عَ مدار الساعة


♰ القدّيس بيّو أعجوبة القرن العشرين ♰ (الجزء 1)

– حياته ؛ مواهبه ؛ قداسه ؛ إرشاداته ؛ آلامه..

* *

مقدّمة

تُعدّ ظاهرة البادري بيّو من الظواهر الفريدة في عالم اليوم وفي الكنيسة المعاصرة. فبالرغم من التقدّم المذهل الذي أحرزه العلم في الآونة الأخيرة، والاكتشافات الجبّارة، فهو يقف حائرًا، عاجزًا عن تفسير الظواهر العجيبة التي رافقت وطبعت حياة هذا الأب القدّيس، الذي ظهرت جراحات السيّد المسيح في كلّ أنحاء جسده، أضف إلى ذلك الآيات التي أجراها الله على يديه، فقد شفى المرضى، واستطاع الانتقال بالروح من كان إلى آخر بينما جسده قابع في بلد، والمعجزة تحصل بشفاعته في بلد آخر.

فالبادري بيّو يجسّد كلّ ما هو خارق وفائق للطبيعة في عالم لم يعد يؤمن بتدخّل السماء. إنّه الشاهد الذي يُظهر لنا بدون أي خلل أنّ الله قادر على كلّ شيء لكي نرتدّ إليه. كما أنّه يبشّر بعصر تسوده الحياة الروحيّة والرحمة! حيث كلّ نفس مدعوّة لكي تتحوّل إلى قربان في قدّاس المحبّة.

يقول البابا «بنوا الخامس عشر Benoit XV » عنه: «إنّه حقًّا من أصحاب المعجزات الّذين يُرسِلُهم الله من حين إلى آخر إلى الأرض لارتداد الناس وهديهم».

“رجل صلاة والشفاعة” أُهدِيَ موهبة ذرف الدموع، إذ ترافق مع السيد المسيح في آلامه: فأصبحت واضحة: المشاركة في سرّ الفداء.

“يا يسوع، روحي وحياتي، اجعلني أن أكون معك للعالم؛ الطريق والحق والحياة. لأكن لك كاهناً قديساً، ضحية كاملة” (بادري بيو)

كان الأب بيو يكرّم العذراء تكريماً خاصاً وكان حبه شديداً لسيدة النعم وسلطانة الورديّة، والعذراء مريم كانت ترافق الأب بيّو إلى المذبح، (كما ترافق كلّ كاهن).

إنّ العالم يمكنه أن يستمرّ حتى بدون شمس لكنّه لن يدوم بدون أفخارستيّا“.

إن كلّ قداس نحتفل به جيدًا وبتقوى يولّد في نفوسنا مفاعيل عجيبة ونعمًا روحيّة وماديّة وافرة، نحن أنفسنا لا نعرفها. لأجل هذه الغاية لا تصرف مالك بلا جدوى بل ضحّ به وتعال لتشترك بالقدّاس الإلهي”.

أوّلاً: لمحة موجزة عن حياة البادري بيو (1887 – 1968)

ولد الأب بيو في “بْيَاتْرَلْشينا” في 25 أيار 1887. تقبل سرّ العماد في اليوم الثاني لولادته وأعطي في المعمودية إسم فرنسيس. نشأ في أسرة فقيرة ومن خلال الرسالة التي بعث بها إلى مرشده الروحي ندرك أنه منذ سن الخامسة كان الطفل يتمتع بنعمة مشاهدة العذراء مريم التي كان يكنُّ لها عاطفة قوية.

يُذْكَر عنه أنّه كان هادئًا، خجولاً، متحفظًّا لا يحتمل سماع الشتائم ولا الكلمات البذيئة. أمّا أفضل صديق له فكان ملاكه الحارس بحسب ما باح به لمرشده الروحي.

كرّس البادري بيو نفسه للربّ ولمار فرنسيس الأسيزي منذ سن الحادية عشرة. لم يقف أبواه في وجه دعوته وفي الخامسة عشرة من عمره سنة 1902 كان يتحرّق شوقًا ليمنح كلَّ شيءٍ إلى الله فرافقه والده إلى دير الآباء الكبّوشيين حيث أمضى فترة الإبتداء. وهناك لبِس ثوب الرهبنة واختار لنفسه اسم الأخ بيو دي “بياترلشينا”. كان مبتدئًا مثاليًّا؛ ومنذ ذلك الحين بدأت تحدث معه ظواهر غريبة.

كان هذا المبتدىء الشاحب الفارع القامة يستغني عن الطعام بشكل تام مكتفيًا بالمناولة اليومية وقد أمضى واحد وعشرين يومًا يتناول القربان المقدّس فحسب. طلب منه رئيسه بأمر الطّاعة أن يأكل، أطاع لكنه تقيّأ كلّ طعامه وعندما حاول الرئيس (معلم الابتداء) حرمانه من المناولة، أشرف على الموت.

فرض القدّيس بيّو على نفسه عذابات وإماتات، ومن عاداته السهر طويلاً ليصلّي، بَيْد أن الشيطان لم يكن مسرورًا من إماتاته الشاقة وسهره الطويل، فقد حوّل لياليه إلى حلبة صراع وعراك وجعل لياليه مضطربة. ولم يكن أحدٌ يرضى بأن يكون جاره في الغرفة. كان يرتّب حجرته ويخرج، وما إِن يعود حتى يجدها مبعثرة تمامًا، فالكتب على الأرض والمحبرة مقلوبة ومكسورة وسريره مقلوبًا. وكثيرًا ما كان يخرج في الصباح، وقد ظهرت على وجهه آثار المعركة كالأورام واللطمات الزرقاء.

تحوّل بسرعة مذهلة إلى رجل الصلاة والشفاعة، وأهدي موهبة ذرف الدموع إذ كان يترافق مع السيّد المسيح في آلامه لرؤيته البشرية منجبلة بالخطيئة وهكذا أصبحت رسالته واضحة في نَظَره: المشاركة في سرّ الفداء.

اهتمّ رؤساؤه كثيرًا بصحّته فحالما أبرز نذوره المؤبدة في 27 كانون الثاني 1907، أمروا له بعطلة طويلة يقضيها في بيته الوالدي في “بياتْرَلْشينا” ليستعيد صحّته، بقي هناك حتى سنة 1916.

سيم كاهنًا في 10 آب 1910 وكان له من العمر 23 عامًا وكان يقول: «كم كنت سعيدًا في ذلك النهار، لقد كان قلبي يشتعل حبًا بيسوع. إذ بدأت أتذوّق الفردوس!» تَلا قدّاسه الأول في كنيسة رعيته في 14 آب 1910 وكما كتب على الصورة التي وزعها في ذكرى سيامته الكهنوتية: «يا يسوع، روحي وحياتي، اجعلني أكون معك للعالم؛ الطريق والحق والحياة. فلأكن لك كاهنًا قديسًا، ضحية كاملة». من هذه الكلمات تتضح رسالته ألا وهي رغبته بالألم الفدائي.

