أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


شارل شرتوني: على وليد جنبلاط ان يعيد قراءة الواقع..

– تيمور المرغم على الزعامة.. ذهابه الأسبوعي الى المختارة قصاص..

***

احداث الشوف، من وهامات وليد جنبلاط الى الجمهورية المتداعية

ان ما جرى في اليومين الأخيرين في منطقة الشوف الأوسط والساحلي ليس بالأمر الجديد، بل تكملة لواقع مأزوم تعيشه الزعامة الجنبلاطية، ذات التمثيل الغالب داخل الطائفة الدرزية، وتتعاطى معه كخطر وجودي تسقطه على مستقبلها داخل المنظومة السياسية اللبنانية.

لا بد لفهم هذا الواقع من الاصغاء الى الأحاديث والطروحات التي يدلي به وليد جنبلاط، او تنسب اليه بالتواتر، او الى الإشاعات التي تتكلم عن مؤامرة لمحاصرة الزعامة الجنبلاطية، او لهذيان رشيد جنبلاط الذي يعتبر ان التاريخ الإقليمي قد صيغ في الـ٣٠٠ سنة الماضية في المختارة.

نحن امام واقع تاريخي ونفسي قديم، يعطي العائلة الجنبلاطية دوراً مضخماً لا يتناسب لا مع الوقائع التاريخية، ولا مع حدود تأثير إقطاع عائلي ضمن ديناميكيات سياسية كبيرة. ان التراجع البنيوي لدور هذه العائلة، وتقلص حدود نفوذها، وكساد المقولات الأيديولوجية التي اتكأت عليها ( عروبة، اشتراكية، المرجعية الاسلامية الجامعة )، وتبدل بنية الانتظام السياسي والاجتماعي الذي استندت اليه، بفعل التحديث والتمدين وتبلور الفردانية، والهجرة، والتواصل الإنساني والفكري، والإنفراط الداخلي لمبدأ الزعامة ( عدم رغبة تيمور في الزعامة، وهذا ما عبّر لي عنه عندما التقيته صدفة في احد مقاهي الاشرفية ، ” ان ذهابي الأسبوعي الى المختارة هو قصاص” ، وهذا ما قاله وليد جنبلاط عندما تحدث عن إمكانية [ تحول دار المختارة الى استوديو لهوليوود ] )، وتبلور ديناميكيات التحديث والمساواة المدنية، والتحرر السلوكي في الأوساط الاجتماعية الدرزية.

ضف الى ذلك، ان التحولات السياسية البنيوية في الوسط الإقليمي والمحلي، قد أسهمت وسوف تسهم في تهميش دور الزعامة التاريخية وبلورة سياق سياسي تعددي، تعبر عنه نشأة محاور سياسية خارجة عن النفوذ الجنبلاطي، اما عن طريق إحياء الزعامات التقليدية المناوئة والمنافسة ( بيت ارسلان، الداوود، وهاب… )، اما من خلال نشوء حراكات مدنية وسياسية خارجة عن لعبة الانتظام التقليدية المعهودة ( مراجعة الفيديوات الاخيرة لرشيد جنبلاط) .

اذن نحن امام واقع سياسي واجتماعي مديد وغير مرتبط بالحدث السياسي الراهن وديناميكياته الناظمة. ان نسبة واقع التداعي الذي تعيشه زعامة وليد جنبلاط الى المؤامرة المحاكة ضده من قبل حزب الله وحلفائه السياسيين، في اوساط سياسية وطوائفية شتى، هي فرضية مضخمة من اجل استنهاض العصبية الدرزية، واعادة تحريك الوهامات الأيديولوجية التي تغذت منها الحركة السياسية الجنبلاطية في العقود الستة الماضية.

الحركة المعارضة تستثمر مواطن الضعف في الزعامة الجنبلاطية من اجل الدفع بمصالحها، في حين تنكفىء الزعامة الجنبلاطية عن الحركة السياسية وتتعاطى معها من موقع دفاعي متشنج وغير واقعي. جنبلاط وقع ضحية ما عاناه سواه منه، نتيجة تحالفاته الانقلابية والمصلحية مع اقطاب الداخل والخارج.

اما فرضية المحاصرة السياسية عبر تقليص نفوذه على التمثيل المسيحي، والسيطرة على التمثيل السني في الإقليم، والشيعي في البقاع الغربي، والدرزي في الشوف الأوسط والبقاع الغربي، فهو ليس نتيجة لأية مؤامرة، بل المؤدى المباشر لخروج هذه الأوساط عن الوصاية الجنبلاطية، بفعل تبدلات اجتماعية و ديموغرافية وسياسية، لا يمكن القفز فوقها بعد اليوم في مجال صياغة الاستراتيجيات السياسية العامة والانتخابية.

ان شراسة ردة فعل النفوذ الاقطاعي المتهاوي والتلويح الدائم بالحرب الاهلية، ليس من الواقعية السياسية بشيء، ولا هو خيار اخلاقي مقبول نظراً لاستباحته مبدأ السلم الأهلي، وتردداته السيئة على المستويين الدرزي واللبناني. على وليد جنبلاط ان يعيد قراءة الواقع على ضوء التبدلات الناشئة، وان يستعيد العمل السياسي بعيدا عن وهاماته الدموية المعهودة، ووهامات كمال جنبلاط التي أدت الى مقتله و ضرب قواعد العيش المشترك وما نشأ عنها من اختلالات بنيوية، وتهجير وفراغ سكاني أدى وسوف يؤدي الى تحفيز استراتيجيات القضم الشيعية والسنية، ساحلاً وجبلاً، في ظل جمهورية متسكعة، وهمية، لا قوام لها لا قانونياً ولا واقعياً، وهو امر ساهم وليد جنبلاط بارسائه على نحو متعمد.

