إعداد الأب رومانوس الكريتي
كثيرة هي شهادات آباء الكنيسة القديسين التي تؤكد وتُثبت من خلال عظاتهم وشروحاتهم للكتاب المقدس، عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية في شأن النبي إيليا، التي تؤمن بأنه ما يزال حياً، إذ رفعه الله إليه بالمركبة النارية (سفر الملوك الثاني، فصل 2)، وذلك خلافاً “للموضة اللاهوتية” لدى بعض الكهنة “الأرثوذكس” المتأثرين بمذهب اللاهوت التحرّري (Theologie Liberale) فيقولون أن إيليا النبي قد مات! ومن الصعب أن نحصر جميع تلك الشهادات الآبائية في مقالة واحدة، ولكن فيما يلي مختارات من أهمّها:
- القديس إيريناوس أسقف ليون (القرن الثاني) يقول:
“إيليا أيضاً أُختُطِف وهو بَعدُ في الشَكل الطبيعي، مُعلناً بالنُّبؤة عن صعود الروحيين، وأنه لن يقف شيءٌ ما عائقٌ أمام {أجسادهم التي سَتنتقل وتصعد}.فإنه بذات الأيدي التي بها قد تَشكّلوا في البداية يتقبّلون الإنتقال والصعود”. (1)
- أما القديس إيرونيموس (القرن الرابع) فيقارن بين معجزات الرب يسوع المسيح والنبي إيليا، ثم يتكلّم كيف {إرتفعَ المسيح} وكيف تمّ {رَفع إيليا}:
“كما قام ربُّنا وصَعد إلى السموات بعد ممارسته قوّة عظيمة واحتمل آلامه، { هكذا أُخِذَ إيليا إلى السماء في مركبةٍ نارية} بعد معجزاتٍ كثيرة صنعها الله من خلاله”. (2)
- واعظ المسكونة وخطيب الكنيسة العظيم، القديس يوحنا الذهبي الفم (القرن الرابع) يُعلّمنا أن إيليا لم يَمُت حيث يقول:
“لاحظ إذاً كيف أنّ الإدانة تتجاوز الشخص الذين يَدين. لأنّ مُمثل الإتّهام ليس هو بولس، ولا بطرس ولا يعقوب ولا يوحنا، بل هو ذاكَ الذي موضع إعجاب أكثر من الجميع، قمّة الأنبياء، ذاك الذي جاهد من أجل خلاصِهم، حتى أنه أسلمَ ذاته للجوع، ذاك الذي {لم يَمُت بعد حتى اليوم}. إذاً ماذا قال ذاك؟ “قتلوا أنبياءَكَ بالسيف ونقضوا مذابحكَ فبقيتُ أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها”. (3)
ويقول الذهبي الفم أيضاً عن إيليا وأخنوخ ما يلي:
“إنّ أخنوخ وإيليا المولودَين من الطبيعة المائتة لمّا وُجِدا مُطيعين لخالقهما سائرَين السيرة الصالحة {أُعتِقَا من الموتِ والفساد اللّذين هما من لوازم الطبيعة البشرية}، ورُفِعا من الأرض إلى السماء وشاركا الملائكة الغير المائتين” (4)
- القديس أفرام السوري (القرن الرابع) في كلامه عن تجلّي المسيح على الجبل يقول:
“ذلك أنهم (أي التلاميذ) لم يكونوا بعد جديرين بمشاهدته، ومع ذلك فهو قد أراد أن يعرفوا أنهم هم أيضاً سوف يَتغيّرون بالمِثل، وقد إصطحبَ هذين الإثنين، موسى وإيليا، حتى ما نؤمن بالقيامة الأخيرة، فأولئك الذين ماتوا مثل موسى سوف يقومون، والذين {سيكونون أحياء حينئذ سوف يُختطفونَ كمثالِ إيليا} لأن للرب العلوّ والعُمق”. (5)
وفي تفسير سفر التكوين يقول القديس أفرام السوري ما يلي:
“…وبهذا سُرَّ الله جداً بفعل أخنوخ وعَظَمة محبّته فيه، لأنه كان يُكثر الوَعظ والوصيّة لمن في زمانه أن يتحفّظوا ولا يُخطأوا. ثم نَقلهُ الله من بين الناس وأنعمَ عليه بالحياة والبقاءِ في الجسد إلى مجيء المسيح الدّجال، يَحضُر إليه هو وإيليا الذي هو أيضاً حيّ، ويُوبّخانه ويوضِحان كذبَ آياته، وبآياتٍ وعجائبَ حقيقية يفعلانها. ويَرجع إلى المسيح الحقّ كثيرٌ من اليهود الذين من أجلهم أبقى الله اليهود في الدنيا، من أجل تلكَ الجماعة التي تُؤمن به منهم في ذلك الزمان. وحينئذٍ يشتدُّ غضبُ المسيح الدّجال ويقتلهما، أعني أخنوخ وإيليا، وبعد قتلهما بثلاثةِ أيامٍ تقوم القيامة.” (6)