في 17 آب 1910 بعد سبعة أيام من حفل سيامته حصل على سمات السّيد المسيح التي بقيت خفيّة. وفي 6 تشرين الثاني 1915 دخلت إيطاليا الحرب الكونية الأولى؛ دعي الأب بيو للخدمة العسكرية. عندما لاحظ المسؤولون عدم كفاءته أحالوه إلى تعبئة الشواغر من كنّاس إلى حارس فبوّاب. ومحبَّةً بربِّه المصلوب لم يستصعب الخدمة ولم يزعجه إلا إقامته بين جنود أفظاظ لا أدب لديهم ولا حياء، وقحين سفهاء غليظي الكلام، ممّا جعله يتألم حتى الموت. وكان موضع سخرية من قِبل رفاقه الذين كانوا يجهلون أن أي حركة من يديه أو رجليه كانت تؤلمه ألمًا شديدًا. فكان كأنه خرج من فردوس الفرنسيسكانيّين إلى جهنم القبائح التي يجهلها. وربما سمح الله بذلك ليُطلِعَه على هوية الخطيئة من مصدرها الحقيقيّ ويتعلّم كيف يحب الخطأة ويردّهم إلى قلب الله.

في الرابع من أيلول سنة 1916 أمره رؤساؤه أن يتوجّه إلى دير سيدة النعمة في “سان جيوفاني روتندو” حيث بقي إلى حين مماته. وفي 20 أيلول 1918 كان الأب في الخورس يشكر الله بعد القداس وأمامه صورة المصلوب فأحسَّ بشعور إلهي شعر به قبله أبوه القديس فرنسيس والقديسة كاترينا السيانية والقديسة فيرونيكا جولياني الكبوشية، لفّ الهدوء كيانه، ثم رأى أمامه شخصًا سرًّيا يقطر الدم من يديه ورجليه وجنبه ولما اختفى الشخص لاحظ الأب بيو أن يديه ورجليه وجنبه تقطر دمًا هي الأخرى. كان ذلك بين الساعة الثالثة والسّادسة مثلما حصل في الجلجلة. ومنذ ذلك الحين أصبحت الجراح ظاهرة ومصحوبة بآلام حادة فقد كان يمشي بصعوبة فائقة على رجليه المثقوبتين، وعلى المذبح أصبحت الدماء تسيل من كفَّيه. وكانت تعضده في عذابه الأليم أم الأوجاع.

لم تدرك غالبيّة الرهبان بما حدث للأب بيو من جراح لأنه أخفاها بتحفظ. وفي أحد الأيام، بعد تلاوة الفرض المشترك، تأخّر الأب أركانجلو قرب الأب بيو في الكنيسة. وما إن دق الجرس يدعوهما حتى نهض الأب أركانجلو فلمح أن يديّ الأب بيو تقطران دمًا. فسأله ببراءة: «ما بك هل جرحت؟» فأجابه: «ما لك وما لي فذلك أمر لا يهمك». ثم نهض الأب بيو واتجه بخطى وئيدة إلى رئيسه يطلعه على حاله. فدهش الرئيس في بادىء الأمر إذ لم يعد بالإمكان إخفاء مثل هذه الجراح. وإلى جانب جراح اليدين والقدمين، كان الأب بيو يشكو من جرح طويل يقع في الجهة اليمنى من الصدر، ينـزف بغزارة ويبلّل ملابسه. وممّا زاد في الأمر غرابة، أن ذلك الدم لم يكن يتجمّد، بل يعبق برائحة زكيّة. عندئذ كتب الرئيس تقريرًا إلى الأب العام. ذاعت شهرة الأب بيو في كلّ أنحاء العالم وأخذ الحجّاج يتهافتون إلى كرسي الإعتراف حيث كانت تكثر المعجزات، فقد نال الأب بيو موهبة فحص الضمائر والمعرفة والتمييز، وعندما ازداد عدد المتهافتين عليه، أوجب تدخّل الرئيس العام وتنظيم مواعيد الإعتراف. وابتدأ الأب بيو حياة الشهادة الحقيقيّة، لأن الرئيس العام كتب إلى مجمع عقيدة الإيمان في روما، فأمر للحال أن يعرض الأب بيّو على أطباء من ذوي الإختصاص ليفحصوه. أطاع الأب بيو وتولّى أحد الأطباء دراسة لحالته. فحصه أولاً الطبيب “لويجي” فضمّد الجراح جيّدًا، وراح ينتظر ويراقب بنفسه، بعد مضي 15 شهرًا قدّم “بنيامي” هذا التقرير:

«الجراح التي أصابت الأب بيو مغطّاة ببشرة تميل إلى الحمرة، ولونها هذا لا يعني وجود حقن دم أو ورم أو انتفاخ. وأؤكد بكلّ ثقة أن هذه الجراح ليست سطحية، لأنني ضغطت عليها بنفسي مرارًا وكنت أشعر كلّ مرّة بفراغ تحتها يخترق اليد، غير أن أصابعي لم تلتقِ عندما كنت أضغط من الجهتين، لأن الآلام التي كان يشعر بها الأب بيّو، لم تعد تسمح لي بمتابعة الضغط، ولكنني أخضعتُهُ عدّة مرّات وعلى فترات متباعدة لمثل هذا الفحص، في الصباح والمساء وألاحظ النتيجة نفسها دائمًا. لا تختلف جراح الرجلين بشيء عن جراح اليدين إلا من ناحية ثخانة القدمين حيث لم أتوصّل إلى نتيجة تقريبيّة كما هي الحال في اليدَين. أما جرح الجنب فهو فتحة واضحة بقياس 6 إلى 7 سنتمترات، بعمق لا يمكن تحديده وينـزف دمًا متواصلاً وهذا النـزف ليس سطحيًا. وهذا الدم بتركيبه لا يختلف عن تركيب الدم البشري، وشرايينه مقطوعة ولا يُرى عليها أي انتفاخ وتورم بينما تحـدث ألمًا شديدًا عند الضغط على شفتي الجرح. ولقد فحصتُ الأب بيو خمس مرات في خمسة أشهر، ولم تسمح لي ملاحظاتي أن أطلق اسمًا طبيًّا على هذه الجراح».

أخيرًا، وبأمر الطاعة، وضع جسم الأب بيّو كله تحت المعاينة في كلّ تفاصيله، فكانت النتيجة أن جسم الأب بيو سليم من جميع النواحي، وهو خالٍ من أيِّ مرضٍ عصبي جسديًّا كان أم نفسيًا. فوقف عندها الأطباء حيارى، لا يعرفون كيف يعالجونه أو كيف يصفون هذه الحالة.

