– النموذج اللبناني نقيض العنصرية والأحادية والمحافظة عليه وحمايته ضرورة للعالم وحاجة
***
كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أمام السلك الديبلوماسي وممثلي البعثات الديبلوماسية: (16 كانون 2 – 2018 )
أصحاب السعادة،
… أغتنم هذه المناسبة لأشكر كل الدول الصديقة التي ساندت لبنان ودعمته في خطواته نحو الاستقرار. وقد شهدنا بيروت تستعيد فرحها وتغلب أزماتها وتأبى إلا أن تنشر البهجة والأمل؛ والفرح هو سمة الشعوب الحية التي تتخطى دوماً مصاعبها وتكمل طريقها بعزم وإقدام وثقة بالمستقبل.
وأتوجّه أيضاً بالشكر الى قداسة البابا، الذي أبدى في خطابه أمام السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، تفهماً كاملاً لوضع لبنان وتقديره للجهود التي بذلها في موضوع النازحين، مع تشديده على ضرورة عودتهم، ودعوته المجتمع الدولي إلى العمل على خلق الظروف اللازمة لهذه العودة.
أصحاب السعادة،
عام ونيف، عمر هذا العهد، وأول أولوياتي حدّدتها في خطاب القسم وأعدت تأكيدها في كلمتي من هذا المنبر العام الماضي، وتتلخّص بتأمين الاستقرار، وكانت البداية للاستقرار السياسي، إذ من دونه لا يمكن إنجاز أي تقدّم في أي مضمار. والحكومة التي ضمّت كل الأطراف السياسية الرئيسية، ساهمت في إرسائه وحتى لو علت داخلها الأصوات المختلفة أحياناً، إلا أنها تبقى تحت سقف الاختلاف السياسي الذي يُغني الحياة الديمقراطية. ولا شك في أن إنجاز قانون انتخابات، وبعد جهود مضنية، يقوم على النسبية لأول مرة في تاريخ لبنان، سيؤمّن مزيداً من الاستقرار السياسي، لأنه سيسمح بعدالة أكثر في التمثيل. وهنا، أؤكد حرصي على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها.
الشأن الاجتماعي والاقتصادي هو الطريق الأصعب، لأن لبنان غارق منذ عقود بهدر المال العام وغياب المحاسبة، كما بالديون، وإن تعدّدت الأسباب والدوافع، فإن النتيجة على الاقتصاد اللبناني واحدة. لكننا اليوم، وضعنا القطار على السكة، فأُقرت الموازنة بعد غياب أعوام وأعوام، وكذلك قانون الإصلاح الضريبي. وجهدنا سيتركز خلال هذا العام على الشأن الاقتصادي تخطيطاً وتطبيقاً.
إن التعيينات التي حصلت في مختلف مؤسسات الدولة، منحتها حيوية ووضعت نهج عمل مختلفاً ومتقدّماً، سواء في القضاء بحيث أمّنت استقلاليته، وجعلته أكثر حصانة، أو في الإدارة حيث وضعتها على الطريق الصحيح لمكافحة الفساد وللمضي قدماً في الإصلاح كما في الانتاجية، أو في الأمن حيث ظهرت النتائج جلية ولمسها اللبنانيون كما كل العالم.
لا شك أن حفظ الاستقرار الأمني وسط منطقة ملتهبة، وفي بلد كلبنان، ينفعل ويتفاعل مع محيطه الى حد كبير، هو أمر بالغ الصعوبة. ولكننا تمكّنا من تحقيقه ومنع انتقال نار الفتنة الى الداخل اللبناني، وذلك بفضل تضافر كل الإرادات، والتنسيق الكامل بين مختلف الأجهزة الأمنية بعد التعيينات الجديدة في قياداتها. فانتصر لبنان على أشد المنظمات الإرهابية إجراماً ووحشية، وتمكّن جيشنا الباسل من طردها من الأراضي اللبنانية، بعدما استطاع هو وسائر القوى الأمنية الأخرى إبعاد خطرها عن الداخل ومنعها من تنفيذ مخططاتها الدموية. ولا شك في أن الاستقرار السياسي والالتفاف الشعبي حول قوانا المسلحة أمّنا لها الدعم المطلوب كي تتمكن من إنجاز مهمتها.