- وفي حديث للقديس بروكلّوس بطريرك القسطنطينية (القرن الخامس) عن تجلّي المسيح يقول:
“كان (المسيح) يُعطي للرسُل التأكيد بأنه هو ربُّ السموات والأرض وما تحت الأرض، فهو {قد أحضَرَ إيليا من فوق وموسى من تحت}، وأخيراً إصطحبَ بقُربه بطرس ويعقوب ويوحنا، إذن فنحنُ انطلاقاً من هذه القِمَم أصبحنا نعرفُ كلّ شيء”. (7)
- القديس كيرلّس الإسكندري (القرن الخامس) في عظةٍ له عن التجلّي يقول:
“لقد ظهرَ موسى الذي مات، {وإيليا الذي يعرفونَ أنّه ما يزالُ حياً}، مع ربّنا يسوع المسيح في المَجد، كي يعرفوا أن له السُلطان على الأحياء والأموات معاً، وقد إستحضَرهما ووقفا معه، ليس صامتين، بل تحدّثا عن مجده الآتي، وآلامه وصَلبه التي سَيُكمّلها في أورشليم، وعن القيامة والتجديد”. (8)
- القديس غريغوريوس النزينزي (القرن الرابع) في خِطابه ليوليانوس الجاحد يقول:
“لنستعرض منذ القديم، عظائم الله في رجاله القديسين: {إنتقال أخنوخ، وإتّخاذ إيليا}…” (9)
وهو نفسه في مؤلّفِهِ”اللاهوت والمعاينات” يقول:
“… {أمّا أخنوخ فقد إنتقلَ انتقالاً، إلاّ أنه لا يَظهرُ إذا كان قد أدرك طبيعة الله، أو سَيُدركها… إن إيليا كما نعرفُ من التاريخ لم يَرَ طبيعة الله بل ظلالها، وقد رأى هذه الطبيعة لا في الرياح العاصفة ولا في النار، ولا في الزلزال، بل في النسيم العليل. من هو إيليا؟ {إنّه الإنسانُ الذي رَفعَته مركبةٌ ناريّة نحو السماء حتى يظهرَ أن الإنسان البارّ هو فوق البشر}” (10)
- القديس كيرلّس الاورشليمي (القرن الرابع) في حديثة عن أهمّية عُنصر الماء في سرّ المعمودية، يأتي على ذِكر إيليا النبيّ قائلاً:
“رُفعَ إيليا إلى السماء، وكان هناك ماءٌ، إذ هو عبرَ الأردن {ثم رُفعَ إلى السماء في مركبةٍ ناريّة وخيلٍ ناريّة}” (11)
وفي حديثهِ عن عَظمَة وكرامة القديس يوحنا المعمدان يذكر أيضاً في سياق كلامه إيليا وأخنوخ قائلاً:
“…إنّه (يوحنا المعمدان) بداية الأعمال الإنجيلية: وفي بدءِ بشارة يسوع المسيح، ظهرَ يوحنا في البريّة يَعظُ بمعمودية التوبة (مرقس1:1)، وحتى {إيليا الذي رُفعَ إلى السماء لم يكن أعظم منه. ورُفع أخنوخ كذلك إلى السماء، ولكنّه لم يكُن أعظمَ من يوحنا…}. (12)
- أما اللاهوتي الإنطاكي اللامع، القديس يوحنا الدمشقي (القرن السابع) والمُلقّب ب «مَجرى الذهب» يقول:
«المسيح يُشارُ إليه على أنّه ربُّ الأمواتِ والأحياء، ذلك أنه إستَحضَرَ موسى من الأموات، وشاهداً حياً قائد المركبةِ الناريّة الذي قادَ مركبة الأرض قديماً نحو سبيلٍ سماويّ». (13)
«وكونكَ سيّدُ السماءِ وملكُ الأرض وربُّ الجحيم أيها المسيح، فقد خدمكَ الرسُلُ على الأرض، وإيليا التِّشبيّ آتياً من السَّماء، وموسى عائداً من بينِ الأموات، وكانوا يُرتلون بلا إنقطاعٍ…» (14)
وعن عودة إيليا وأخنوخ إلى الأرض في نهاية الأزمنة ومقاومتهما للمسيح الدّجال يقول القديس يوحنا الدمشقي أيضاً:
