لا شك ان توصل لبنان وبعد 17 سنة من الصراع الحاد حول قانون الانتخاب، توصله الى قانون انتخاب جديد يختلف في خطوطه الرئيسية عن كل ما سبقه من صيغ لقوانين الانتخاب التي اعتمدت منذ انشاء لبنان دولة في العام 1920، ان توصله لذلك يعتبر حدثا سياسيا مهما ويشكل قفزة نوعية إيجابية خاصة في النواحي التالية:
1) من حيث اتخاذ القرار و اعتماد القانون: يختلف القانون الجديد عن معظم ما سبقه من قوانين من حيث الجهة التي جاءت به ، اذ انه جاء نتيجة مباحثات ومشاورات وتوافقات بين القوى السياسية اللبنانية التي وجدت نفسها حرة طليقة في ابداء المواقف وتقديم الطلبات بعيدة عن املاءات خارجية او داخلية فارضة او ضاغطة ، و قد توصلت الى هذه الصيغة عملا بقاعدة ” القبول بالممكن ” بعد ان استشعرت حدود المستحيل ومعالم الخطوط الحمر لها ولغيرها، و اخذت في النهاية بمنطق “التوافقراطية ” التي يعمل بها لبنان خلافا لقواعد الديمقراطية التي ينص عليها الدستور اللبناني. وهنا أهمية هذا القانون الذي كرس من حيث اعتماده المذهب السياسي اللبناني القائم على “التوافقراطية” والتي يسميها البعض تجاوزا الديمقراطية التوافقية في تركيب عجيب للمتناقضات ولهذا نرى من الان وصاعدا اعتماد المصطلح الجديد (التوافقراطية) الذي يعني الحكم بالتوافق وهو نمط جديد يضاف الى الديمقراطية والأرستقراطية وسواهما من نظم الحكم والسلطة.
2) من حيث العدالة في التمثيل :ان إرساء القانون على قاعدة النسبية ما يفسح لتمثيل الجميع وفقا لحد ادنى متفق عليه من شانه ان يحقق و بدون شك عدالة في التمثيل افضل من كل ما سبقه من نظم أكثرية كانت تقوم على قاعدة القوة الالغائية ، ففي حين ان النظام الاكثري يسحق كتلة انتخابية تقارب نصف المقترعين ( أي 49% ) و يعطي التمثيل كله لمن يحصل 51% من أصوات المقترعين ما يعني حصر التمثيل بالقوى الكبرى و منع تمثيل الأقليات فان النظام النسبي ووفقا لما اتفق عليه يتيح تمثل من يحصل على قدر قد لا يتعدى الربع او الثلث من الأصوات المقترعة في بعض الحالات و في هذا انتقال من نظام المحادل الساحقة الى نظام التمثيل الواسع وفقا لضوابط معينة.
3) توسيع الدائرة الانتخابية من مساحة القضاء الضيق كما كان قائما الى الدائرة الوسطى المحصورة كما اعتمد، وفي هذا التوسيع اقتراب ولو بخطوة قصيرة محدودة من تطبيق مبدأ دستوري ان النائب يمثل الامة دون الوصول الى تحقيقه فعليا ،لان تطبيقه الصحيح يفرض ان يكون لبنان كله دائرة واحدة يساهم كل الشعب فيها بانتخاب كل النواب لا كما اعتمد اليوم بان تنتخب كل دائرة او منطقة نوابها لكن يبقى الوضع الجديد أفضل مما كان لجهة اختصار الدوائر من 26 دائرة الى 15 وعسى ان تكون القفزة الثانية الى 6 دوائر وبعدها الدائرة الواحدة. وتكون الدوائر ال 15 خطوة إيجابية غير كاملة.
4) اعتماد الصوت التفضيلي : و هنا قد يحتار الباحث في تصنيف هذا العنصر ، إيجابيا او سلبيا ، اذ انه من حيث الدور الذي اعطي له في احتساب الأصوات لترجيح الفائز قد يقترب من النظام الكثيري الا انه يبقى مختلفا عنه فالناخب في الاكثري يرجح عادة لائحة بكاملها دون مفاضلة بين أعضائها اذ يكون عليه الناخب او يقترع للائحة كلها او يشطب بعض الأسماء ، بينما مع الصوت التفضيلي فان الناخب يقترح للائحة كلها دون تشطيب ثم يقترح لفرد واحد منها يتقدم بنظره عمن سواه أي ان الناخب يدلي بصوته مرتين مرة للائحة و مرة لمرشح و في هذا اختبار لقوة المرشح و رسالة تفرض على المنعيين بشؤون اللائحة اخدها في الاعتبار في الانتخابات المقبلة نظرا لكشفها عن قوة المرشح و عن المزاج الشعبي حياله و اتجاهات القاعدة الانتخابية.