والطاعة كانت عمياء عند الأب بيو فقد كتب لمرشده: أعمل فقط لأطيعك لأن الله الصالح علّمني أن الطاعة ترضيه فوق كلّ شيء وأنها الواسطة الوحيدة لنرجو الخلاص.

ابتداءً من سنة 1922 إلى 1934، كثرت عليه الإضطهادات، فقد مُنِعَ المؤمنون من لقاء الأب بيو. ومن سنة 1931 حتى 1934، كان يعيش سجينًا في ديره وحُظِّر عليه القيام بأية ممارسة كهنوتية، باستثناء الإحتفال بالذبيحة الإلهية وحيدًا منفردًا. وفي 14 تموز 1933 رُفع الحظر عن الأب بيو وسُمِحَ له بالإحتفال بالذبيحة الإلهية أمام الجموع.

وفي آذار 1934 سمح له بسماع اعترافات الرجال ثم في أيار اعترافات النساء وأخذ عدد الحجاج يزداد في العالم أجمع، وكان الرب يجري العجائب على يد من أمضى عمره في الطاعة من دون شكوى أو تذمر. فكانت النتيجة فيضٌ من النعم.

عُرفت الفترة الممتدّة بين سنة 1942 إلى سنة 1955، بفترة الأعمال: فقد أسَّسَ الأب بيّو مجموعات صلاة وبنى مستشفى «La Casa -مؤاساة الآلام» التي دُشِنَتْ سنة 1956.

في سنة 1954 قرّر الكبّوشيون بناء كنيسة أكثر اتّساعًا، تتّسع لحشود المؤمنين الذين كانوا ينتظرون دورهم للاعتراف.

سنة 1966، إحتفل الأب بيّو بقدّاسه لأول مرة جالسًا وفي الأشهر التي سبقت موته لم يعد يستطيع التنقل إلاّ بواسطة الكرسي المدولب.

وفي 22 أيلول سنة 1968 أي بعد 50 عامًا من حمله لجراح المصلوب في جسده، احتفل بالذبيحة الإلهية للمرّة الأخيرة، وفي نهاية القدّاس أغميَ عليه.

كان نزاعه قصير الأمد، فقد مات بالضبط عند الساعة الثانية والنصف من صباح 23 أيلول 1968، من جراء ذبحة صدريّة، وانطفأت بموته تلك الشعلة التي أضاءت وهَدَت بنورها آلاف النفوس إلى الطريق القويم. وما إن أبلغت إذاعة الفاتيكان على الأثير خبر موته، حتى هرع إلى سان جيوفاني روتندو ما يقدّر بمئة وسبعين ألف شخص من جميع الطبقات والوظائف والجنسيّات بالإضافة إلى 500 شرطي لفرض النظام في تشييع الأب بيو الراحل. دفن في القبو تحت هيكل كنيسة أُمّ النعم، وبما أن حياة الأب بيو كانت عجائبيّة فقد تكلّلت بأعجوبة جديدة إذ تأكدت حقيقة اختفاء جراحه عشية وفاته، وهذه الجراح التي حملها لمدة نصف قرن والتي عجز ألمع الأطباء عن تحليلها ومعالجتها وتبديل أيّ شيء فيها، ظهرت بأعجوبة واختفت بأعجوبة كأنها تشهد لمدى تمتّعه بأفراح القيامة المجيدة. أوَليست هي يد الله التي تعمل في هذا الحدث الفائق؟ وكما روى الذين حضروا الجنازة أنه بينما كانوا يتهافتون على نعشه الزجاجي المعروض أمامهم في الكنيسة لتقبيله، لمحوه واقفًا على نوافذ الدير ملوحًا بيديه مودّعًا الجماهير قبل أن يختفي.
هذه حياة الأب بيو الذي منح رسالة لينبّه العالم إلى ضرورة الصلاة والإماتة والإهتداء… لقد أراد يسوع أن يعيش آلامه مجدّدًا بشخص هذا الرّاهب المتواضع. هل بإمكاننا أن نلتقط الرسالة التي أراد أن يتركها لنا الرب؟ مع كلّ ظهور لجراح المصلوب في جسد الأب بيو، كان يسوع ينادينا كما نادى توما: تعالَ وانظرْ جراحي ويطلبُ منّا الإهتداء. علينا أن ننظر إلى هذه الظاهرة بجدّية.

ثانيًا: مواهب الأب بيّو المتعدّدة

«إنّ أعظم عمل محبّة، هو أن ننتزع النفوس من قبضة الشيطان، ونذبحها للمسيح» (الأب بيّو)

كانت مهمّة الأب بيّو واضحة: خلاص النفوس بواسطة الصلاة، الإماتات، الإرشاد في كرسيّ الاعتراف والذبيحة الإلهيّة. وقد أنعم عليه الله بمواهب كثيرة تساعده على القيام بمهمّته، نذكر من هذه المواهب:

1. الرؤية الواضحة والتمييز أي القراءة في الضمائر:
كان الأب بيّو يمضي في كرسيّ الاعتراف بين 17 و19 ساعة يوميًّا. وأكثر عجائبه كانت عجائب كرسي الاعتراف فقد كانت شبكته دائمًا قيد الاستعمال:

  • إنّ كلمة صغيرة منه، كفيلة بأن تعمل في نفس الخاطئ الكبير، الكثير من التأثير فيعود إلى عبادة الله. قال أحدهم: «لا أؤمن بالله». فأجابه الأب بيّو: «ولكن يا بُنيّ إن الله يؤمن بك». ففتحت هذه الجملة مداركه ورجع إليه تعالى.
  • قال آخر: «يا أبتِ، أخطأتُ كثيرًا حتّى لم يبقَ لي أمل في الرجوع». فقال الأب: «لكن الله لا يترك أحدًا، فقد كلّفه أمر خلاصك الكثير فكيف يتركك؟» فتاب.
  • خلال المناولة، مرّ الأب بيّو عشر مرّات أمام رجل راكع أمامه ولم يمنحه القربان وكأنّه لم يَرَه، في آخر القدّاس تبعه هذا المسكين إلى السكرستيّا، فقال له الأب بيّو: «اذهب وتزوّج تلك التي تعيش معها ثمّ تعال فتناول».
  • في كرسي الاعتراف كان الأب بيّو قاسيًا على الخطأة ليحثّهم على الندامة، وكان يقرأ في الضمائر فيذكّر التائبين بخطايا نسوها أو أخفوها عن قصد، ويبيّن لهم خطاياهم مع عددها وظروفها. كما وأنّه كان يجيب على أسئلة قبل أن تُسأل…
  • قصدته امرأة يومًا لتعترف بإثم كبير اقترفته. وقبل أن يستمع إليها، صلّى من أجلها، فشاهدت رؤها عجيبة، إذ وجدت نفسها في ساحة مار بطرس في روما بين الجماهير تطالب ببابا جديد، وكان الفرح يغمر رؤياها. ثم ابتدأت اعترافها وأقرّت بأنّها أجهضت جنينها عمدًا. حينئذ قال لها البادري بيّو: «هذا البابا الذي كانت الجماهير تنادي به…، هو الابن الذي قتلته بالإجهاض…».