“وسَيُرسلُ الله {أخنوخ وإيليا التِّشبيّ} فيُعيدانِ قلوب الآباءِ إلى الأبناء، أي شيوخ المجمع (اليهودي) إلى ربّنا يسوع المسيح وإلى كِرازة الرسُل، ولكنه سيقتلهما. ثم يأتي الربُّ من السماء كما كان شاهدَهُ الرسُلُ صاعداً إلى السماء، إلهاً كاملاً وانساناً كاملاً، بمجدٍ وقوّةٍ، فيُهلِك بِنَفَسِ فَمِه الإنسان الزائغ عن الشريعة وإبن الهلاك. فلا يتوقعنّ أحدٌ إذاً مجيء الربّ من الأرض بل من السماء، على ما أكّدهُ لنا هو نفسه”. (15)
- القديس ثيوفيلاكتوس البُلغاري (القرن الثاني عشر):
في حديثه عن عيد التجلّي يَنقل المتروبوليت إيروثيوس فلاخوس عن القديس ثيوفيلاكتوس ما يلي:
“يُشير القديس ثيوفيلاكتوس بوضوحٍ إلى الأسباب التي جَعلت مُعايني الله في العهد القديم يظهران. أولاً، لبرهان أن المسيح هو سيّد العهد القديم والأنبياء. ثانياً، لإظهار أنه إلهُ الأحياء والأموات، كون موسى كان صاحب الشريعة ومات، وإيليا كان نبياً {وما يزالُ حياً كونه إنتقلَ إلى السماء بعَربة}. (16)
أعتقد أنه بعد كل هذه الشهادات الآبائية، سيبقى كل من يخالف الوحي الإلهي في الكتاب المقدس، وتعليم وعقيدة الكنيسة الأرثوذكسية المنعكسة في تقليد الرسل والآباء القديسين، إنساناً بائساً مقاوماً للروح القدس ومعانداً للحق، وحجر عثرة للمؤمنين، قد سبق وقال عنه الرب يسوع المسيح:
«لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ، إنه خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ، مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ.” (لوقا 2:17-1)
المراجع:
(1)- Irenaeus against Heresies, 5:5:1
(2)- Fr. Caesarius: Sermon 124:6
(3)- القديس يوحنا الذهبي الفم، تفسير الرسالة إلى رومية، الفصل 11 الآية 5 / ترجمة د. سعيد حكيم يعقوب، مؤسسة القديس أنطونيوس، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة، طبعة أولى 2013 ص 451
(4)- “مواعظ الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم، العظة الثامنة والسبعون، صفحة 202
(5)- كتاب “آبائيات” صفحة 154
(6)- القديس أفرام السوري، في تفسير سفر التكوين، المخطوط الماروني هونت 112 في مكتبة أوكسفورد، قدم له ونشره الأب يوحنا تابت رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك، ص 66
(7)- كتاب آبائيات، ص 162
(8)- “صوت من أعماق التاريخ”، عظات للقديس كيرلس الاسكندري، عظة عن التجلي عربون المجد، صفحة 64
(9)- “مختارات من القديس غريغوريوس اللاهوتي النزينزي”، تعريب الأسقف استفانوس حداد، منشورات النور 1994, صفحة 49, الخطاب الأول- ضد يوليانوس.
(10)- المرجع السابق، فصل في اللاهوت واللاهوتي صفحة 103- 104
(11)- “كيرلس الاورشليمي، أقدم النصوص المسيحية، سلسلة النصوص الليتورجية”، العظة الثالثة في العماد، صفحة 42
(12)- نفس المرجع السابق.
(13)- عظة للقديس يوحنا الدمشقي في عيد التجلي، كلمات آبائية ج 6، دير مار ميخائيل نهر بسكنتا، تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع م.م. 2005 ص 856)
(14)- القديس يوحنا الدمشقي، كلمات آبائية ج 6، دير مار ميخائيل نهر بسكنتا، تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع م.م. 2005 ص 882)
(15)- المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، للقديس يوحنا الدمشقي، تعريب الارشمندريت أدريانوس شكور ق.م، منشورات المكتبة البولسية، صفحة 274
(16)- الأعياد السيدية، المتروبوليت ايروثيوس فلاخوس، تعريب الأب أنطوان ملكي، مكتبة البشارة، بانياس 2009 ص 166.