعية أن يفهم بشكل أفضل حدود نطاق تأكيداته، وبالتالي خصوصيته. أنا أرافق مسيرة اللاهوت منذ ستين عامًا، ولا سيما العلوم البيبليّة، ومع تعاقب الأجيال المختلفة رأيت أطروحات بدت ثابتة لا تتزعزع، أثبتت أنها مجرد فرضيات: الجيل الليبرالي (هارناك، جوليشر، وغيرهما)، الجيل الوجودي (بولتمان وغيره)، الجيل الماركسي. لقد رأيت وما زلت أرى كيف ظهرت وتظهر مجدّدًا من تشابك الفرضيات معقولية الإيمان. إن يسوع المسيح هو حقًا الطريق والحق والحياة – والكنيسة على الرغم من نواقصها هي جسده حقًا.
أخيرًا، أسأل بتواضع: صلوا من أجلي، لكي يقبلني الرب، على الرغم من كل خطاياي ونواقصي، في المسكن الأبدي. إلى جميع الذين أوكِلوا إليَّ، تستمر صلاتي القلبية يومًا بعد يوم.”
***
وبالتصفيق ودع عشرات آلاف المصلين نعش البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر، الذي يدفن بمراسم خاصة في سرداب كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، بعد جنازة رسمية عامة.
وتشكّل هذه الجنازة سابقة نادرة، لم تعرفها الكنيسة الكاثوليكية في تاريخها المعاصر، إذ لم يسبق أن رأس أي بابا صلاة الجنازة على سلفه.
وبدأت مراسم الجنازة في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان عند التاسعة والنصف صباحاً بالتوقيت المحلي لإيطاليا. وقد درجت العادة أن يرأس قداس جنازة البابا عميد مجمع الكرادلة، وأن يبقى كرسيه شاغراً إلى حين انتخاب بابا جديد.
هذه المرة، صلّى رأس الكنيسة الكاثوليكية فرنسيس، على البابا الفخري بنديكتوس الذي تنحّى عام 2013.
وقال البابا في عظته التي ألقاها من المذبح في الساحة الضخمة، “بنديكتوس… ليكن فرحك كاملاً في سماع صوته (الله) بشكل نهائي وإلى الأبد”.
واستغرقت المراسم التي تخللتها صلوات وترانيم، حوالى الساعة والثلث. أحيا القداس الذي أقيم وفقاً للطقس اللاتيني بلغات عدة، أكثر من أربعة آلاف كاردينال وأسقف وكاهن.
عند انتهاء المراسم، نُقل النعش إلى داخل كاتدرائية القديس بطرس وسيوارى الثرى في سرداب حيث رقد سلفه البابا يوحنا بولس الثاني حتى تطويبه عام 2011.
وشهدت الكنيسة حدثاً مشابهاً في عام 1802، حين ترأس البابا بيوس السابع مراسم جنازة بيوس السادس الذي توفي في المنفى في فرنسا عام 1799، لكنه لم يكن قد تنحّى.
وتوافد عشرات آلاف الأشخاص صباح الخميس إلى ساحة القديس بطرس في الفاتيكان لحضور مراسم الجنازة، وقدر عددهم بنحو 50 ألفاً، مقارنة بـ3 ملايين شاركوا بجنازة يوحنا بولس الثاني.
ودعا الكرسي الرسولي رسمياً إلى الجنازة بعثتين فقط هما الألمانية والإيطالية. إيطاليا التي تحتضن الفاتيكان على أراضيها، وألمانيا، موطن الكاريدنال جوزيف راتزينغير، عميد مجمع عقيدة الإيمان الذي بات رأس الكنيسة وحمل اسم بنديكتوس السادس عشر منذ عام 2005 وحتى تنحيه عام 2013.
قبل بدء المراسم، وقف مصلون وبينهم عدد كبير من الكهنة والراهبات، في طابور لعبور البوابات الأمنية ودخول الساحة. وحمل البعض أعلام ألمانيا ومقاطعة بافاريا التي يتحدر منها البابا الراحل، إضافة إلى إعلام الأرجنتين بلد البابا الحالي. وحمل مصلون ألمان لافتة كتب عليها “شكراً بنديكتوس!”.
وبخلاف العادة، لم تقرع أجراس كاتدرائية القديس بطرس حزناً عند إعلان وفاة بنديكتوس السادس عشر، بحسب موقع الفاتيكان، وذلك ما لا يحدث إلا عند وفاة البابا الذي لا يزال في منصبه.
كذلك، لم يكن هناك حاجة لتحطيم خاتم البابا عند وفاته، إذ سبق أن حطّم خاتم بنديكتوس عند تنحّيه.