أصحاب السعادة،
إن الارتدادات لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده الى القدس، والتي تشبه القول المأثور “يهب ما لا يملك لمن لا يستحق“، بما يعنيه ذلك من اعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ودعمها في مشروعها العنصري بتهويد دولتها، لا تزال تتفاعل.
لا شك في أن من حق كل دولة أن تقرر مقار سفاراتها في العالم وفقاً للقانون الدولي وبعد اتفاق الدولتين المعنيتين، ولكن اختيار القدس تحديداً، بكل ما تحمل من إرث ديني لكل الأديان السماوية، وبكل ما لها من خصوصية حتى في القرارات الدولية ذات الصلة، وما تشكل من إشكالية منذ احتلال فلسطين، يعمّق الفجوة ويبعد السلام ويزيد لهيب النار في الشرق.
إن السلام، قبل أن يكون اتفاقات على الورق أو خطوطاً على الأرض، هو شعور داخلي، هو حالة يعيشها المجتمع ويمارسها، والتاريخ يشهد على أن كل اتفاقيات السلام التي فرضتها الحكومات فرضاً على شعوبها من غير قناعة ومن غير قبول داخلي، لم توصل أبداً الى السلام الحقيقي، سلام الشعوب. وقطعاً الشعور بالظلم والاضطهاد لا يمكن أن يمهّد لأي سلام، والتعنت والإمعان في الاعتداء على الحقوق لن يحلا مشكلة، بل على العكس ستزداد الكراهية وسيتفاقم العنف، فهل هذا هو المطلوب؟ هل المطلوب شحن النفوس وإشعالها بنار الظلم والحقد لتصبح فريسة سهلة للأفكار المتطرفة وصيداً للتنظيمات الإرهابية؟ إن السلام لن يكون ما لم تبحث جدياً مشاكل هذه المنطقة، من منطلق العدالة لا القوة، وعبر الاعتراف بالحقوق لا الاعتداء عليها.
إن الاستراتيجية التي اعتمدت “الفوضى الخلاقة” لإحداث التغيير قد أثبتت ليس فقط فشلها الذريع بل كارثية نتائجها، وصار هناك حاجة لاستراتيجية دولية جديدة تقوم على الحوار أولاً وعلى مقاربة جديدة تحترم حقوق الشعوب والدول، كبيرة كانت أو صغيرة، غنية أو فقيرة، قوية أو ضعيفة – ولا ضرورة للتذكير بأن هذه هي الأسس التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة – فتضع حداً للدمار وللدماء، وتلتفت الى معالجة التداعيات، وأولاها مشكلة الملايين الذين اضطروا الى ترك أوطانهم وأرضهم وشدوا رحالهم نحو المجهول.
لقد كرّس قداسة الحبر الأعظم رسالته في اليوم العالمي للسلام، لموضوع المهجّرين واللاجئين، الذين يبحثون عن مكان آمن يمكنهم من العيش بسلام. وفي رسالته نرى بوضوح الحجم الذي بلغته هذه المشكلة ومدى الضغط الذي صارت تشكله على مستوى العالم، والحاجة الملحّة لمعالجتها.
وإن كانت الحاجة الى المعالجة قد باتت ملحّة على مستوى العالم، فأنها أكثر من ملحّة في لبنان لأن مشكلة النازحين تضغط بكل ثقلها ومن النواحي كافة، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فحتى قداسته دعا حكام الدول التي تستقبل اللاجئين الى احترام الحدود التي يرسمها الصالح العام، لأن لهم “مسؤوليات محدّدة تجاه مجتمعاتهم الخاصة، التي ينبغي عليهم ضمان حقوقها وتنميتها المتناغمة”.
