– الأرامية واللغات السامية ، القِدم ، تفرّعها وانتشارها…
***
أهمية اللغة الآرامية – السريانية في لبنان *
تكمن في هذه الحقيقة الخالدة، وهي انّ إبن الله عندما تجسّد وصار إنساناً، قد تكلّم مع أمّه العذراء مريم ، ومع رسله الأطهار باللغة الآرامية.
وعندما رآه التلاميذ يصلّي في أحد الأماكن، قال له أحد تلاميذه: يا رب علمّنا أن نُصلّي، كما علّم يوحنا تلاميذه، فقال لهم: عندما تصلّون، قولوا:
أبانا الذي في السموات..
ونحن اليوم في لبنان، حظنا عظيم، لأننا عندما نصلّي لأبينا السماوي، نقول له بلهجة تشبه اللهجة التي صلّى بها إبن الله لأبيه، ونقول له “أبون دبشمايو” ( ܐܒܘܢ ܕ ܒܫܡܝܘ ) أي أبانا الذي في السماوات..
وتُعرف أيضاً أهمية هذه اللغة المقدسة من دورها الكبير الذي كان لها على مرّ الأيام، ويتجلّى للعيان في وجهين: الدور التاريخي للغة الآرامية – السريانية، والدور اللغوي للغة الآرامية – السريانية..
القسم الأول: الدور التاريخي للغة الآرامية – السريانية
يظهر هذا في 5 محاور:
1) الآرامية واللغات السامية:
الآرامية هي لغة سامية، ويقسمها العلماء الى مجموعتين، الى لغات سامية شرقية ومنها الأكادية، وتفرعّت منها الأشورية والبابلية.. واللغات السامية الغربية وهي تنقسم بدورها الى شعبتين، الجنوبية الغربية ، وتشمل العربية والحبشية، والشمالية الغربية وهي تشمل الفينيقية والعبرية والآرامية.
أمّا السريانية فقد تفرعّت فيما بعد من اللغة الآرامية، وانصهرت فيها
2) قدم الأرامية:
ظهر الأراميون حسب رأي بعض المؤرخين منذ القرن 15 قبل المسيح، في بادية الشام، وفي بلاد ما بين النهرين، ويُعيد الكتاب المقدس، تقادم الآرامية كما جرى في سفر التكوين (11: 31) الى عصر الآباء في العهد القديم، وفي أيام يعقوب أب الأسباط الإثني عشر، وردت العبارة الأرامية “يجَر سهدوتا” أي “كومة الشهادة”، كما ورَد في سفر التكوين، (31: 47) وهي ترجمة لكلمة جلعاد العبرية، للدلالة على ميثاق قُطع بالأرامية بين لابان الأرامي ويعقوب العبراني، أي بين الأراميين والعبرانيين.
وفي عهد الملك حزقيا (716 – 687 ق م) في اثناء حملة سنحاريب الملك الأشوري على اورشليم سنة 701 ق م، كان قواد العبرانيين يفهمون الأرامية لغة الفاتحين، كما وَرَد في سفر الملوك الثاني (18: 26) وذلك دلالة على أنّ الأرامية بدأت تصير لغة العلاقات الدولية في الشرق الأدنى، وستُصبح في وقتٍ لاحق اللغة الشائعة في كثير من البلدان.
وفي ايام السبي البابلي، 597-537 ق م ، بعد ان خسر العبرانيون أرضهم ، خسروا لغتهم وراحو يتكلمون الآرامية في بابل، وعندما رجعوا الى بلادهم لم يسترجعوا لغتهم، بل كانت قد سيطرت عليهم الأرامية، ودامت سيطرتها حتى أتى المسيح، فتكلم بها ، وكانت البشارة المسيحية بالأرامة.
3) الأرامية محل الأكادية والعبرية والفينيقية
على مرّ الأيام وبفعل الفتوحات ، حلّت الأرامية رويداً محلّ الآكادية والأشورية ومحلّ العبرية والفينيقية، وفي هذا الصدد يقول العلامة الإلماني كارل بروكلمن (Carl Brockelmann)، إنّ الأراميين كانوا يتقدمون شيئاً فشيئاً في أراضي الدولة الأشورية، حتى وصلوا أخيراً الى الحكم، واقصوا اللغة الأشورية عن الحياة.
وفي كون الأرامية ، حلّت محلّ العبرية، يتابع “بروكلمن”، غير أنّه بابتداء العصر الهلينيّ، انتهت حياة اللغة العبرية، ان لم يستطع ذلك العدد الضخم من اليهود الذين رحلوا حينذاك الى مصر وما بعدها ناحية الغرب، ان يحتفظ بلغته الأصلية، في وسط يتكلّم الإغريقية، كذلك كان الحال مع بني جلدتهم الذين ظلوّا في موطنهم الأصلي، إذ وجدوا أنفسهم حينذاك وجهاً لوجه امام تلك اللغة الشعبية التي اكتسحت كل صدر أسيا وهي الآرامية، فكان من السهولة أن يتعاملوا بهذه اللغة بدلاً من لغتهم الأصلية، لأنّ كل واحدة من اللغتين قريبة من الأخرى بدرجة كبيرة جداً.
