عَ مدار الساعة


شو قال من سبع سنين.. (الأب ثاوذورس داود)

وجهٌ من نور …

نكبر في الحياة وتكبر فينا الخيبات. نفقد رجاءنا بالناس، نحزن وليس ما يعزي إلا تجديد الرجاء بالله الذي أوصانا – وهو العارف بكل شيء – فقال: ” لا تضعوا رجاءكم على الناس، لأن ليس عندهم خلاص. “

كل جيل يظن أنه الجيل المختار. جيل خلاص البشرية، جيل الحلول وجيل الفهم إلى أن تدور عجلة زمنه فيرى نفسه – كمن سبقه – على هامش الحياة التي تُكمل مسارها ساخرة منه.

نحن وقود الحياة إلى أن نعرف الله معرفة حقةً، عندها تصير الحياة وقود إنسانيتنا وتألهنا. في معرفة الله انفتاح بصيرة وحكمة فمن انفتحت عيناه يعلن : “باطل الأباطيل، كل شيء باطل ولا جديد تحت الشمس.”

نحن نهرب من طفولتنا متمردين بهدف تغيير الكون، وبعد أن نقتني علماً وبعض معرفة، نُصدم من الحقيقية الساقطة فنهرول راجعين إلى طفولتنا، إلى الحقيقة الواحدة لتغمرنا وتحمينا مما رأينا ولكن لا نجدها، بل نجد أنفسنا على قارعتها وقارعة طريق الحياة والحقيقة. ليس ماضٍ نجده ولا حاضر يعوّضه ولا مستقبل يغرينا فالأيام هي نفسها والخيبات نفسها والبشر إلى أسوأ. هنا يبدأ البحث عن الذات الضائعة، نركض مجدداً إلى الطفولة، إلى البساطة، إلى الفرح ولكن يكبر الألم. لن تجد أحداً، الكل هاجر. لن تجد أماً ولا أباً ولا رائحة خبز التنور ولا شوارب رجال ولا العالم الحقيقي.

هنا تتغير الحياة، هنا تكتشف أنك خسرت الفرح لانك لم تعد طفلاً، ولأنك لست طفلاً بعد لن ترى الله الذي شرط معرفته أن نعود كالأطفال. في الطفولة نُعطى أعيناً بسيطة نيّرة من صنع يدي الله نرى فيها الحياة، ولكن عندما نكبر ننظر بعيون من صنعنا ليست بعد بسيطة بل مُظلمة، حزينة و مُتعبة أنهكتها الدموع، إنها صنع عمل الإنسان.

في غربة حاضري أشتاق لما كنته يوم كنت ولداً. أشتاق إلى وجوه رحلت دون أن ترحل وكأن الله زرعها في ذاكرتنا الحية لتعزّينا في حاضرنا الميت. وجوه لبست البساطة لتغطي الحكمة فتأبدت ( صارت أبدية ) قبل الانتقال ومن تلك الوجوه وجه مْسيحية.

حتى الآن لا أعرف من هي مْسيحية، أذكر فقط أنها قريبة أمي، ربما عمّتها. لم أرها في طفولتي لأن طفولتي لم تكن مستقرة لا في المكان ولا في الوعي. بعد سيامتي كاهنا ببضعة أشهر أخذتني أمي لزيارة قريبتها مْسيحية التي كانت على ما أذكر مريضة لا تبارح الفراش.

أمي الطيبة الفخورة بابنها الكاهن الجديد أخذتني لزيارة تلك المرأة الطيبة الآتية من السماء والتائقة للعودة الى حيث أتت. لن أنسى ما حييت ذلك الفرح على وجه تلك القديسة. لم أرى وجهاً بل نوراً ولا اتذكر إلا كلمة واحدة قالتها وهي تحاول القفز من سريرها احتراما لكهنوتي ولأمي وهي لا تستطيع ، قالت كلمة واحدة لي دون توقف : يا حبيبي، يا حبيبي، يا حبيبي. ثم قالت كلمات أخرى لم أسمعها ولا أذكرها لأن صدى يا حبيبي لم يتوقف. سمعت صوت السماء على لسان إنسانة من السماء. أمسكت مْسيحية يدي تقبلها وتقبلها وكأني بولس الرسول وإذا بي أمسك يديها وأقبلهما بدموع وشكران دون توقف وكأنها المسيح.

يا عمتي مْسيحية ، سامحيني وسامحينا. أنت وجيلك سامحونا وصلوا من أجلنا. نحن جيل النايلون. جيل العلم بدون الحكمة واللاهوت بدون الإيمان والحياة بدون الفرح. أحياء أموات، أحرار عبيد، أغنياء فقراء لأننا عديمي الشكر.

لقد مر علي منذ تلك الحادثة نصف عمري على الأرض ولا أزال أبحث عن وجه مْسيحية في وجوه كل المسيحيين. لم أجده لا في غربتي ولا في وطني. لم أجد أحداً يشبهها لا في نورها ولا في بساطتها ولا في تواضعها.

ذلك الوجه كما وجه أمي، وجه من نور ينتمي إلى عالم آخر لم يترك العالم يطفيء نوره. ذلك الصوت جاء من ذلك العالم الذي ” لم تسمع به أذن ولم تره عين ولم يخطر على بال إنسان.”

ألأب ثاوذورس داود March/7/2016