عَ مدار الساعة


القوة الخفية للملكوت..


تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لمن هو الأعظم (لوقا ٢٢: ٢٤-٣٠)

مناقشة حول من هو الأعظم

بينما كان السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد يعلن عن اشتياق قلبه وشهوة نفسه أن يقدم حياته فصحًا عن البشرية، طالبًا صداقتهم على مستوى أبدي، كان قادة اليهود يتآمرون لقتل المسيّا والخلاص منه، أما التلاميذ ففي ضعف بشري كانوا يتشاحنون فكريًا على المراكز الأولى في الملكوت الجديد، حاسبين إياه ملكوتًا زمنيًا ماديًا.

“وكانت بينهم أيضًا مشاجرة، من منهم يُظن أن يكون أكبر.
فقال لهم: ملوك الأمم يسودونهم، والمتسلطون عليهم يدعون محسنين.
وأما أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم.
لأن من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟!
أليس الذي يتكئ؟! ولكني أنا بينكم كالذي يخدم.
أنتم الذين ثبتّوا معي في تجاربي.
وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا.
لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي،
وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” [24-30].

أولاً: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح ينسب طلب المراكز الأولى للأمم. وكأن العلامة الأولى للانتساب للأمم هو “التشامخ” وطلب المجد الزمني، وعلى العكس علامة الانتساب لجسد المسيح هو “التواضع” والاشتياق لاحتلال المركز الأخير في وسط الكل، لكي بالتواضع المملوء حبًا يمكننا أن نحتضن الجميع. بمعنى آخر، إن كلمة الله في محبته للبشرية أخلى ذاته، محتلاً مركز العبد لكي يحمل في جسده العبيد ويرتفع بهم إلى البنوة للآب. بذات الروح اشتاق الرسول بولس أن يستعبد نفسه ليربح الكثيرين (1 كو 9: 19)، بمعنى أنه اشتهى أن يتمثل بسيده، فيكون له هذا الشرف أن يحسب نفسه عبدًا للجميع، لا عن يأسٍ أو تحطيمٍ نفسيٍ، إنما عن حب حقيقي لربح الكثيرين.

ليت ذلك الذي هو رئيس لا ينتفخ بسبب عمله، لئلا يهوي من طوباوية التواضع، وإنما يليق به أن يعرف التواضع الحقيقي كخدمة للكثيرين… ليت الأعظم يكون كالأصغر.
يليق بالذين يحتلون المراكز الرئيسية أن يكونوا مستعدين أن يقدموا حتى الخدمة الجسدية على مثال الرب الذي غسل أقدام تلاميذه. لذا قيل “(ليكن) المتقدم كالخادم”. (القديس باسيليوس الكبير)

احفظ الإيمان والتواضع داخل نفسك، لأنك بهما تجد الرحمة والمعونة، وتسمع أقوالاً إلهية في قلبك، ويرافقك ملاكك الحارس في الظاهر وفي الخفاء.
التواضع وِشاح الألوهة، لأن الكلمة المتجسد تسربله، وكلّمنا عنه من خلال أجسادنا، فكل من يلبسه يتشبه حقًا بذاك الذي انحدر من علوه، وغطى فضيلة عظمته بالتواضع، وستر مجده به كي لا تلتهب الخليقة بمنظره.
المتواضع لا يبغضه أحد ولا يوبخه ولا يحتقره، لأن سيده يحبه. يحب الجميع والجميع يحبونه ويشتهونه في كل مكان، وحيثما وُجد ينظرون إليه كملاكٍ نوراني، ويقدمون له الإكرام.
التواضع قوة خفية يحصل عليها القديسون الكاملون بعد تمام سيرتهم، ولا تعطي النعمة هذه القوة إلا للكاملين في الفضيلة. (مار إسحق السرياني)

لقد فتح التلاميذ طريقًا للضعف البشري، فكانوا يتنازعون فيما بينهم عمن يكون الأعظم والأكبر من الباقين… هذا الضعف أُثير فيهم وسُجل لأجل نفعنا، حتى أن ما حدث بين الرسل يكون علة لكي ننعم بالتواضع. إذ انتهر المسيح المرض، وكطبيبٍ ناجح ٍنزعه بوصية عميقة مملوءة غيرة…

لنوقف هذا التعالي الفاقد للشعور والباطل، هذا الذي ينبع عن حب المجد الباطل أصل الكبرياء. فإن رغبة السيطرة على الآخرين، والنزاع لبلوغ هذا الأمر، يجعل الإنسان بالحق ملومًا، مع أنه لا يخلو تمامًا مما يستحق المديح. فإن السمو في الفضيلة يستحق التقدير (التكريم)، لكن الذين يريدون بلوغ هذا يلزمهم أن يكونوا متواضعي الفكر، لهم مشاعر متواضعة، لا يطلبون أن يكونوا الأولين وذلك خلال حبهم للإخوة. هذا ما يريده فينا الطوباوي بولس، إذ كتب: “مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة” (رو 12: 10). هذه المشاعر يتأهل لها القديسون وبها يتمجدون، إذ تجعل تقوانا نحو الله مكرمًا، وتمزق شبكة خبث إبليس وتحطم فخاخه المتعددة، وتخلصنا من حفرة الفساد، وتجعلنا كاملين في التشبه بالمسيح مخلص جميعنا. أنصت، كيف يضع نفسه أمامنا مثالاً للفكر المتواضع وللإرادة التي لا تطلب المجد الباطل، إذ يقول: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).