5) اعتماد الحاصل الانتخابي عتبة لتأهيل اللائحة للفوز بمقعد واحد على الأقل. وهذا الامر قد يقترن بخاصية عدالة التمثيل واحترام تمثيل الأقلية، (والحاصل الانتخابي يحتسب على أساس قسمة مجموع المقترعين على عدد المقاعد ففي دائرة اقترع فيها 30 ألف وعدد نوابها 5 يكون الحاصل الانتخابي 6000 صوت ما يعني ان كل لائحة حازت على 6الاف صوت تمثل في البرلمان) وهنا أهمية هذا العنصر في تمثيل الأقليات الشعبية.
هذه هي اهم إيجابيات قانون الانتخاب الجديد الذي اتفق عليه وينتظر اقراره في مجلس النواب، ولكن يبقى ان نتوقف عند أخطر سلبياته من اجل العمل على الحد من مخاطرها حاضرا ومستقبلا وهنا نسجل ما يلي:
أ. تشويه النسبية الصحيحة واعتماد النسبية المقيدة المجزأة، ففي حين ان النظام النسبي الصحيح الذي يحقق العدالة التامة في التمثيل يفرض اعتماد التصويت على أساس الدائرة الواحدة والانتخاب خارج القيد الطائفي لان ادخال أي قيد عليها يؤدي الى تشويهها والحد من فعالية عدالة التمثيل التي تبتغيها، وهذا الامر يفرض على القوى الوطنية التي تطمح لبناء نظام سياسي عصري ان لا تتراجع عن المطالبة بتصحيح هذا الخلل وان تتخذه شعارا مركزيا للإصلاح الانتخابي.
ب. الجنوح الى الطائفية المقنعة بعيد عن المواطنية الواضحة المنفتحة. ويتجلى ذلك من وجهين الأول تقسيم الدوائر ال 15 حيث جمعت في كل دائرة قوى متجانسة طائفيا الى حد كبير حتى ومذهبيا في حالات معينة (حشد المسيحيين في دوائر خاصة بهم والمسلمين كذلك ثم فصل الشيعة في بعض الدوائر عن السنة كما حصل في صيدا وصور رغم انهما أصلا من محافظة إدارية واحدة) وفي هذا السلوك خنق للنزعة الوطنية وتشجيع للنزعة الطائفية والمذهبية ينبغي العمل على الحد من اثارها السلبية.
ت. منع القوى الوطنية ذات الانتشار الوطني الواسع على كامل مساحة الوطن من الاستفادة من قوتها التجييرية الحقيقية، لان تقسيم الدوائر الى 15 بدلا من الدائرة الواحدة يعني تجزئة قوتها ومنعها من التحشيد وهنا يبدو أيضا تغليب النزعة الطائفية والمذهبية والمناطقية على حساب المواطنية التامة والاتجاهات الوطنية المنفتحة.
ث. ترك الباب مفتوحا امام المال السياسي وشراء الذمم، لان اعتماد دوائر صغيرة بحجم القضاء يبقى على فعالية المال السياسي وقد يجعل تأثيره أكبر مما كان عليه في النظام الاكثري، ففي حين انه يتطلب في النظام الاكثري بلوغ عتبة الأكثرية المطلقة لتحقيق الفوز، فانه يكفي ان يستعمل لبلوغ الحاصل الانتخابي في النظام النسبي وهو أدنى طبعا من الأكثرية المطلقة. وان الحد من تأثير المال السياسي يفرض حتما توسيع الدائرة.
هذه بعض اهم سلبيات قانون الانتخاب الجديد ، و التي تتمحور على الصفة الطائفية و المناطقية التي تطبع القانون على حساب المصلحة الوطنية ، و لكن ومهما يكن من امر هذه السلبيات يجب الإقرار بان هذا القانون يبقى افضل مما سبقه من قوانين اعتمدت منذ مئة عام و في مختلف الحقبات و الأوضاع ، و يكون على القوى الوطنية اللاطائفية ان تستفيد من إيجابيات هذا القانون لتطويرها و التركيز على سلبياته لتعطيلها وصولا الى قانون وطني يؤسس لقيام الديمقراطية الحقيقية التي تقيم الدولة المدنية الوطنية الجامعة و يسقط “التوافقراطية” التقسيمية الطائفية التي تمنع قيام دولة المواطن دولة العدالة و المساواة وتبقي على دولة الطوائف و الحصص التي تتذرع بالمعتقد الديني و تتمسك به كجواز مرور للحصول على المكاسب و الامتيازات ، وتشهره في وجه شركاء في الوطن لتمنعهم من الحصول على حقوق المواطن المدنية .
العميد د. امين محمد حطيط
المصدر: البناء