2. نعمة الانتقال من غير أن يبرَح مكانه:

نال الأب بيّو نعمة الانتقال إلى حيث يجب أن تُجترح العجائب. (كان ذلك يحصل مع القدّيس أنطونيوس البادواني).

هذا الراهب الطائع حتى المُنتهى، الذي لم يبرحْ ديره منذ أكثر من خمسين سنة، كانوا يرونه في أمكنة عديدة من إيطاليا وفرنسا وأميركا، ويسمعون كلماته ويشعرون بلمساته، ويشتمّون رائحة زكيّة تُنبئُ بحضوره، وترافقها أحيانًا شفاءات أو اهتداء أو تنشيط روحيّ وجسديّ. هذه بعض أسفاره العجيبة:

  • ظهر الأب بيّو لقائد يريد الانتحار فرمى مسدّسه على الأرض عندما قال له: «إنّك أرفع من أن تأتي بهذا العمل الوحشي».
  • سألوه يومًا عن هذا التنقّل الروحيّ دون مغادرة المكان الذي هو فيه؛ فأجاب: «إنّ النفس التي تنتقل في حياتها تعرف ذلك تمام المعرفة إذ ليس الجسد هو الذي يقود النفس وإنّما النفس هي التي تقود الجسد، وعلى كلّ حال، فإنّها تعي ذلك تمامًا وتعرف أيضًا لماذا هي ذاهبة.
  • يُخبر الأب “كليمنضوس”: أنّه بينما كان يُقيم الذبيحة لراحة نفس والد الأب بيّو: ظهر قربه في بدء الكلام الجوهريّ وبعد أيّام أتى إلى الدير وألحّ عليه يسأله ما إذا كان حقًّا بقربه؟ فأجاب: «ومن تريد أن يكون يا أخي؟».
  • ولا يمكننا إلاّ أن نذكر حضوره ? دون أن يغادر ديره طبعًا ? إلى جانب المتألّمين: فقد شوهد في هنغاريا مؤاسيًا للكاردينال “ميدزنتي Midszenty ” في السجن وقد اعترف الأب بيّو شخصيًّا أنّه زاره وخدم له القدّاس في السجن. وفي يوغوسلافيا، شوهد الأب بيّو في دعوى “الكاردينال ستيبيناك Stepinac”. وفي بولونيا ذهب يؤاسي “الكاردينال فيزينسكي Wiszinski” ورفاقه. وشهادات كثيرة تقول أنّه ذهب إلى سيبريا، وتشيكوسلوفاكيا، وغيرها من الدول الاشتراكيّة لتعزية وتشجيع المؤمنين والمضطهدين.

3. العجائب

أمّا عجائب الأب بيّو من شفاء مرضى، وهداية الخطأة، وعودة غير المؤمنين إلى الله وغيرها فهي كثيرة لا تُحصى، كانت تلك الثمار اليوميّة لرسالة البادري بيّو. في روما أكثر من مئة مجلّد كبير، تحتوي على مئات الصفحات التي تنقل إلينا مختلف الشهادات من معاصري البادري بيّو؛ أو حازوا على نعمة ما منه أو على شفاء، أو كانوا شهودًا لظاهرة غريبة حصلت بشفاعته. وهذه بعض هذه العجائب:

  • ثمّة ولدٌ وقع في غيبوبة من جرّاء نزيف في الدماغ في مستشفى في فرنسا، يوقظُه كاهن، فينهض معافى. قام الوالدان مع ابنهما بزيارة تقويّة للبادري وإذا بالولد يصرخ: هذا هو الكاهن الذي رأيته وتبسّم لي فأمرني أن أنهض وأقوم.
  • امرأة بلجيكيّة بُلِيَت بداء السرطان في صدرها، كما يبستْ يدُها اليمنى. صلّت وكرّست تساعيّة للبادري بيّو. وفي آخر يوم؛ بينما كانت تراقب ابنتها وهي تلعب في البستان سقطت هذه الأخيرة في البركة. مدّت الأم يدها بعفوية لتنشلَها، فتحرَّكت اليدُ وزال عنها المرض.
  • كانت رائحة ذكيّة تنبعث دائمًا من دم البادري بيّو، وهي أريجٌ محَبَّب فتّان كأنّه مزيجٌ من روائح الزنبق والورود، يشمّه الزائرون لدى اقترابهم من غرفته فينتعشون. ولم يكن البادري يضع عطرًا وما كان يوجد في الدير أثر للطيوب.
  • في الحرب العالميّة الثانية، استشاره جنديّ: هل يصيبني مكروه؟ – فأجابه: لا، لن يُصيبك مكروه، ولكن إلى أين أنت ذاهب؟ – قال إلى اليونان ? فأجابه: لا، لن تذهب إلى هنالك. صدقت النبوءة بحذافيرها…
  • بينما كان ضابط يحرِّض جنوده للمقاومة أمام هجومات الأعداء، في الحرب العالميّة الأولى، على مرتفع بارز، شاهدَ، على مسافة، راهبًا يصرُخُ إليه: أبعِدْ من هناك حالاً. تعال بقربي. أسرعْ، أسرع”. أُعجب الضابط بذلك الوجه الملائكي والعينين اللامعتين، قفز بسرعة، وما إن بلغ قرب الراهب حتّى سمع انفجار قنبلة في المكان الذي كان واقفًا فيه يأمر الجنود. نظر إلى الدخان مذعورًا. وبعد لحظات التفتَ إلى الراهب ليشكرَه. ويا للعجب، أين هو؟ إنّه قد اختفى. أخبر أصدقاءَه بالحادث، فأشاروا إليه: ربّما يكون البادري بيّو. ذهب إلى سان جيوفاني روطوندو، وما إن دخل السكرستيّا، رآه وهتف: “هذا هو. هذا هو حقًّا” وركع يقبّل يديه. وضع البادري بيّو يده على رأس الضابط وقال له: “لا تشكرني، أنا. بل أَدِّ الشكر لسيّدنا يسوع المسيح وللعذراء مريم”.
  • “أنّا جيمّا جي جورجي”، بنت سبع سنوات من صقليا، عمياء منذ ولادتها، لا بؤبؤ في عينيها، ممّا يعني لجميع الأطباء أنّ لا شفاء لها من العمى. لها نسيبة راهبة، قالت لجدّتها: “خذيها إلى سان جيوفاني روطوندو. إنّ البادري بيّو كاهن قدّيس، ويداه الحاملتان السِمات المقدّسة مملؤة نعمًا سماويّة. عيناه تنظران دومًا إلى السماء كي تستمدّ من الله النعمة التي نطلبها بشفاعته. “تذرّعت الجدّة بإيمانها البسيط وسلّمت ذاتها للثقة. في 6 حزيران 1947 عند العصر وصلت مع البنت إلى دير سيّدة النعم مع الأمل أن يَقبلَها البادري بيّو للمناولة الأولى فتتناولُ القربانة من يده وتطلبُ منه الشفاء. حشود الزائرين لم تسمح لهما التقرّب من كرسي الاعتراف. في الغد انتظرتا على الباب منذ الساعة الواحدة ليلاً. لمّا فُتح الباب عند الساعة الرابعة كانت الاثنتان في المقدّمة عند المذبح. بعد القدّاس وفعل الشكر، أي بعد ساعتين، أقبل البادري، وبينما هو يدخل في كرسي الاعتراف شرع ينادي: “لتأتِ أنّا جيمّا العمياء إلى هنا”. استمع إلى اعتراف الصبيّة ولمَس جفنيها ورسم عليها إشارة الصليب. بعد الظهر أُقيم احتفال آخر. تقدّمت أنّا وتناولت القربانة لأوّل مرّة من يد البادري بيّو، الذي رسم أيضًا إشارة الصليب بإصبعه على جَفنيها. بعد لحظات شعرت البنت أنّها ترى بعينيها رؤية واضحة. هذا الشفاء، ضجّت فه كنيسة الدير والمدينة، وإيطاليا بأسرها. من “باليرمو” أتى طبيب أنّا، هو الذي كان قد أعلن العمَى غير القابل للشفاء. عاين البؤبؤين لا يزالان غير موجودين، والبنت تشاهدُ الناس والأشياء بوجه طبيعي. معاينات طبيّة أخرى أثبتت هذا الوضع. كيف ذلك والبنت ترى مثل كلّ إنسان سليم؟
  • في أواخر الحرب العالميّة الثانية، بينما كانت الطائرات الأميركيّة تقصف القرى والمدن الإيطاليّة، عجز الجنود عن قصف سان جيوفاني، لأنّهم شاهدوا راهبًا كبّوشيًّا سائحًا في الفضاء، فاتحًا ذراعيه ليحمي المدينة. بعد الحرب قدم الجنود إلى المدينة ليتفقّدوها من أجل التحقّق من هذا الحادث العجيب، وإذا بهم يصادفون البادري بيّو ويقولون: هذا هو الراهب الذي كنّا نشاهده في الفضاء سابحًا فوق المدينة. ومن ثمّ راحوا يبشّرون به، فامتدّ صيته إلى الولايات المتّحدة، وتقاطرت الناس إليه من بعيد.

