مرّ الفي عام على مجيء مخلّص العالم على ارضنا، وعلى كلامه “ملكوت السموات بداخلكم”، بيد أن معظم المسيحيين ما زالوا يزاحمون بعضهم في إنشاء أكبر اشجار العيد المضيئة ليلة الميلاد، وفي اقامة الإحتفالات ليتحدثوا فيها عن فضائل ذواتهم، لا عن المسيح الذي عليه أن يولد بقلوبهم..
موقع “أغوراليكس” التقى الأب يوسف يمين في زغرتا، سائلاً إياّه عن استيلاد المسيح في ذواتنا، واليكم الحوار:
يبدأ الجليل يوسف يمين حديثه بالإشارة الى أنّ ولادة المسيح من مريم العذراء في بيت لح، داخل مغارة لا في نزلٍ أو بيت… يكشف تلهّي البشر (المستمر) في القشور والذات المنفوخة من شهوات الأرض وسيدّ هذا العالم، فالبساطة والفقر برأيه شرطان أساسيان لولادة يسوع الذي أخلى ذاته آخذاً صورة “عبد-إنسان” داخل كلٍّ منا، يقول: ضروري جداً وملحّ كثيراً تذكير الناس أنّ عيد ميلاد السيد المسيح ليس الشجرة المضيئة وكِبرها وصغرها، ولا توزيع الهدايا على أهميتها؛ فتلك الأعمال قشور لا حياة فيها ان لم تكن سبيلاً ومدخلاً للوصول الى اللبّ، وتجليات العيد وان احترمناها شكلاً تبقى دون الجوهر والمعنى والمضمون.. فما نراه اليوم في بيوتنا وعلى شاشاتنا وداخل قرانا وبلداتنا بمجمله ليس “عيد الميلاد” أبداً أبداً أبداً… يرددها الأب يمين ثلاثاً لتأكيد فكرته.
يضيف الأب يمين: بمحبة واضحة وصريحة أحبّ تذكير المسيحيين الكبار قبل الصغار أن ما يفعلوه (من دون التعميم) لا يشبه بشيء جوهر عيد التجسّد الإلهي؛ يمسك الجليلي الإهدني تفاحةً بيده، ويدلّ اليها، ويقول: “للتفاحة “قشرة” تغلفها، وبداخلها “اللبّ”، وبالتالي لا معنى للقشرة لولا داخلها ولولا اللب الذي فيها ولولا البذرة التي فيها، فمثلما الأهمية في التفاحة لمذاقها وطعمها ولبّها، يُفترض أيضاً ألا تلهينا قشور عيد الميلاد عن جوهر العيد… ولفهم سرّ التجسّد الإلهي فينا، علينا الإبتعاد قليلاً عن الضوضاء التنافسية الشكلية الخارجية، للتبحر في ذواتنا حتى نلتقي بالحبيب يسوع، الذي هو كل شيء وبكل شيء (رسالة بولس الى أهل قولسي 3: 11).
ولفهم سرّ الميلاد وفق الأب يوسف يمين، علينا التعمّق، أولاً تجسّد الله المطلق الأزلي في الإبن من خلال الروح بعلاقة (Relation) ثالوثية (Trinitaire) لتظهر أهمية ودور العائلة المقدّس، وثانياً بدور العذراء مريم الخلاصي كإمرأة وأم (Mère)…
1- التجسّد الإلهي
بحسب الأب يوسف يمين، ميلاد المسيح في مزود يعرفنا على عذوبة الله المتجسدة بالإبن بعملٍ مستمرّ الى ما لا نهاية في مخلوقاته.. وهو إن شمل بكماله كلّ كمالات الوجود يمكن اختصارها بـ”كلمة – فعل واحد” الحب… ويعتبر الجليلي الإهدني يوسف يمين، أنّ فعل إخلاء الذات الإلهية في المسيح – الإنسان وتجسّده بصورة بشر، تشير وتؤكد على أنّ فعل الألوهة المطلق بدخوله الزمان والمكان (الزمكانية) لا يمكن فهمه جيداً على الأرض، لعظمة تواضع العمل الإلهي وتضحيته غير المفهومة من قبلنا، وإن لخصتّه ترانيمنا الليتورجية اللاهوتية وكتبنا المقدسة جيداً بعبارتي:
– الله صار إنساناً ليصير الإنسان الهاً بفضل المسيح
– وحدّت يا رب لاهوتنا بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك؛ حياتك بموتنا، وموتنا بحياتك؛ أخذت ما لنا، ووهبتنا ما لك…
هكذا تجسّد الإله المطلق بشكل سرّي ليصير انساناً من مريم العذراء والدة الله، تماماً كما يولد النور من الشمس، وصار طفلاً صغيراً يبكي بحضن مريم… يقول الأب الإهدني معقباً: جوهر الميلاد نزول المطلق في النسبي الانسان الضعيف ليرفعه ويضمّه الى الآب، إنّه (المسيح) يساعدنا للصعود اليه لنشترك بطبيعته الإلهية الأبوية التي هي حبٌ مطلق لا غير، تماماً كما عبّر عنها صخرة الكنيسة بطرس في رسالته الثانية 1: 4.
