عَ مدار الساعة


الأب غسان رعيدي: أحبائي.. بعض الحجارةِ الكريْمةِ مُنطَفِئَةً أَشِعَّتُها. إنها رمزًا للنِعَمِ الَّتي يَنْسَى أن يَطلُبَها الناسُ من مريَمَ.. (كاترين لابُورِيه)


“مريَمُ جِزَّةُ جِدعَونَ البريئةُ منَ الدَنَسِ ونُبوءَةُ القدِّيسةِ كاترين لابُورِيه.. الكنيسةُ الْمُقَدَّسَةُ ستَنتَصِرُ قريبًا على أَعدَائِها الظَاهِرينَ والْخَفيِّينَ.

نقلاً عن كتاب “إنتصارُ قلبِ مريَمَ الطاهرِ” – الخوري غسان رعيدي 2012


أَحِبَّائي، من المعلُومِ أنَّ جِزَّةَ جِدعَونَ مأخُوذَةٌ من صُوفِ الْحَمَلِ الَّذي يَتميَّزُ بالوَداعةِ والتَواضُعِ والطَاعَةِ والرِقَّةِ والْحَنانِ والصَمْتِ والْهُدُوءِ والسَلامِ والتَضحيةِ وبَذْلِ الذَاتِ. ومريَمُ الَّتي يُرمَزُ إليها بالْجِزَّةِ تتميَّزُ بِهَذِهِ الصِفاتِ الَّتي تَمنَحُها لَقَبَ “مَلِكَةُ الْحِكمَةِ الإلَهِيَّةِ”. إذًا، لِمَاذا أُطلِقَ عليها لَقَبُ “جِزَّةُ جِدعَونَ”؟

جِدعَونُ هو رجُلٌ من سِبْطِ مَنَسَّى، ٱختارَهُ اللهُ نبيًّا ليُخلِّصَ الشَعْبَ (قض6: 8) من الأعداءِ في مِديَنِ ومن العَمَاليقِ وبَنِي المشرق (قض6: 3). تراءَى له ملاكُ الرَبِّ تَحتَ البُطمة، أَيْ في ظِلِّ مريَمَ البريئةِ من الدَنَسِ، ودارَ حِوارٌ بينَهُما نَفَّذَ خِلالَهُ جِدعَوْنُ تَعليماتِ الْمَلاكِ.

لكنَّ جِدعَوْنَ طلَبَ من الرَبِّ علامةً قَبْلَ الْمَعرَكَةِ الحاسِمَةِ، تُؤَكِّدُ ٱنتِصَارَهُ، فقال ” 36 للهِ: ‘إِنْ كُنْتَ مُخَلِّصَ بَنِي إِسرائيلَ عن يَدِي، كما قُلتَ، 37 فهاءَنَذا واضِعٌ جُزازَ صُوفٍ في البَيْدَرِ. فإِذا سَقَطَ النَدى على الجُزازِ وَحدَهُ، وعلى سائِرِ الأَرضِ جَفافٌ، عَلِمْتُ أنَّكَ تُخلِّصُ إِسرائيلَ عن يَدِي، كما قُلْتَ‘. 38 فكانَ كَذَلِكَ.

وبَكَّرَ في الغَدِ، فعَصَرَ الْجُزازَ، فخَرَجَ مِنهُ مِنَ النَدَى مِلْءُ كُوبِ ماءٍ. 39 فقالَ جِدعَونُ للهِ: ‘لا تَغضَبْ علَيَّ، فأَتَكلَّمَ ثانِيةً أَيضًا وأُجَرِّبَ مَرَّةً أُخرَى فَقَط بالْجُزازِ: لِيَكُنْ على الْجُزازِ وَحْدَهُ جَفافٌ وعلى سائِرِ الأَرضِ نَدًى‘. 40 فَصَنَعَ الرَبُّ كذلكَ في تِلْكَ اللَيْلَةِ، فكانَ على الْجُزازِ وَحدَهُ جَفافٌ وعلى سائِرِ الأَرضِ نَدًى” (قض6: 36-40).