وفي كون الأرامية، حلّت أيضاً محلّ الفينيقية، يُنهي “بروكلمن” بهذا الكلام: “هذا ويُحتمل أن تكون اللغة الفينيقية قد ظلّت حيّة في بلدها الأصلي مدة اطول من العبرية، غير أنهّا على ايّة حال، قذ ذابت هناك في الأرامية حوالي سنة 100 ق. م.
4) توسع الأرامية وانتشارها
بعد ان اخذت الأرامية مكان هذه اللغات السامية القديمة، راحت تتوسّع وتنتشر. وعن سيطرة اللغة الأرامية في ايام الدولة الفارسية وفي عهد السلوقيين، يقول “الأب هنري لامنس”:
لمّا صار الأمر الى الفرس بعد البابليين، بقيت السيطرة للغة الأرامية، وكان ملوكها يتخذون هذه اللغة، كلغة رسمية وليس فقط في بلادهم، ولكن أيضاً في الأقطار الخاضعة لهم، كمصر وأسيا الصغرى.
ومن عجيب الأمور، أنّ إنتشار الأرامين بلغ على عهد السلوقيين مبلغاً عظيماً، فأضحت اللغة السائدة في كل آسيا السامية، ونعني بها سورية، وما بين النهرين، وبلاد الكلدان، والعراق وجزيرة العرب.
وعن مقام الآرامية عند المسلمين، والأرمن، يؤكد أيضاً لامنس، “وأضحت السريانية مدة أعصار عديدة، حتى بعد بعد القرون المتوسطة، لغة علماء الشرق، كما كانت اللاتينية لغة علماء الغرب. وكان المسلمون يدرسونها لكثرة فوائدها. وقد كتب بها الأرمن، مدة قبل إنتشار الأرمينة وحروفها“.
ويتابع عن توغلها داخل الصين والهند: قد بلغ إمتداد هذه اللغة الى أقاصي الشرق، في الصين الشمال، وفي الأقطار الهندية جنوباً، كما انها بلغت جنادل النيل، فلا نظنّ أن لغة أخرى حتى ولا اليونانية، جارَت السريانية في اتساعها، اللهمّ الاّ الإنكليزية في عهدنا..
5) تفرّع الأرامية
كانت الأرامية في أصلها القديم، أرومة واحدة، ولكنها عند إمتدادها وانتشارها، صارت أرومتين، يفصلهما نهر الفرات، وصحراء الشام.
أرامية شرقية، وارامية غربية، وكلتا الأرومتين، على مرّ الأيام، تفرعتا، وانقسمتا الى لهجات.
أولاً: الأرامية الغربية. انقسمت الأرامية الغربية الى لهجات عديدة، أهمها 6 لهجات:
- الأرامية الكتابية
- الأرامية الجليلية
- الأرامية الفلسطينية – المسيحية
- الأرامية السامرية
- الأرامية النبطية
- الأرامية التدمرية
اهم هذه اللهجات، الأرامية الجليلية. لأنها اللهجة التي تكلّم بها يسوع وأمّه ورسله، وتمثلها بعض التعابير والمفردات الأرامية الباقية، بشكلها القديم في الإنجيل اليوناني، وقد تفرّد مرقس بذكر معظمها،
– طاليطا قومي (ܛܐܠܝܛܐ) اي صبية قومي.. (مرقس 5: 41)
– إتفتح (݀ ܐܬܦܬܚ) إنفتح (مرقس 7:34)
– أبّا (ܐܒܐ) أي يا أبتاه (مقس 14: 36)
– ايل إيل لما شبقتني (ܐܝܠ ܐܝܠ ܠܡܐ ܫܒܩܬܢܝ) اي الهي الهي، لماذا تركتني (مرقس 15: 34)
ثانياً: الأرامية الشرقية: انقسمت الأرامية الشرقية الى لهجات عديدة، اهمها 3:
- الأرامية اليهودية
- الأرامية البندعية
- الأرامة السريانية
ونتكلّم عن الأرامية السريانية، لأنها من اهمّ اللهجات التي تفرّعت من الأرامية الشرقية، لا بل هي اشهر اللهجات الأرامية كافة شرقية أم غربية. فمع مرور الزمن سارت السريانية مرادفة للأرامية. فمن قال آرامية عنى سريانية. ومن قال، سريانية عنى أرامية. والسريانية في الأصل فرع من الأرامية ، نما مع الأيام، فغدا شجرة الأرامية الباسقة، وهي بنت الأرامية، ولكن هذه الإبنة فاقت امهّا ، لقد نبتت أولاً في مدينة الرها، او اوديسا، كما كان يسمّيها اليونان. وتُعرف اليوم باسم “اورفا” في جنوب تركيا.