ولتأكيد الفكرة يعود الأب اليمين الى انجيل المقدس ورسالة بولس الى اهل فيليبي (2: 6-11) وما حرفيته :
هو الذي في صورة الله لم يعدّ مساواته لله غنيمة.
بل تجرّد من ذاته مُتخذاً صورة العبد.
وصار على مثال البشر وظهر على هيئة إنسان.
فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب.
لذلك رفَعه الله الى العلى ووهب له الإسم الذي يفوق جميع الأسماء
كيما تجثو لاسم يسوع كل ركبة في السموات وفي الأرض تحت الأرض
ويشهد كلّ لسان أن يسوع المسيح هو الربّ تمجيداً لله الآب.
وكلام بولس المدوّن، بحسب التقليد المسيحي، مأخوذٌ من الجماعات المسيحية الأولى كتسبيحٍ لله ولسرّ تجسّده الخلاصي الأزلي..
يعود الأب يمين مرة جديدة ليؤكد ما ذكرناه سابقاً، “هيدا هوي عيد الميلاد، على الطرش أن يسمعوها، وعلى العميان أن يروها، وعلى الخرس أن ينطقوها… عيد الميلاد ليست الزينة ولا شجر الميلاد ولا الإضاءة، سأقولها كل يوم وإن بقيت الناس متمسكة بتلك القشور والسطحية، يضيف أبو المردة الأب يوسف يمين: الخالق بمجانية مطلقة، “اجا لعنا وصار انسان، من مريم العذراء البتول…
يتوقف الأب يمين قليلاً – عميقاً، فيشير الى دور “مريم” المقدّس…
2- مريم – المرأة – الأم – العذراء – البتول
يقول الجليلي الإهدني: من جوهر عيد الميلاد، مجيء الله الآبن من إمرأة، دور المرأة أمر مهول في عملية الخلق، وشحارُها وتعتيرها مرده ضعف الإنسان وقلبه للقيم رأساً على عقب. يضيف ضاحكاً: الله القدير كلّي الكمالات، كان بيقدر يجي بتكة (بلحظة) لا من امرأة ولا من حدا، لكن احترامه للإنسان بالعموم، وللمرأة بالخصوص جعله يأتي من العذراء مريم لطيفة اللطافة، وبِريّة البرايا، فمنها وفيها ومن خلالها نفهم ونتقبّل بالأمس والحاضر والمستقبل، سرّ تقبّل الإنسان للألوهة بكلمة حرّة عند قولها “ليكنْ لي بحسب قولِكَ”..
فالعذراء مريم أم يسوع وأمنا، قدسّت بأحشائها المقدسة (معبد الله الحي) كل أحشاء نساء العالم منذ بدء الخليقة الى أبد الآبدين ودهر الدهرين..
وليفهم الإنسان بمحدوديته البسيطة الضعيفة إطلاقية الإله التي لا تُحدّ.. يطلب الأب يمين منّا التمييز بتأني وروية، بين عمله المطلق وتجسدّه المستمر بالبشرية أمس واليوم وغداً كعمل إلهي مستمر (quant à Lui)، من العمل التجسدي الذي تمّ منذ الفي عام بولادته من مريم العذراء داخل مغارة بيت لحم (quant à Nous) ودخول المطلق في الزمكانية الذي تحدّث بها التلميذ المحبب الى قلب يسوع يوحنا الحبيب، في رسالته الأولى “ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا” (الكلمة صار جسداً quant à Nous) وفي مقدمة انجيله يقول التلميذ الحبيب “كان النور الحقّ الذي يُنير كل انسان آتياً الى العالم، كان في العالم، وبه كان العالم، والعالم لم يعرفه” (يوحنا 1: 9-10)
هكذا المسيح بتجسدّه الإلهي من مريم العذراء قدّس العائلة عبر الزمان.. ومريم باتخاذها يوسف البار زوجاً لها، وإن لم يعرفها (لم يتحّد بها) فهم روحياً يشكلون انموذج حي لما هو مطلوب من عائلاتنا، يقول الأب يمين: كما في السماء هكذا على الأرض، الله المطلق برأي المتصوفين المتوحدين المسيحيين يفضلون إطلاق التسمية على الكلمة بـ(العلاقة) وبالفرنسية Relation، وهي طبيعة الحال ثالوثية Trinitaire.. هكذا على عائلاتنا تجسيد علاقاتها البينية صورة الله البهية.
ولأنّ سرّ التجسّد الذي اخفاه الله الآب، عن الملائكة وعن كلّ رئيس وسلطان وبشر، أراد بمجانية رفع البشر بانحناءة أبوية اليه، تماماً كالأم التي تُهدهِد طفلها بكلمات وترانيم صغيرة، يقول عن ذلك الجليلي يوسف يميني: عيد الميلاد من الأعياد السَيديّة، أي التي تخصّ السيد المسيح كالقيامة ودخوله الى الهيكل والتجلي… فولادة يسوع المسيح تحصل فعلياً بالكون بشكل غير منظور، ليلة 25 كانون الأول من كل عام، وان كانت تلك الليلة تخصّ فيما مضى عيد الشمس (ميترا) عند الشرقيين القدماء، فالكنيسة بنقل مولد المسيح الى 25 ك1 حافظت على المغزى عينه، وما تربطه الكنيسة وتحلّه على الأرض يكون مربوطاً ومحلولاً في السماء.. (متى 16: 19)