  • اجتاح الجراد منطقة سان جيوفاني روتندو وهُدِّدت المزروعات بالإبادة بالرغم من المكافحة. فهرع المزارعون إلى الدير يستعطفون الأب بيّو لنجدتهم، فخرج بأمر الطاعة ورسم إشارة الصليب على الحقول فولّى الجراد مدبرًا ونجَتِ المزروعات واطمأن المزارعون.
  • سأل يومًا بيّو مزارعة شابّة (غراسيا 29 عامًا) وهي عمياء منذ الولادة إذا كانت تريد أن تستعيد بصرها. «طبعًا أريد، أجابت، إذا كان ذلك لن يقودني إلى الخطيئة». فأسرَّ إليها الأب بيّو أنّها ستشفى وأرسلها لتجرى لها عمليّة جراحيّة في “باري Bari” على يد جرّاح ماهر هو الدكتور “دورانت Durante”. لمّا فحصها الطبيب أدرك أنّ الجراحة لن تفيدها بشيء ونصحها بأن تطلب أعجوبة من الأب بيّو. أجرى الجراحة لعين واحدة وها إنّ الشابة تبصر بعين فأجرى عندها العمليّة بالعين الأخرى وها هي غراسيا تبصر بعينيها الاثنتين. كان هذا أمرًا مذهلاً ولا تفسير. ولما عادت إلى سان جيوفاني روتندو أسرعت غراسيا لتشكر الأب بيّو وعبّرت له عن فرحها وعرفانها بالجميل. فنظر إليها الأب بيّو مبتسمًا بصمت؛ وطلبت منه أن يباركها فرسم عليها إشارة الصليب.
  • ويُذكر أيضًا أنّه بشفاعة الأب بيّو وبفضل صلواته عاد ميتان إلى الحياة.

4. الروائح الذكيّة 

هذه الروائح كانت دائمًا علامة لأعجوبة إذ كانت تسبق الأعاجيب التي يصنعها الأب بيّو رائحة عطرة غريبة لا تدوم طويلاً.

  • كتب عروسان بولونيّان يسكنان في انكلترا إلى الأب بيّو يستشيرانه في مسألة خاصّة، ولمّا أبطأ الجواب قرّرا الذهاب لمقابلته وجهًا لوجه وبما أنّ السفر كان طويلاً باتا ليلتهما في سويسرا في فندق وما إن دخلا غرفتهما حتّى استنشقا رائحة عطرة لا توصَف، بحثا في الغرفة فلم يعثرا على شيء ولمّا استخبرا صاحب الفندق أجابهمـا هازئًا أنّ هذه هي أوّل مرّة يُقال أنّ في فندقه رائحة طيّبة. ولمّا وصل الزوجان أمام الأب بيّو قال الزوج: «لماذا لم تُجبنا يا أبتِ؟» فابتسم الأب بيّو وقال لهما: «كيف لم أجبكما؟ ألم تشعرا بشيء في فندق سويسرا؟» كانت هذه الرائحة الذكيّة ذات غاية رسوليّة لا يشعر بها إلاّ من يريد الله أن يصنع له خيرًا.
  • ومرّةً أخرى، أخبر كاهن أنه حمل القربان لمريض ولمّا قرع الباب، غمرته رائحة ذكيّة ظنّها بدايةً عطر النساء الساكنات في البيت، لكنّه للحال فكّر أنّ إصبع الأب بيّو كان هناك. وعند رجوعه إلى الدير سأل الكاهن الأب بيّو: «لماذا جعلتني أشمّ رائحتك؟» أجاب: «لأنّني أحبّك جدًّا».
  • وكم مرّة انتشرت روائح الزهور قرب المريض الذي كان يشفيه استجابة لصلوات أهله.
    وهناك الكثير من العجائب التي صنعها الله على يد هذا الكاهن القدّيس لا تُحصى ولا تُعدّ…

5. التكلّم بلغات عديدة

سمع اعتراف الملايين من المؤمنين الآتين من عدّة بلدان وثقافات، وبينهم الكثير الذين لا يتكلّمون اللغة الإيطاليّة. فهناك شهادات للذين قالوا أنّ البادري بيّو كان يتكلّم معهم بلغتهم وقد فهموا جيّدًا إرشاده. هل تكون مواهب الروح في العنصرة قد تجدّدت فيه؟

ثالثًا: قدّاس الأب بيّو

https://www.youtube.com/watch?v=TbtzjJcjrD8&t=4s

إنّ الأب بيّو هو قبل كلّ شيء كاهن، ولذا فإنّ لديه ميزة خاصّة لأبناء جنسه الكهنة، فهم يقصدون سان جيوفاني روتندو من بعيد فيعثرون على «معنى أعمق لكهنوتهم ومحبّة أشمل للنفوس». وقد قال كاهن: «منذ أن حضرت قدّاس الأب بيّو لا أستطيع أن أسرع في تلاوة قدّاسي». وآخر أميركي الأصل قال: «كم تأثّرت لكلمته: النفوس! آه النفوس كم تكلّف لتحصل على الخلاص!»