يَعتَبِرُ آباءُ الكنيسةِ أنَّ الْجُزازَ يَرمُزُ إلى مريَمَ، لذَلِكَ نُصَلِّي في طِلْبَتِها: ” أنتِ هي جِزَّةُ جِدعَونَ، نَدَى السَمَواتِ أَعطِينا“. لكنَّنا نستطيعُ أن نَقُولَ أكثرَ من ذَلِكَ، فاللهُ غَمَرَ مريَمَ ٱبنَةَ يُواكيمَ وحَنَّة بنِعَمِهِ السَماويَّةِ كما غَمَرَ الْجُزازَ بِنَدَى مَحَبَّتِه، في الوقتِ الَّذي كانَ فيه الشَعبُ مُتَمَرِّدًا لا حُبَّ في قَلْبِهِ للهِ. هَذِهِ النِعَمُ السَماويَّةُ كَوَّنَتْ مريَمَ العذراءَ بالطَهَارةِ منذُ الأزَلِ، كوَّنَتْها بريئةً من دَنَسِ الخطيئةِ الأصليَّةِ ومِنْ كُلِّ دَنَسٍ، لأنَّها وُجِدَتْ في فِكْرِ اللهِ الأَزَلِيِّ الخالِقِ قَبلَ أن يُوجِدَ الشَيطانُ الخطيئةَ، وجَعَلَتْها شَريكةً في سِرِّ الفِدَاءِ العَظيمِ، مِثْلَما صارَ الْجُزازُ طاهِرًا نقيًّا بالنَدَى السَماويِّ وشريكًا في ٱنتصارِ شَعْبِ اللهِ التَائِبِ على الأَعْدَاءِ من بَنِي مِديَنَ والعَمَاليقِ وغيرِهم.

وهكذا، جُمِعَتْ نِعَمُ اللهِ كلُّها في مريَمَ العذراءِ الطَاهرةِ، وعُصِرَتْ في كأسِ المسيحِ الَّذي ٱمتَلأَ فأسقَى منهُ تلاميذَهُ والعالَمَ الْمُؤمِنَ به. وبذَلِكَ، تُوِّجَتْ مريَمُ البتولُ مُوَزِّعَةَ كُلِّ النِعَمِ، من دَمِ المسيحِ ٱبنِها، على كُلِّ النُفوسِ العَطْشَى للخَلاصِ والَّتي تُمثِّلُ الأرضَ الَّتي تَلَقَّتْ نَدَى مَحبَّةِ اللهِ بَعْدَ الْجُزازِ، لذَلِكَ جاءَها مَلاكُ الرَبِّ قائلاً: ” السَلامُ لكِ يا مَملُوءةً نعمةً، الرَبُّ معَكِ” (لو1: 28). ومن ثَمَّ تُوِّجَتْ شريكةً في آلامِ المسيحِ وسِرِّ فِدائِهِ لأنَّها دَخَلَتْ مَرحَلَةَ الآلامِ الخلاصيَّةِ معَهُ كما دخَلَ الْجُزازُ الْمَعصُورُ مرحلةَ الْجَفافِ. وتُوِّجَتْ أيضًا شريكةَ الفِداء، لأنَّ عُصارَةَ نِعَمِ دَمِ المسيحِ الْمُهرَقِ على الأرضِ العَطْشَى وعلى الصَليبِ، وُزِّعَتْ على التَائبينَ، تَحقيقًا لِمَا أَنْبَأَها به سِمْعَانُ الشَيْخُ قائلاً: “سيَجُوزُ في نَفْسِكِ سَيْفٌ، فتَنجَلِي خَفَايا قُلُوبٍ كثيرة” (لو2: 35). أفَلاَ تَستَحِقُّ بعدَ كُلِّ هذا الكَلامِ أن تُلَقَّبَ بـ “مَلِكَةُ الحكمةِ الإلَهيَّةِ” ؟!

القدِّيسةُ كاترين لابُوريه

أَحِبَّائي، كما ٱنتَصَرَ جِدعَوْنُ على أَعدَائِهِ مُعتَمِدًا على العلامةِ الَّتي هي الْجُزازُ الطَاهرُ والْمَمْلُوءُ من نَدَى الحياةِ، والْمَعصُورُ نِعَمًا في كأسِ الْخَلاصِ، كَذَلِكَ الكنيسةُ الْمُقَدَّسَةُ ستَنتَصِرُ قريبًا على أَعدَائِها الظَاهِرينَ والْخَفيِّينَ، مُعتَمِدَةً على العَلامةِ العَظيمةِ الظَاهِرَةِ في السَماءِ، مريَمَ البريئةِ مِنَ الدَنَسِ الَّتي هي الْمَرأةُ الْمُوَشَّحَةُ بالشَمسِ ” وتَحْتَ رِجْلَيْها القَمَرُ، وعلى رَأْسِها إكليلٌ مِنِ ٱثْنَي عَشَرَ كَوْكَبًا” (رؤ12: 1). فكيف ستَنتَصِرُ هَذِهِ الْمَلِكَةُ الْحَكيمَةُ بنعمةِ اللهِ الَّتي تَمْلأُها؟