ان نسبة الأحداث لزيارة جبران باسيل، فرضية كسولة تعبر عن جهل مطبق في احوال هذه الجمهورية المتهاوية. المشكلة تكمن في الرؤية المضطربة لزعيم إقطاعي لا يرى حدود وهاماته، واستعلائه المرضي، ويستثمر انصياع مجموعة بشرية بشكل غير مشروط لإرادته كرجل ترى فيه حمايتها من الأخطار الوجودية المتوهمة والواقعية ( هذا ما افصح لي عنه سنة ١٩٨٤ في واشنطن رئيس جمعية الدروز -الاميركيين، ريمند ابو الحسن، عندما قال لي ماذا سيحل بالدروز في حال توفي وليد ، فقلت لا شيء، سوف يتابعون مسيرتهم كما قبله…).

لا خروج عن هذه المعادلات المقفلة الا بتجاوز هذه التصورات الانقطاعية ( Psychotique )، والاعتراف بالواقع واعادة صياغة الاستراتيجيات السياسية على اساس متماسك وقائم على الاعتبارات التالية :

١/ على وليد جنبلاط الاعتراف بالتحولات والتعاطي معها، والكف عن الشطحات الميتولوجية التي تحتجز المتخيل الجماعي في الأوساط الدرزية. ان قراءة البيانات والتصريحات والاستماع الى هلوسات رشيد جنبلاط المطلوبة من وليد جنبلاط، ذات مدلولات سيئة لانها تؤشر الى حالة تنكر للواقع، تشارف حد العمى الإرادي. لا اتحاد سوفييتي، ولا اشتراكية دولية، ولا تحالفات متحركة مع محاور النفوذ العربية، سوف تحول دون التحولات البنيوية، ودون نهاية الصورة المضخمة عن الذات. كمال جنبلاط وعى حدود مداخلته الانقلابية على موازين الداخل – من خلال التحالف مع منظمة التحرير واليسارات الپرو-سوڤيتية والإرهابية الفوضوية – متأخراً فقتله النظام السوري، الذي أراد استخدامه قبل بسنة من اجل تصفية حساباته مع الموارنة بعد ١٣٥و ١٥٠ سنة (راجع مذكراته خلال الحرب ، ومذكرات المحازب الشيوعي، جورج البطل تحت عنوان ” انا الشيوعي الأخير”، دار المدى ٢٠١٩).

٢/ عليه مقاربة الواقع من زاوية واقعية لجهة التعاطي مع التبدلات، واستعادة التوازن في الجبل من خلال اعادة الاعتبار للوجود المسيحي فيه، واعادة العلاقة الندية، وتثبيت الاستقرار فيه من خلال ثكنات عسكرية للجيش اللبناني، واعادة بناء الدورة الحياتية من خلال مشاريع انمائية متكاملة، تخرجه من حالة الركود، وانعدام الوزن، والقلق الامني والاستراتيجي. هذا ما رفض القيام به عند إقرار سياسات العودة، من خلال عدم الموافقة على المجلس الأعلى لعودة المهجرين ( قال لي وليد جنبلاط في سنة الألفين، القرار لم يكن وليس هو بيدي، فأجبته بيد من، فرفض الإجابة، فأردفت قائلاً، اذن انت موافق والمستفيد الاول وادلتنا متوافرة)، ورفض وضع خطة إنماء شاملة للعودة الى الجبل. هذا هو المدخل لتبدد القلق، والخروج من ذهنية الطاغية كاليغولا الذي لم ير حلاً للمشاكل الا بالدم. هذه المصيبة مع وليد جنبلاط، لا يرى حلولاً الا من خلال السيطرة، او التصرف بإرادات الناس، او معاداتهم. مجرد تغيير في النوايا والمقاربات سوف يدخل الإشكاليات المطروحة في جدليات بناءة على غير مستوى.

٣/ لاسبيل لاستعادة الاستقرار في البلاد ما لم نخرج من سياسات المحاور الإقليمية الناظمة للحياة السياسية الداخلية، لحساب الاعتبارات الميثاقية والوفاقية التي تضع حداً لسياسات النفوذ الانقلابية، وتعيد الدور للحياة المؤسسية، وللعبة الديموقراطية الحرة غير المقيدة بإقفالات الاحكام والمصالح الاوليغارشية. من غير المقبول التسليم باللعبة الاوليغارشية لجهة تكريس مناطق نفوذ وحيازات وريوع خاصة بأقطابها .

غضب جنبلاط يعود الى تهميش دوره في اللعبة الاوليغارشية القائمة وتقلص نفوذه، ان استعادة الحراك السياسي في مناطق الشوف لبعض السياسيين في الأوساط المسيحية بالتحالف مع زعامات درزية منافسة، سبب يرى فيه تحفيزاً لتداعيات نزاعية مفتوحة. ان ما يجري في الشوف منذ بدايات التسعينات، كما في سائر المناطق اللبنانية ما هو الا تكريس لمنطق الاقتطاع الاوليغارشي وتموضعاته. لا بد ان يجري وليد جنبلاط مراجعة نقدية لأدائه من اجل الخروج برؤية سياسية بديلة تخرجه من دائرة الحصار المتوهمة وما يلفها من التباسات، الى دائرة التغيير البنيوي باتجاه الاصلاح المؤسسي والحل السلمي للنزاعات، والعمل المشترك في سبيل الانماء الذي أسماه البابا بولس السادس، ” الاسم الاخر للسلام”.

علينا تجاوز القراءة المسطحة للحدث للتبصر بمدلولاته وبإمكانية التعاطي معه من منطلق تجاوزي يقينا التدهور الأهلي، ويفتح افقاً عملياً من اجل احتواء تداعياته ومعالجة اسبابها.