أثناء الذبيحة الإلهيّة كان وجه الأب بيّو يتصبّب عرقًا وعيناه تفيضان دموعًا وهو يفكّر في حمل الخطايا الثقيل الذي ينوء به يوميًّا في كرسي الاعتراف ليعوّض بدمه في القدّاس عن هذه الأخطاء. ولم يكن فوق الهيكل سوى المسيح على الجلجلة يريه الحاضرين بحركاته. وعند التقدمة كان يرفع الصينيّة في دور استرحام وعيناه تغوصان في نور لا يُرى وكأنّه يجمع العالم بأسره على هذه الصينيّة والدقائق تمرّ ثقيلة أثقل من نقط الدم. وعند ذكر الأحياء كان يتوقّف من جديد في انخطاف ثانٍ يطول جدًّا لولا أمر الرئيس بمتابعة القدّاس.

كان يدعو أبناءه كي يحضروا ذبيحة القدّاس يوميًّا، ويتقدّموا إلى مائدة الحياة لأنّ القدّاس على حدّ قوله «يخلّص العالم يومًا بعد يوم من الهلاك». وكان يعلّم أبناءه الروحيّين أنّه لا يمكننا الحصول على الخلاص إلاّ إذا كان الصليب مزروعًا في حياتنا وكان يقول: «أعتقد أن الافخارستيّا المقدّسة هي السبيل الوحيد للتّوق إلى الكمال، لكن علينا أن نستقبلها وكلّنا رغبة بأن ننـزع من قلوبنا كلّ ما يسيء إلى من نريد أن يكون فينا».

لكنّه كان يحظّر من التناول النفاقي، وقد رفض الاعتراف لسيّدة إنكليزيّة مدّة عشرين يومًا وقال لها: «كان عليك بدلاً من أن تشتكي من قساوتي، أن تشكي نفسك وتسألي نفسك كيف يمكن للرحمة الإلهيّة أن تقبلك بعد تلك المناولات النفاقيّة أتعلمين كم ذلك مؤلم؟ فالذي يقترف خطيئة النفاق لا يمكنه أن يخلص بلا شفاعة أحد الأتقياء إلى الله من أجله.

وكان الأب بيّو يشرح لأحد أبنائه الروحيّين القدّاس مبيّنًا له كيف يجب وضع القدّاس وآلام المسيح على خطّين متوازيين وعليه أن يفهم قبل كلّ شيء أنّ الكاهن على المذبح هو يسوع المسيح نفسه، بحيث يُعيد يسوع بشخص كاهنه عَيش آلامه.

ففي القدّاس نلتقي بيسوع منازعًا، متألّمًا لرؤية كلمة الله التي جاء هو ليحملها غير مسموعة ولا مقبولة ومن هذا المنظار علينا أن نسمع قراءات القدّاس وكأنّها موجّهة إلينا شخصيًَّا.
ومنذ بداية صلاة الإفخارستيّة نرافق يسوع أثناء جَلْده، تكليله بالشوك ودرب الصليب…
والتكريس، إنّه سريًّا، صلب يسوع. لذلك كان الأب يتألّم كثيرًا في هذا الوقت من القدّاس. هنا نلتقي بيسوع على الصليب يقدّم للأب ذبيحة الفداء.

«بواسطته معه وفيه»… هي صرخة يسوع: «يا أبتاه، بين يديك أسلّم روحي». عندها تكون الذبيحة مقبولة لدى الآب. والناس منذئذٍ لم يعودوا منفصلين عن الله بل متّحدين معه لذلك نصلّي في هذه اللحظة، صلاة كلّ الأبناء، أبناء الله: أبانا الذي في السماوات…

كسر القربان يعني موت يسوع، وعندما يضع الكاهن قطعة من الخبز المكسور رمز الموت في كأس الدم هذا يعني القيامة فالجسد والدم متّحدان من جديد وعندها نذهب للمناولة إنّما نتناول المسيح الحيّ القائم من الموت…
بركة الكاهن في نهاية القدّاس تختم المؤمنين بختم الصليب كعلامة فارقة ومميّزة وكترس منيع حافظ لهم من هجمات الشرير.

وهكذا بعد أن نسمع شرح الأب بيّو هذا للقدّاس خاصّة أنه هو كان يعيش تلك المراحل بالألم لا يَسعُنا إلاّ أن نتبعه في هذا الطريق، طريق الألم والقداسة.

رابعًا: الأب بيّو المرشد الروحيّ

كان الأب بيّو رجل صلاة، بل كاهنًا يصلّي كما قال هو عن نفسه: «أنا لستُ سوى كاهن يُصلّي». وقد كان مركز ومحور كلّ حياته المذبح وكرسي الاعتراف وقد قال يومًا لأحد أبنائه الروحيّين: «في مركز حياتك يجب أن يكون هناك مذبحٌ وكرسي اعتراف وكلّ ما تبقّى لا يُفيد بشيء».

– كان يدعو دائمًا المؤمنين إلى الصلاة وكان يقول: «الصلاة هي ذوبان قلبنا في قلب الله فإن كانت مصنوعة جيّدًا تؤثّر في القلب الإلهيّ وتدعوه ليستجيبنا دائمًا. فلنصلِّ من كلّ قلوبنا وصلاتنا فنجعل الله يساعدنا».

– وكان يعلّم الطواعية للروح القدس، فكان يذكّر دومًا بكرامتنا: «لتكن نفوسكم دائمًا هيكل الروح القدس» (30 كانون الثاني 1915).

– وكان يدعو إلى طهارة النفس: «لنكن ساهرين ولا ندع العدو الشرير يشقُّ طريقًا إلى نفوسنا مفسدًا هيكل الروح القدس… لنتذكّر دائمًا أننا بالعماد أصبحنا هياكل الله الحيّة وفي كلّ مرّة نوجّه نفسنا نحو العالم والشيطان والجسد التي كفرنا بها في العماد ندنِّسُ هذا الهيكل المقدّس» (3 أيّار 1915).

