– الوضع الاستثنائي منع الرئيس عون من تحويل لبنان إلى استثناء في محيطه الموبوء
***
لا يشكّ إثنان بأنّه كان يمكن للرئيس ميشال عون أن ينقل البلد من ضفة إلى أخرى، فيما لو وصل إلى سدّة الرئاسة قبل 11 سنة من الآن.
بالطبع كان الرئيس عون عام 2008 أحقّ من سلفه ميشال سليمان برئاسة الجمهورية، ولكن التسوية أتت بسليمان رئيساً، وعهد الأخير أتى على ما تبقى في صناديق الدولة اللبنانية. سليمان الذي أنفق في عام واحد أكثر من مليون دولار على شراء سيارات فارهة، كان من البديهي أن يسلّم البلد لخلفه بصناديق فارغة.
عندما غادر ميشال سليمان القصر الجمهوري في العام 2014، كانت صناديق الدولة خفيفة.. ولكن الحمل كان ثقيلاً. لم يرث الرئيس عون حمل سنوات سليمان الست وحدها، بل ورث حمل ثلاثة عقود من المديونية والهدر والفساد.
مع وصول الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، عوّل اللبنانيون على إنجازات استثنائية تشبه الرجل الاستثنائي، ولكن الوضع الاستثنائي منعه من تحويل لبنان إلى استثناء في محيطه الموبوء.
لقد ورث الرئيس عون وزر الحرب السورية و”الثورات” العربية.
وورث كتلة بشرية سورية لا تقلّ عن مليون ونصف مليون نازح.
وورث الرئيس عون بلد يفتقر إلى السيولة النفطية التي امتصتها حروب الأخوة في بلدان “الثورات” العربية.
وورث ديون مليارية لا سداد لها، وليرة بلا قيمة شرائية.
وورث مجموعات طائفية ومذهبية لا تنتمي إلى وطن.
وورث دولة بثلاثة أسلحة واقتصادين ووزارات رديفة على عدد الوزارات الأصيلة.
وورث إدارات محشوة بالعاطلين عن العمل.
وورث بلداً بلا كهرباء وماء وبنى تحتية.
وورث جهازاً قضائياً متحلّلاً.
وورث أجهزة أمنية متناحرة ومتناطحة.
أمّا “الميراث” الأكبر فهو الطبقة السياسية المسلّحة بسمومها “الفسائدية“.
أراد الرئيس عون مكافحة الفساد، ولكن في بلد كلبنان لا يمكن للتمنيات أن تسلك طريقها إلى التنفيذ. فهل بمقدور الرئيس أن يدكّ في السجن كبار المسؤولين المعروفين بالأسماء، الذين وزّعوا خيرات الدولة على صناديق؟
باختصار، ورث الرئيس عون بلداً منكوباً، أخلاقياً وخدماتياً وبيئياً واجتماعياً ومالياً!
حدث الانهيار على دفعات خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لأنّ النهب كان السيرة السياسية لأصول أهل السلطة وفروعهم، ولكننا شعرنا هذا العام أنّ السقف سقط مرّة واحدة على رؤوسنا.
يجمع الخبراء الاقتصاديون أنّ الرئيس عون لم يستلم بلداً على حافة الإفلاس، بل استلم بلداً مفلساً مع وقف الإعلان.
استلم الرئيس عون بلداً فارغاً من كلّ شيء… إلاّ من ناسه. المسؤولية الوحيدة التي حملها معه فريق رئيس الجمهورية إلى جمهورية العهد، هي تعثّره في ملفّ الكهرباء، علماً أنّ مسؤوليته في هذا الملفّ جزئية نظراً إلى دخول عوامل غير مرئية على خطّ الكهرباء، كملفّ النزوح السوري.
استلم الرئيس عون بلداً مهترئاً غير قابل للترقيع. البلد أشبه بقماشة “مهلهلة”، كلما رقعتها اتّسع “الخزق”. ولا مسؤولية على الخياط إذا استلم قماشة مهترئة.
رغم حالة الاهتراء العامة، وضع الرئيس عون معايير وطنية للحكم، أعاد على أساسها الانتظام العام إلى مؤسسات الدولة، ونجح في العامين الأولين من عهده بإعادة ثقتنا بالدولة.
الرئيس المحارب الذي أعاد بعض النظام والانتظام إلى الداخل، أراد تحييد لبنان عن حروب الخارج، ولكن لم تُترك جبهة إلاّ وفتحت في وجهه، والأدوات كانت أحياناً داخلية.
حَجْب المساعدات المالية عن لبنان كان حرباً على ميشال عون.
احتجاز رئيس حكومة لبنان في السعودية كان حرباً على ميشال عون.
تعطيل تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات كان حرباً على ميشال عون.
القمة الاقتصادية الأخيرة في بيروت كانت حرباً على ميشال عون.
دول بقياس قبائل وعشائر، تعاقب الرئيس عون على انحيازه المزدوج لوطنيته ومشرقيته.
اليوم الرئيس القوي، محاصر بالاقتصاد الضعيف. لبنان مخيّر بين التسوّل والتسوّل. البطالة باتت الشغل الشاغل للقسم الأكبر من اللبنانيين، ولا طاقة أمل نتنفس من خلالها الصعداء. الأعراب أنفقوا فوائضهم في خدمة تدمير البشر والحجر، وجفّفوا مساعداتهم بعدما نقلوا بسياساتهم التخريبية مليون ونصف سوري إلى لبنان. أمّا الغرب، الذي رأى في لبنان طيلة السنوات الثمانية الفائتة البقعة التي تقيه شرّ اللجوء السوري، لم يكلّف نفسه أكثر من حبر الوعود “السيدرية“.
امتلك الرئيس غير المحظوظ جرأة إعلان التفليسة، ولكن هل يملك خطة عمل لمعالجة هذه التفليسة قبل أن يبدأ الحفل الجنائزي؟