كانت الرها قديماً وثنية، وفي عهدها الوثني، كانت مركزاً ثقافياً هاماً، ولكن عندما إعتنق أهلها المسيحية، في القرن الثاني للمسيح، ازدادت أهميتها، وصارت أهمّ مركز ثقافة في الشرق المسيحي، وصارت لهجتها الرهاوية، اللغة الأرامية – السريانية.
عن اهمية الرها المسيحية، يقول المستشرق “روبنس ديفال” (Rubens Duval) إنّ أصل الآداب بالسريانية مرتبط كل الإرتباط بالبشارة الإنجيلية، التي دخلت ما بين النهرين، وحسب التقليد الدائم الذي وصل الينا، كانت مدينة الرُها كانت منطلق هذه البشارة، ومع المسيحية أن انتشرت وتوطدّت أقدامها في بلاد ما بين النهرين برمتّها. وارتبطت كنيسة الرها أولاً بكنيسة اورشليم، ثم بكنيسة انطاكيا، فنشأت في الرها حركة فكرية جعلت منها مركزاً للعلوم الدينية والمدنية.
واللغة الآرامية لغة أدبية نشرها اهل ما بين النهرين، في سائر البلدان، فاستعملها يوماً السريان كلهّم، من سواحل البحر المتوسط حتى حدياب، واورميا، ومن جبال طوروس حتى الخليج العربي.
في الكنيسة المسيحية، عندما يُعمّد الطفل، يحمل إسماً جديداً هو اسم قديس، ليكون له شفيعاً عند المسيح، وهذا ما حصل لهذه الإبنة الرَهاوية، اي اللهجة الأرامية – الوثنية. كأني بآباء الكنيسة السريانية الذين تبنّوا هذه اللهجة وكتبوا بها، هم الذين عمّدوها وحمّلوها هذا الإسم الجديد، سريانية بدل آرامية. وهذا الإسم يثبتّه اليوم رئيس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية البطريرك غناطيوس زكا عيواص، فيقول:
اللغة السريانية، هي اللغة الأرامية ذاتها، والأراميون هم السريان أنفسهم ، وقد أخطأ من فصل بين الأراميين والسريان،اذ بتعاقب الأجيال وبتطورات الأحوال ، ظهرت التسمية السريانية الى جانب الأرامية، لتُطلقا على من تكلم بهذه اللغة، فهي تسمية لغوية ،وبعد ظهور المسيحية، تغلبّت التسمية السريانية على الأرامية.
وعن هذه التسمية السريانية يقول أيضاً، الأب جبرائيل القرداحي، بهذا المعنى ما نصّه:
الاّ أنّ الأراميين ما فتئوا يُسمّون بلادهم آرام، وينتسبون اليها، حتى دانوا بالديانية المسيحية، فأرادوا لبلادهم اسم سورية، دون إسمي أرام واسوريّا، فانتسبوا اليه، حتى تغلّب عليهم اسم السريان، او السوريين، وعلى لغتهم إسم السريانية، او السورية.
وفي القرن الخامس، عندما وقع الخلاف بين السريان، انقسمت الكنيسة السريانية الى قسمين، المشارقة والمغاربة. والمشارقة، كانوا سكاّن الجانب الشرقي من بلاد ما بين النهرين، ويُعرفون اليوم باسم الأشوريين والكلدان حيثما وجدوا، سواء في الشرق أم في الغرب. والمغاربة كانوا سكان الجانب الغربي من بلاد ما بين النهرين، وهو ما وراء الفرات الى البحر المتوسط، ويُعرفون اليوم، باسم السريان الأرثوذكس، والسريان الكاتوليك، والسريان الموارنة، حيثما وجدوا في الشرق والغرب.
ونتج من هذا الإنقسام في العقيدة، إنقسام في اللغة السريانية فيما بعد. من حيث اللفظ والخط، فاللفظ عند المشارقة، للحركة المُسمّاة “سكوفو” تصير فتحة ممدودة، وعند المغاربة تصير ضمة منفرجة.
فكلمة الله السريانية مثلاً يلفظها المشارقة ” الله َ ” بالفتح مع الشدّة. ويلفظها المغاربة الوهو بالضم من دون شدّة.
أمّا الخط عند عامة السريان، فكان يُعرف بالخط “السترنغيلي” ومعناه المستدير، او خط الإنجيل. وهو القلم الرهاوي المشهور، وكان يستعمله السريان المشارقة والمغاربة على حدّ سواء. انما في اوائل القرن الثالث، نوّع منه المغاربة خطاً جديداً ، عُرف بالخط الغربي او السرياني، وهو الذي يستعمله الى اليوم السريان الأرثوذكس، والسريان الكاتوليك والسريان الموارنة، ونوّع منه المشارقة في القرن العاشر، خطاً آخر عُرف بالخط الشرقي، أو الأشوري والكلداني، وهو الذي يستعمله لليوم الأشوريون والكلدان.
- محاضرة للأب يوحنا يشوع خوري في معهد الفنون الجميلة عن أهمية اللغة الأرامية – السريانية..
الجزء الثاني: الدور اللغوي للغة الآرامية – السريانية..