لقد ظَهَرَتْ سيِّدَةُ الْحَبَلِ بلا دَنَسٍ بين 18 و19 تَمُّوز من سنة 1830 للرَاهبةِ القدِّيسةِ، “كاترين لابُوريه” (راهبةٌ في جَمعيَّةِ الْمَحبَّة). رَوَتِ القدِّيسةُ الظُهُورَ كالآتِي: ” عندَ السَاعةِ الحاديةَ عَشْرَةَ والنِصْفِ ليلاً، سَمِعْتُ صَوْتًا يُنادينِي بٱسْمِي. إستيقَظْتُ ونَظَرْتُ من حيثُ يأتِي الصَوْتُ، وأَزَحْتُ السِتَارَ فرأَيْتُ وَلَدًا بِرِداءٍ أبيضَ، عُمرُهُ بين أربعٍ وخَمْسِ سَنَواتٍ. قالَ لي: ‘ٱنْهَضي بسرعةٍ وتعالَي إلى الكنيسةِ، فالعذراءُ تنتظِرُكِ!‘، تَبِعْتُهُ، وكانَ يَنشُرُ النُورَ حولَهُ أينما حَلَّ… مُفاجَأَتِي الكُبرى كانت عند دُخُولي الكنيسةَ، إذ ٱنفتَحَ البابُ الكبيرُ بِمُجَرَّدِ لَمْسِ الملاكِ له. ولكنِّي لَمْ أَكُنْ أَرَى العذراءَ. فقادَنِي الصَبيُّ إلى الدَاخِلِ بالقُربِ من كُرسِيِّ الأبِ الرَئيسِ (قُربَ المذبحِ). فسَجَدْتُ هناكَ وبَقِيَ هو واقِفًا بالقربِ منِّي. كُنْتُ أَشْعُرُ بِطُولِ الوقت… وأخيرًا، أَتَتِ السَاعةُ، فأَعْلَمَني الملاكُ: ‘ها هي العذراءُ القدِّيسةُ، ها هي!‘. فَسَمِعْتُ حَفيفَ رِداءٍ من حريرٍ، من ناحيةِ الْمِنَصَّةِ، يأتِي ويَجلِسُ على كُرسِيٍّ على دَرجاتِ المذبح… شَكَكْتُ في أن تكونَ العذراء، ولكنَّهُ (الملاك) قالَ لي: ‘ها هي العذراءُ القدِّيسةُ‘.

يَصعُبُ عليَّ وَصْفُ شُعُوري في ذلكَ الوقتِ… وكأنِّي لا أَرَى العذراءَ. فَرَدَّدَ الولَدُ: ‘ها هي العذراءُ‘. (كاترين لا تستَوْعِبُ وتَبقَى على بُعْدٍ). عندَها عَلا صَوْتُ الوَلَدِ بِنَبْرَةِ رَجُلٍ… فَنَظَرْتُ إلى العذراءِ وما كان منِّي إلاَّ أن قَفَزْتُ نَحوَها ورَكَعْتُ على دَرَجاتِ المذبحِ وأَتْكَأْتُ يَدَيَّ على رُكبَتَيِ العذراءِ. هُنا قَضَيْتُ أَجْمَلَ وأَعْذَبَ وَقْتٍ في كُلِّ حَياتِي… يستَحيلُ عَلَيَّ وَصْفُهُ…”.

قالَتِ العذراءُ لكاترين: ” اللهُ يُريدُ أن يُحَمِّلَكِ رسالةً… ستَتَحَمَّلينَ الْمَشَقَّاتِ وستُضطَهَدِينَ. ولكنَّكِ ستَحصَلينَ على النِعمة. لا تَخَافِي. قُولِي كلَّ شيءٍ بثِقَةٍ وبَساطَةٍ. ثِقِي. لا تَخافِي…”. غَرِقَتِ العذراءُ في حُزنٍ كبيرٍ وقالت لِكاترين: ” ستَكُونُ الأزمنةُ سيِّئةً. ستَحِلُّ الْمَآسي على فرنسا. سيسقُطُ العرشُ. ستَحِلُّ على العالَمِ بأَسْرِهِ كلُّ أنواعِ الشُرور“. ولكنَّ العذراءَ أرشدَتْ بِحِكْمَتِها الأزليَّةِ القدِّيسةَ كاترين، ومن خلالِ كاترين كُلَّ العالَم، إلى طريقِ الملكوتِ والانتصارِ الْحَتمِيِّ على قِوَى الشَرِّ والظَلامِ قائلةً: ” تعالَي إلى أقدامِ الْمَذبَحِ. هنا ستَفيضُ النِعَمُ على جَميعِ طالِبيها بثِقَةٍ وحَرارةٍ، كِبارًا وصِغارًا“.