ونشر المكتب الإعلامي للكرسي الرسولي تفاصيل عن صلاة المأتم، وقال الناطق الإعلامي باسم الفاتيكان ماتيو بروني إن بعض المقتطفات التي تتعلق بالصلاة على الباباوات قد أزيلت، وأضيفت فقرات تتلاءم مع منصب البابا الفخري.
وبحسب بروني، سيدفن البابا مع عدد من أغراضه الشخصية، منها وشاحه الكهنوتي، وهو مصنوع من الصوف، ويرمز إلى منصب الراعي. كذلك ستدفن معه بعض العملات النقدية والميداليات التي سكّت خلال حبريته، إلى جانب نص يختصر المحطات الرئيسية لجلوسه على الكرسي الرسولي، ملفوف في أسطوانة معدنية.
وقال المختص بشؤون الفاتيكان فيليب بوليلا لوكالة رويترز إن “جنازة بنديكتوس السادس عشر ستكون مشابهة لجنازة الباباوات الذين فارقوا الحياة وهم لا يزالون في منصبهم”. وأشار إلى أن الفاتيكان قرر عدم إحداث تغييرات كبيرة في مراسم الجنازة، بل مجرد تعديلات طفيفة في الصلوات التي تتلى في مناسبات مماثلة.
وكانت استقالة بنديكتوس السادس عشر، الأولى من نوعها منذ عام 1415، حين تنحّى بابا روما غريغوريوس الثاني عشر خلال محاولات إنهاء ما عرف بالانشقاق الغربي الذي أدى إلى ازدواجية في الباباوية، إذ كان هناك بابا في روما، وآخر في مدينة أفينيون الفرنسية.
يقول المتابعون لتاريخ الكنيسة، إن تنحّي بنديكتوس وقراره قضاء سنواته الأخيرة في الفاتيكان بصفته بابا فخرياً، خلقا معادلة غير مسبوقة في الكنيسة، إذ بات في عقر دار الكاثوليكية رجلان يرتديان زيّ الحبريّة الأبيض.
وبحسب موقع الفاتيكان الرسمي، أوصى البابا الراحل بأن تكون جنازته بسيطة. كذلك طلب أن يدفن في الموقع الذي دفن فيه يوحنا بولس الثاني، في سرداب كاتدرائية القديس بطرس. وبات ذلك المدفن شاغراً منذ عام 2011، عند تطويب يوحنا بولس الثاني ونقل جثمانه إلى مستوى أعلى في الكنيسة، ليعرض أمام المصلّين الراغبين بزيارته.
وقد دفن معظم الباباوت السابقين في سراديب الكاتدرائية ذاتها، باستثناء من أوصوا بدفنهم في كنائس أخرى.
وكما درجت العادة، سيدفن جثمان البابا في ثلاثة توابيت. تابوت داخلي من خشب السرو ملفوف بشرائط حمراء، وتابوت في الوسط من الزنك، وتابوت ثالث من خشب الجوز، يقفل بواسطة مسامير ذهبية.
وبحسب صحيفة واشنطن بوست، فإن أصول هذا التقليد غير مفهومة بدقة، حتى بالنسبة للمختصين، ولكن يرجح بعض المؤرخين أن يكون للتوابيت الثلاثة أهداف عملية، منها حماية جثمان البابا من التحلّل والحفاظ عليه لعرضه لاحقاً في حال تطويبه قديساً، وكذلك لحمايته من السرقة خلال فترات الاضطراب السياسي.
وقال أستاذ اللاهوت غابريال رادل لواشنطن بوست إن معدن الزنك يرمز إلى الفخامة، ويساهم في حفظ الجثمان، في حين أن التابوت الخشبي الخارجي فيرمز إلى أن البابا يموت كأي إنسان آخر، وأن كل البشر يتساوون في الموت.
ووضعت وفاة البابا الفخري حداً لتعايش غير معتاد بين بابوين.
على مدى ربع قرن، كان راتزينغر، أستاذ اللاهوت اللامع الذي لا يرتاح كثيراً للتحدث أمام الإعلام والوجود وسط الحشود، الحارس الأمين لعقيدة الكنيسة في روما على رأس مجمع العقيدة والايمان، قبل أن يُنتخب بابا عام 2005.
واتّسمت حبريّته بأزمات عدة على غرار فضيحة “فاتيليكس” عام 2012 التي كشفت عن شبكة فساد واسعة النطاق.
مطلع العام 2022، طاردت فضيحة اعتداءات جنسية البابا الألماني بعدما اتُهم في تقرير صحافي في ألمانيا بإساءة إدارة العنف الجنسي في الثمانينات عندما كان رئيس أساقفة ميونيخ. وكسر صمته ليطلب “الصفح” لكنه أكد أنه لم يتستر مطلقاً على الإساءة للأطفال والتقى عدداً من الضحايا
البابا بنديكتوس السادس عشر