ولا يخفى على أحد الوضع الاجتماعي والاقتصادي الضاغط الذي يعيشه لبنان، بضيق مساحته وضعف موارده، أضف الى ذلك ان معظم النازحين يعيشون في بيئة صحية واجتماعية غير سليمة، بالرغم من كل تقديمات المؤسسات الدولية واللبنانية، ونحن عاجزون عن تحسين أوضاعهم، فإمكاناتنا محدودة وليس في الأفق أي حلول، لذلك أغتنم هذه المناسبة لأجدد مطالبتنا المجتمع الدولي والأمم المتحدة بمساعدتهم على العودة الآمنة الى بلادهم.
أصحاب السعادة،
إن النموذج اللبناني هو نقيض العنصرية والأحادية، هو نموذج عيش الوحدة ضمن التعددية والتنوع، والمحافظة عليه وحمايته هما ضرورة للعالم وحاجة، لذلك سبق وطرحت في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة ترشيح لبنان ليكون مركزاً دائماً للحوار بين مختلف الحضارات والديانات والأعراق، وأجدد الطرح أمامكم اليوم.
ولذلك أيضاً رفع قداسة البابا بالأمس الصوت عالياً، داعياً المجتمع الدولي لتحمّل مسؤوليّته فعليًّا انطلاقًا من لبنان، كي يبقى “هذا البلد الحبيب”، كما يقول قداسته “رسالة الاحترام والتعايش، ونموذجًا ينبغي التمثّل به، للمنطقة وللعالم بأسره.”
كلّ عام وأنتم بخير، عاش لبنان
***
القائم باعمال السفارة البابوية: نأمل ان تدوم روح التفاهم التي ادت الى انتخابكم
نص كلمة القائم باعمال السفارة البابوية في لبنان المونسنيور ايفان سانتوس
“فخامة الرئيس،
يسرّ السلك الدبلوماسيّ المعتمد في لبنان، أن يجتمع اليوم، ليتقدم من فخامتكم، ومن خلالكم، إلى جميع اللبنانيّين، بامنياته الحارّة للسنة الجديدة، لكي تكون سنة سلام، غنيّة بكلّ خير.
في الوقت عينه، يعزّ عليّ أن أوجّه، باسم السلك الدبلوماسي، تعازيّ إلى سعادة السفير البريطانيّ، في ذكرى العزيزة ربيكا دايكس، التي توفيت بظروف مأساوية الشهر الفائت.
اننا إذ ننتظر تعيين سفير بابوي جديد لدى لبنان العزيز، أُعطي لي الشرف أن أوجّه اليكم هذه الأمنيات، فخامة الرئيس، في وقت بالغ الأهميّة في الحياة السياسيّة في لبنان. إنّ تاريخ هذا الوطن الذي يربو على آلاف السنين من الحريّة والتعايش، لا يزال يشكّل مصدر إلهام وتفكير للجميع. وهذا ما أعرب عنه السفير اللبنانيّ شارل مالك سنة 1946، يوم كان يعمل على صياغة الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان، التي نحتفل هذه السنة بذكراها السبعين: “إذا كان من مساهمة نقدّمها (لبنان)، فهي تندرج في إطار الحريّات الأساسيّة، أي حريّة التفكير، حريّة الضمير، وحريّة الوجود”.
يصادف هذه السنة أيضًا العيد الخامس والسبعون لإستقلال لبنان، هذا الوطن الثابت والغالي، العزيز على قلوب اللبنانيين الّذين لا يألون جهداً للمحافظة عليه ولصونه. ويشكّل هذا العيد فرصة جوهريّة للعودة إلى ركائز بلد الأرز. كما ويمكن لهذا العيد أن يساهم في إحياء المبادئ والقيم التي توحد المجتمعين السياسيّ والمدنيّ. وبامكانه أيضًا المساهمة في التفكير، بشكل أعمق، حول ما يسمح لهما بالتقدّم والنموّ.