وتابَعَتِ العذراءُ كَلامَها حَوْلَ الشُرورِ الْمُقبِلةِ على البشريَّة، وقالت: ” يا ٱبنَتِي، سيَتَعَرَّضُ الصَليبُ للإهانةِ والازدِرَاءِ وسيُرمَى على الأرض. سيَفتَحُونَ قلبَ سيِّدِنا المسيحِ من جديدٍ، وستَجري الدِماءُ وستَمتَلِئُ الشَوارِعُ بالدَمِ… يا ٱبنَتِي، سيَكُونُ العالَمُ كلُّه في الْحُزنِ“. وفي 27 تشرين الثاني من سنة 1830، ظَهَرَتْ سيِّدَةُ الْحَبَلِ بلا دَنَسٍ للمرَّةِ الثانيةِ للرَاهبةِ كاترين. فوَصَفَت كاترينُ العذراءَ كما يلي: ” رأيتُ العذراءَ للمرَّةِ الثانيةِ واقفةً، لِباسُها أبيضُ، طُولُها متوسِّطٌ، وَجهُها رائعٌ، يستحيلُ عَلَيَّ وصفُ جَمالِها… كانتِ العذراءُ تَحمِلُ بين يدَيْها كُرَةً ذهبيَّةً يعلُوها صليبٌ. كانت تَحمِلُها دُونَ تَعَبٍ وعَيْنَاها نَحو السَماء… إنَّها تُقَدِّمُها للهِ… ثُمَّ سَمِعْتُ: ‘هذهِ الكُرَةُ تُمثِّلُ العالَمَ بأَسْرِهِ… وتُمثِّلُ كُلَّ إنسانٍ بِمُفرَدِهِ‘.

فجأةً، ٱمتلأتْ أصابعُ العذراءِ بالْخَواتِمِ الْمُرَصَّعةِ بالْحِجَارةِ الكريْمَةِ، أَشِعَّتُها تتلألأُ برَّاقةً ساحرةً. في ذلك الوقتِ سَمِعْتُ صوتًا يقولُ لي: ‘هذهِ الأشعَّةُ تَرمزُ إلى النِعَمِ الَّتي تنالُها العذراءُ للَّذينَ يطلُبونَها‘. أخيرًا رأيتُ بعضًا من الحجارةِ الكريْمةِ مُنطَفِئَةً أَشِعَّتُها. كانت رمزًا للنِعَمِ الَّتي يَنْسَى أن يَطلُبَها الناسُ من مريَمَ. ثُمَّ تَكَوَّنَ إطارٌ ذهَبِيٌّ بشكلِ أيقونةٍ كُتِبَ عليه بأحرُفٍ ذهبيَّةٍ: ‘ يا مريَمُ الَّتي كُوِّنَت بلا خطيئةٍ، صَلِّي لأجلِنا نَحنُ الْمُلتَجِئينَ إليكِ“.

وٱستطاعَتِ القدِّيسةُ كاترين أن تَرى على الجهَةِ الثانيةِ من الأيقونةِ حرفَ “أم (ميم) =M” مُركَّزًا عليه الصَليبُ، وفي الأسفَلِ رأت قلبَيْ يسوعَ ومريَمَ الأقدَسَيْنِ. وسَمِعَتْ صوتًا يقولُ لَها: ” إطبَعِي أيقونةً بِهذا الشكلِ. كلُّ مَنْ يَلبَسُ هذهِ الأيقونةَ بثقةٍ، ويُعلِّقُها بشكلٍ خاصٍّ في عُنْقِهِ، ويُصلِّي بتَقْوًى هذِهِ الصَلاةَ القصيرةَ، يَنالُ حِمَايةً خاصَّةً ونِعَمًا غزيرة“[2].

إذًا، ها هي العذراءُ البريئةُ من الدَنَسِ، مَلِكَةُ الْحِكمةِ الإلَهيَّةِ، جِزَّةُ جِدعَونَ، تُرشِدُنا، في هذِهِ الأيَّامِ الأخيرةِ للشِرِّيرِ، إلى مَذْبَحِ ٱبنِها الوحيدِ كي نُؤمِنَ به ونعبُدَهُ ونُشارِكَهُ في حَمْلِ صليبِ الفداءِ، لنحصُلَ على النِعَمِ الْخَلاصيَّةِ من يَدَيْها الْمُبارَكتَيْنِ قائلينَ: “يا مريَمُ البريئةُ من الخطيئةِ الأصليَّةِ، صَلِّي لأَجْلِنا نَحْنُ الْمُلتَجِئينَ إليكِ“، لِمَجْدِ الثَالُوثِ الأَقْدَسِ، إلى الأَبَدِ، آمين.


([1]  الخوري غسَّان رعيدي، رياضة عيد الحُبَل بِها بلا دنَس، العظة رقم 101/2011، سيِّدة المعونات – زوق مكايل، الثلاثاء 06/12/2011 مجيء أ 5، مريَم الطَاهرة ملكة الحكمة.

([2]  منشورات بازيليك سيِّدة الأيقونة العجائبيَّة للآباء اللعازريِّين، الأشرفيَّة – بيروت، لا ت.

    René Laurentin, Petite vie de Catherine Labouré, Desclée, Paris, 1991, p.34-47