– وكان يدعو أيضًا إلى الإماتة: «لننظر الآن إلى ما يجب على النفس فعله حتّى يعيش فيها الروح القدس، كلّ ذلك يكون بإماتة الجسد، والرذائل والطمع ولنحترز من أرواحِنا نفسِها… فلنسهر على إماتة روحنا المنفتح كبرياءً ويجعلنا سريعي الانقياد لنـزواتنا ويجفّفنا. فلنسهر على قمع المجد الباطل والغضب والحسد. ثلاثة أرواح شريرة: الكبرياء والغضب والحسد، تستعبد أغلبية الناس… هذه الأرواح تتنافى كليًّا مع روح الربّ.

– الإيمان والرجاء والمحبّة: علينا أن نقوّي فينا هذه الفضائل الإلهيّة الثلاثة، الإيمان الذي به نعرف الله هدفَنا الأخير، الرّجاء الذي يجعلنا نتوصّل إليه والمحبّة التي تدفعنا إليه. «بواسطة يسوع الوديع أرجوكم أن تطردوا كلّ خوف ولتكن دائمًا عندكم الثقة والإيمان والمحبّة» (30 تشرين الأول 1915).

«مع الإيمان والرجاء لن ينقصك رحيق المحبّة التي تجمعك بصورة أفضل مع الخير الأسمى» (13 حزيران 1918).
السير في الإيمان يعني السير في الظلام وإلاّ لن تكون للمحبّة أيّة قيمة. فالأب بيّو كان يحثّ دائمًا أبناءه الروحيّين على اللجوء إلى الكهنة للاعتراف: «لا تتركوا نفوسكم لِنفوسكم، لا تجعلوا ثقتكم إلاّ بالله!» (29 آذار 1914).

– أن تعيش «اليوم» يوم الله (الحاضر). كان ذلك نقطة مهمّة في روحانيّة الأب بيّو كان يريدنا أن نلتقي بمشيئة الله كما تتمّ «اليوم» بالنسبة إليه يجب ألاّ نهرب. كان مصرًّا على الوقت الحاضر قائلاً: «إنّ مشيئة الله هي هنا والآن فلا نحاول إذن التهرّب من مسؤوليّاتنا اليوميّة. «إنّ الشيطان مقيم دائمًا في هذا المكان الآخر». كم هذا صحيح!!

– تكريم العذراء مريم: كان الأب بيّو يكرّم العذراء تكريمًا خاصًّا وكان حبّه شديدًا لسيّدة النعم وسلطانة الورديّة، فهو يوعز أكثر عجائبه إليها لذا كان يرسل الحاصلين على النعم إلى هيكلها ليؤدّوا لها واجب الشكر على ما حصلوا عليه من نِعَم بشفاعتها. وكلّ رسائله التي كان يوجّهها سواء إلى مرشده الروحيّ أو إلى رئيسه الإقليميّ أو إلى أبنائه الروحيّين كانت تظهر المحبّة الفائقة التي يُكنّها لسيّدتنا مريم العذراء. والعذراء مريم كما هو معلوم كانت ترافق الأب بيّو إلى المذبح كما ترافق كلّ كاهن لكن، ويا للأسف، قلّة هم الذين يشعرون بذلك.

إن تكريم البادري بيّو للعذراء مريم كانت بسيطة، سريعة، تتّصف بالصراحة والصداقة. كانت العذراء معه خاصّة من خلال صلاة الورديّة المتواصلة. أخبرنا معرّفه الأب Agostino ما سمعه يقول للعذراء حين كانت تظهر له. في 29 تشرين الثاني 1911 سمعه يقول لها: «اسمعي أمي، أحبّك أكثر من كلّ الخلائق على الأرض وفي السماء، بعد يسوع بالطبع، ولكنّني أحبّك…». وفي 3 كانون الأوّل سمعه يقول أيضًا: «إنّك جميلة يا أمّي، إني فخور بأن يكون لي أمّ هكذا رائعة». وفي انخطاف آخر سُمع يقول: «أجل، إنك جميلة، ولولا الإيمان، لقال الناس إنّك إلهة… عيناك أكثر إشعاعًا من الشمس، إنّك جميلة يا أمّي، أنا فخور بك، أحبّك، ساعديني…»

– حلم معبّر للأب بيّو: كان البادري بيّو يحبّ أن يخبر هذا الحلم بسعادة، «حلمتُ هذه الليلة إنّي أنظر من نافذة خورس الكنيسة، رأيت هذا المكان مليء بالناس. سألتهم بصوت عال “من أنتم وماذا تريدون؟” فكان الجواب: “نريد موت البادري بيّو” عُدت إلى الخورس فأتت العذراء، أمّ يسوع لملاقاتي وقالت لي “لا تخشى شيئًا، إنّي هنا، خُذ هذا السلاح، اذهب إلى النافذة واستعمله، إنّه يستطيع أن يُصيب حتّى على دائرة خمسين كليومترًا. طُعت، ووقع الجميع أرضًا كالأموات. استيقظتُ مجدّدًا، ثمّ عُدتُ ونمت، وعاودني الحلم، رأيت ذاتي مجدّدًا عند تلك النافذة، وكان المكان ما يزال مليئًا بالناس، فكّرتُ بنفسي، إنّهم لم يموتوا بعد! فصرختُ: “ولكن هل بالمستطاع معرفة من أنتم وماذا تريدون؟” فجاوبني جميعهم: “يا أبونا، نحن أولادك، ونريد بركتك”… إنّ السلاح، كما يجب أن تحزروا، كان المسبحة التي لم تكن تفارق أصابع البادري بيّو». معنى هذا الحلم أن تلك الجماعة التي كانت شريرة ارتدّت بواسطة صلاة المسبحة.

– رؤيا القدّيس بيّو: رأى بالقرب منه رجلاً رائعًا وجميلاً جدًّا أمسكه بيده وقال له: «تعال معي لأنّه يجب عليك أن تحارب كجندي شجاع». وأخذه إلى حقل شاسع مليء بمجموعة كائنات حيّة مقسومة إلى فرق متواجهة. من جهة رجال جميلون جدًّا، ومن الجهة الأخرى وجوه مظهرها شنيع، وفي الوسط مكان شاسع حيث كان موجود عملاق مخيف على البادري بيّو أن يحاربه. قال له: «تشجّع، ادخل المعركة بثقة، تقدّم بشجاعة، سأكون بقربك، سأساعدك ولن أسمح له أن يغلبك، وستكون مكافأة انتصارك هديّة لإكليل رائع. فهِم البادري بيّو معنى هذه الرؤيا في يوم عيد الختان في 1 كانون الثاني 1903 بعد المناولة. إذ غمر روحَه نورٌ داخليّ فائق الطبيعة، وبسرعة البرق علم أن دعوته الرهبانيّة ستكون صراعًا متواصلاً مع هذا الكائن الجهنميّ المخيف، وفهم أيضًا أنّ عدوّه كان مرعبًا، ولكن ليس عليه أن يخشى شيئًا لأنّ يسوع ذاته (الممثّل بالرجل العظيم) سيكون دائمًا بجانبه ليساعده وليكافئه بالسماء للنصر الذي سيحرزه، شرط أن يثق به وأن يجاهد بسخاء.