في العبارة التي قُرأت حالا يقول: “لأنه من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ؟ “ولكني أنا بينكم كالذي يخدم”. حينما ينطق المسيح بذلك من لا ينزع عنه حب المجد الباطل، ويطرد عن ذهنه محبة الكرامة الفارغة، ويبقى في عناده وتصلفه؟! لأن الذي تخدمه كل الخليقة العاقلة المقدسة، الذي يسبحه السيرافيم… المساوي مع الله الآب في عرشه وملكوته احتل مركز العبد وغسل أقدام الرسل. بمعنى آخر أخذ مركز العبودية خلال تدبير الجسد… الذي يُخدم صار خادمًا، رب المجد أصبح فقيرًا، تاركًا لنا مثلاً كما هو مكتوب (1 بط 2: 21).
ليتنا إذن نتجنب حب المجد الباطل، ونخلص من عار الرغبة في الرئاسة. بهذا نصير مثله، ذاك الذي أخلى ذاته لأجلنا. (القديس كيرلس الكبير)

ثانيًا: طلب العظمة الزمنية يسبب انشقاقًا بين الإخوة، أيا كان مركزهم، حتى وإن كانوا تلاميذ المسيح، وكأن هذا الاتجاه هو المحطم للجماعة المقدسة.
إن كان التلاميذ قد تنازعوا، فهذا ليس عذرًا لك، وإنما هو تحذير. لنحذر لئلا يكون نزاعنا على المراكز الأولى هو هلاكنا. (القديس أمبروسيوس)

ثالثًا: دعوة السيد المسيح لتلاميذه بعدم طلب المجد الباطل وحب الرئاسات ليس حرمانًا، وإنما هو توجيه نحو المجد الأبدي الذي نبلغه خلال الصليب. لهذا يؤكد لهم المراكز الكبرى التي ينالها الرسل بثبوتهم معه في تجاربه، أي حملهم صليبه كل يوم من أجل إيمانهم به وكرازتهم بإنجيله. يقول: “أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا…” بمعنى آخر ليس فقط يدعوهم لترك المجد الباطل وإنما لحمل الصليب ومشاركة الرب آلامه ليشتركوا معه في أمجاده. وكما يقول الرسول بولس: “لأنه إن كنّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته” (رو 6: 5).

رابعًا: إذ يتحدث هنا عن التمتع بالملكوت الأبدي، فلا يعني بالأكل والشرب والجلوس على الكراسي المعنى الحرفي، لأن ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا (رو 14: 17)، إنما يعني حالة الشبع الأبدي والسلطان في الرب. وكما يقول القديس كيرلس الكبير أنه يصف الأمور الروحية خلال تشبيهات من الحياة الحاضرة، إذ يُحسب ذلك امتيازًا كبيرًا أن يجلس الناس مع الملوك على مائدتهم، ويشتركون معهم في طعامهم!
يقول القديس أمبروسيوس أن الرسل يدينون أسباط إسرائيل لا بجلوسهم على كراسي للقضاء بصورة مادية، وإنما يكونون علة تبكيت لهم خلال إيمانهم وفضائلهم، فينفضح جحود إسرائيل وإثمه.

وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح

📖 كلمات من نور 🕯 {خدمة المحبّة}

قال الربّ يسوع لتلاميذه: “لتكن أوساطكم مشدودة، وسرجكم موقدة”. (مت ١٢ : ٣٥)

ألاوساط المشدودة: الخادم يشدّ وسطه بوزرة أثناء تأديته واجب الخدمة… وعندما يتمّم المطلوب منه ينزع وزرته ويأخذ وقتًا للراحة…
بينما الربّ يسوع، يدعونا إلى الاقتداء به☝وعدم نزع وزرتنا، لأن عنوان رسالتنا، هو الخدمة، على مثاله، هو الذي ما جاء ليُخدَم بل جاء ليَخدُم.
المحبّة هي محرّك الخدمة، وديناميكيّتها، وحيويتها. من هنا الذي يحبّ كما يسوع يحبّ، لا ينزع وزرته أبدًا، حتى آخر لحظة من نزاع الموت…

السرج الموقدة: خدمة المحبّة بمحبّة، تجعل من الخادم سراج، مملوء بزيت المحبّة، وكل عمل يُتمّم بروح خدمة المحبّة، يظهر كشعاع نور يضيء للناس، ويكشف لهم أن الله هو مرجع المحبّة الخادمة. فيعرفوه ويمجدوه…
المجد والحمد والتسبيح والشكران لك أيها الربّ يسوع المسيح. يا من كان وسطك مشدودًا دائمًا، لأنك تجسّدت لتكون خادمًا للمحبّة بملء وكمال المحبّة… المجد لك، لأنك تدعونا لنكون شركاء لك في حالتك كخادم للمحبّة… المجد لك، لأنك من خلال خدمتنا بمحبّة، تجعل محبة الآب☝التي تجلّت بك، تتواصل من خلال خدمتنا. فيرانا الناس ويؤمنوا، ومعهم نرفع الحمد والمجد والشكر لك.☝

👈 بأي روح أتمّم أعمالي وكل أنواع الخِدم اليومية، بروح بشريّة جافّة، أم بروح خادم المحبّة الإلهية❓

👈 صلاة القلب ❤

يا ربّي وإلهي يسوع المسيح، اجعل قلبي مشدودًا بمحبتك، ليبقى وسطي مشدودًا لخدمتك. ☝
يا ربّي وإلهي يسوع المسيح، املأ ضميري من حكمتك، لابقى وفيًا وعاملاً بكلمتك. 📖

👈 نيّة اليوم: نصلّي من أجل أن يشدّد الروح القدس 🔥 عزيمتنا، لتبقى أوساطنا مشدودة لخدمة المحبة، وأن ينير بصرنا وبصيرتنا، ليظهر الربّ مجده في خدمتنا.

يا ربّ اعطنا كهنة قديسين. 🙏