إنّ ما يربط المجتمع، والسياسة، والعالم، إنّما هي العدالة، والتعايش، والاعتدال، والأخوّة. إنّها قيم يشهد لها اللبنانيّون أينما حلّوا في العالم، وقد اثبتموها أنتم، فخامة الرئيس، خلال أزمة الخريف الماضي، بتغليب مصلحة الوطن وكرامة ابنائه على الاختلافات، وذلك عبر الإصغاء والاهتمام الحقيقيّ بالوحدة.
هذه الرغبة في الوحدة تجلّت أيضًا، العام الفائت، في الجهود والصلابة التي اظهرها الجيشُ اللبناني والقوى الأمنيّة عبر إعلاء الحسّ بالواجب، ممّا سمح بصون سلامة اراضي لبنان. وقد ظهر ذلك خصوصًا عندما تحرّر لبنان من الوجود الإرهابيّ على أراضيه. إنّ الجيش اللبناني والقوى الأمنيّة، عبر أعمالهم وتضحياتهم، عادوا فأعطوا الشعب اللبناني نفحة أمل وفرصة لحياة جديدة.
ولكن بكلّ أسف، نتيقن أنّه حتى اليوم، يتمّ استعمال العامل الدينيّ كمسوّغ للإنغلاق والإقصاء والعنف، عوض أن يوفّر هذا العامل بالذات مسيرة انفتاح على الآخرين. أشير هنا، بشكل خاص، إلى الإرهاب ذي الطابع الأصوليّ، الذي حصد حتّى السنة الفائتة ضحايا كثيرة، في لبنان وخارجه، والذي أودى بحياة جنود كانوا يحاولون صون البلد.
في هذا الإطار الدوليّ المعقد والمأزوم، منح هذا البلد على الدوام المساعدة والملجأ لاولئك الهاربين من الحروب. أود هنا الاستشهاد بكلام قداسة البابا فرنسيس أمام السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، الأسبوع الفائت: “هذه البلدان التي تختبر أوضاعًا صعبة، تستحق التقدير والمساعدة من قبل المجتمع الدولي المدعوّ، في الوقت عينه، إلى العمل على خلق الظروف الملائمة لعودة النازحين إلى بلدهم. إنّه التزام يجب أن يقوم به المجتمع الدولي بشكل محسوس، بدءًا من لبنان، حتّى يظلّ هذا البلد العزيز “رسالة” للاحترام وللتعايش، ومثلاً يُحتذى به، في المنطقة وفي العالم كلّه”.
نحن جميعًا، الحاضرين هنا، وقد كنّا شهودًا على الإجماع الواسع الذي سمح للبنان بالوصول إلى تفاهم بين جميع مكوّناته وقواه السياسية من أجل انتخاب فخامتكم رئيسًا للجمهوريّة، نأمل أن تدوم روح التفاهم ذاته في زمن الإنتخابات النيابيّة التي سوف تجري في السادس من أيّار المقبل. إنّها فرصة لتقوية الديموقراطيّة السياسيّة التي تتمحور حول التوازن بين الحقوق والواجبات، حول مبدأ المسؤوليّة وقيم التضامن الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وفق ما نصّت عليه المادة السابعة من الدستور اللبنانيّ.
فخامة الرئيس،
منذ قرن، كان العالم لا يزال غائصًا في الحرب العالمية الأولى، تلك المجزرة العبثيّة. تشكّل سنة 2018 ذكرى نهاية تلك الحرب. إنّ السنة الجديدة التي تبدأ، تمنحنا، إذًا، الفرصة للإحتفال بالسلام، كما وصف ذلك، بشكل مميّز، الكاتب المشهور جبران خليل جبران: “أنتم حاضرون في أعمال الأناس الآخرين الّذين، بدورهم، ولو بدون معرفتهم، هم موجودون معكم في كلّ يوم من أيّامكم. لن يقعوا إذا لم تسقطوا أنتم معهم، ولن ينهضوا إذا لم تقدروا على الوقوف”.
فخامة الرئيس،
نتمنّى لكم شخصيّا، لعائلتكم، لمؤسّسات الجمهوريّة، لأعضاء الحكومة، وعبر شخصكم، للشعب اللبنانيّ بكامله، عامًا سعيدًا.
عاش لبنان”.