– كيف نتوصّل إلى حالة اتحاد مع الله: إنّه أمرٌ صعب لكن غير مستحيل! العيش بحضرة الله دائمًا… وأن نعمل من الصلاة حديثًا مع الله يجعله شخصًا حيًّا معنا! لنضع ثقتنا دائمًا بالله ونفهم الأمور دائمًا وكأنّها آتية من يد الله في كلّ ظرف وبالرغم من كلّ ما يمكن أن يحصل لنا من شرور، بالرغم من الهموم والمشاكل، فلنجعل ثقتنا بالله لأنّه هو الذي «يمسك بالخيوط» دائمًا، وهذا يكفي.

كان الأب بيّو يتّصف بعاطفة لا توصف نحو الأطفال. فكم من مرّة أصرَّ على تقديم تاريخ القربانة الأولى لأنّه كان يقول: «يجب أن يدخل يسوع في قلوبهم قبل أن يدخلها الشرّ». كان يحبّ الصغار وهم يحبّونه فيعيرهم كلّ اهتمامه ويدرّسهم بغيرة حبًّا بالله. يعلّمهم التعليم المسيحي والصلاة.

خامسًا: الأب بيّو رجل الآلام

كان الأب بيّو يتألّم بجسده وبنفسه. فهو يُذكِّر عصرنا ? الذي يودّ تخدير أيّ ألم ? بأنّ الألم جزء من وضعنا البشريّ ولو قُدِّم إلى الربّ لكان السبيل الأكيد للالتقاء بيسوع. وقد رغب الأب بيّو بالألم مشاركة منه بسرِّ الفداء وقال: «إنّني لا أرغب بالألم من أجل الألم، كلاّ، إنّما من أجل الثمار الذي يعطيني إيّاها. فالألم يُمجِّدُ الله ويُسهِم بخلاص إخوتي، فماذا يمكنني أن أتمنَّى أكثر؟».

1. ليل الإيمان
رسائله إلى معرّفيه كانت تُظهر ألمه الأكثر حدّة: عدم تأكّده من حبّه لله أو من تتميمه للإرادة الإلهيّة… فقد كان دومًا يطلب إلى أصدقائه ومعرّفيـه أن يصلّوا من أجله لكي يبقى أمينًا.

2. الاضطهادات
كم تألّم الأب بيّو من الاضطهادات فقد مُنِع من ممارسة كهنوته ما عدا القدّاس، فقد كان يحتفل به في غرفة داخليّة في الدير، ومُنِع من ممارسة سرّ الاعتراف، وهكذا حقَّق الشيطان انتصارًا لكن كلّ ذلك كان الأب بيّو يقبله بتواضع ويقدّمه إلى الله فانقلب لمجد الله وخلاص النفوس.

3. آلام جسديّة
لقد عانى الأب بيّو من المرض لمدّة عشر سنوات تقريبًا… كما عانى من ضربات الشيطان وهجماته، هناك من لا يؤمنون بوجود مثل هذه الأرواح: الملائكة الساقطة ويزعمون أنّ الشيطان هو تجسّد للشرّ فمن كان إذن يضرب الأب بيّو ويقوم بهذا الضجيج الرهيب في غرفته؟ لا يمكن للشيطان أن يكون صديقًا للأب بيّو، كم انتزع من قبضته من النفوس!

أمّا أعظم الآلام على الإطلاق فكانت سمات الجراح المقدّسة مطبوعة بأعضائه، فهو يؤكّد أنّ المصلوب الموجود في خورس الدير قد تحوّل إلى شخص يسوع الحيّ وانطلقت منه أسهم من نار جرحت يديه ورجليه وصدره.

4. آلام نفسيّة
إلى جانب الجراحات عانى الأب بيّو، لأكثر من سنتين الخزي والعار والاستهزاء، لقد كانت هذه الجراحات النفسيّة آلام لنفسه من تلك الجراحات الجسديّة المقدّسة. لقد كلّله تعالى بهذا التاج لمدّة خمسين سنة فكان لتقوية إيمان البعض ولتشكيك البعض الآخر…

كلّ هذه الآلام كانت لتشارك الأب بيّو بآلام يسوع الفدائيّة ومنها تتضّح رغبته ورسالته، وهي: رغبته بالألم الفدائيّ.
فقد كتب الأب بيّو يوم رسامته: «يا يسوع اجعلني… لك كاهنًا قدّيسًا وضحيّة كاملة». وجدّد هذه الرغبة بعد 25 سنة على صورة تذكاريّة ليوبيله الفضّي: «يا يسوع ضحّيتي وحبّي اجعلني مذبحًا لصليبك وكأسًا لدمك ومحرقة لحبّك».

وقال أيضًا: «الآلام تؤلّف سعادتي ? إنّي أتألّم كثيرًا فلا أطلب تخفيف صليبـي لأنّني سعيد أن أتألّم مع يسوع ? لمّا أرى الصليب على كتفَي يسوع أشعر بالقوّة وأبتهج فرحًا خصوصًا لمّا أتألّم دون تعزية ? قال لي يسوع: بالحبّ هو يصيّرني سعيدًا وبالعذاب أنا أفرّحه». وقال يومًا للأب أغوسطينوس: «أنا مستعدّ للحرمان من كلّ العذوبات التي يقدّمها لي يسوع وأن يُخبّئ أمامي عينيه الجميلتين شرط ألاّ يحرمني من حبّه لئلا أموت ? للنفوس التي تحبّ الله أنّ الآلام أثمن من الذهب والارتياح ? وبقدر ما تتألّم دون تعزية تصير آلام المسيح خفيفة جدًّا. لهذا السبب أريد أن أتألّم بزيادة ودون تعزية، ففي هذا فرحي. ما أعذب كلمة الصليب! تحت الصليب تلبس النفوس النور وتضطرّم حبًّا وتتّخذ أجنحة لتطير عاليًا ? فليكن الصليب سرير ارتياحنا ومدرسة الكمال والميراث العزيز».

وكتب يومًا إلى مرشده الروحيّ: «لن أقول لك غير هذا: إنّ يسوع يعطيني فرحًا عميقًا عندما أستطيع أن أتألّم واعمل من أجل أخوتي. لقد سهرت وسأسهر أكثر، لقد بكيت وسوف أبكي دائمًا على إخوتي المنفيّين».

الجزء 2 (أعمال بيو ؛ بعض يومياته ؛ أقواله ؛ صلواته)

♰ القدّيس بيّو أعجوبة القرن العشرين ♰ (الجزء 2)

أذِنَ بطبعه سيادة المطران فرنسيس البيسري في 1 حزيران 2002

تنقيح الأب ادمون خشان.. www.jounoudmariam.com