أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان.. من يحب نفسه يهلكها..


تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ١٢: ٢٣-٣٠

٢٣ فَأَجابَهُما يَسوع وَقالَ: “قَدْ أَتَتِ السّاعَةُ الّتي يُمَجَّدُ فيها إبْنُ البشَرِ.
٢٤ ألحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لكُمْ إِنَّ حَبَّةَ الحِنْطَةِ الّتي تَقَعُ في الأرْضِ، إِنْ لَمْ تَمُتْ فَإِنَّها تَبْقى وَحْدَها،
٢٥ وَإِنْ ماتَتْ أَتَتْ بِثَمَرٍ كثيرٍ. مَنْ أُحَبَّ نَفسَهُ فَإنَّهُ يُهْلِكُها وَمَنْ أَبْغَضَ نَفسَهُ في هَذا العالمِ، فَإنَّهُ يَحْفَظُها لِلحياةِ الأبَدِيَّةِ.
٢٦ إنْ كانَ أَحَدٌ يَخْدُمُني فَلْيَتْبَعْني، وَحَيْثُ أَكونُ أَنا فَهُناكَ يَكونُ خادِمي. إِنْ كانَ أحَدٌ يَخْدُمُني يُكْرِّمُهُ أَبي.
٢٧ ألآنَ نَفْسي قَدِ اضْطَّرَبَتْ. ماذا أَقولُ، يا أَبَتِ نَجِّني مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأجْلِ هَذا بَلَغْتُ إِلَى هَذِهِ الّساعَةِ.
٢٨ يا أَبَتِ مَجِّدِ إسْمَكَ”. فَجاءَ صَوْتٌ مِنَ السّماءِ: “أنْ مَجَّدْتُ وَسَأمَّجِّدُ أَيْضاً”.
٢٩ فَسَمِعَ الجَمْعُ الّذي كانَ واقِفاً، فَقالوا: إنَّما كانَ رَعْدٌ. وَقَالَ آخَرونَ قَدْ كَلّمَهُ مَلاكٌ.
٣٠ أَجابَ يَسوع وَقالَ: “لَيْسَ مِنْ أَجْلي كانَ هَذا الصّوْتُ وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِكُمْ.


“وأما يسوع فأجابهما قائلاً:
قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان”. (23)

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح سبق فأمر تلاميذه: “في طريق الأمم لا تمضوا” (مت ١٠: ٥)، لكن إذ حان وقت الصلب انفتح الباب للأمم. لقد أتت الساعة للكرازة الأمم.
قبل السيد طلبهما، وجاء قوله: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان” (٢٣)، مشجعًا الأمم أن يتقدموا للتعرف عليه والإيمان به. لقد رأى السيد الحقل قد أينع للحصاد، وجاء وقت قبول الأمم في الإيمان. إنها ساعة مجد له، حيث تُفتح أبواب كنيسته أمام كل البشرية، وإن كان هذا قد جاء كرد فعل لرفض اليهود له وخروجهم من حظيرة الإيمان. هذا يتحقق بموت السيد المسيح ودفنه وقيامته كحبة حنطة في الأرض لتأتي بثمرٍ كثيرٍ.
كان التلاميذ والرسل هم بكور اليهود القادمين للإيمان به، وجاء هؤلاء اليونانيون كبكورٍ للأمم الذين يدخلون الإيمان بعد أن شق الصليب الحجاب الحاجز بين السماء والأرض، وبين اليهود والأمم.
كان لابد للسيد أن يتمجد بموته وقيامته حتى يؤسس كنيسته المجيدة من اليهود والأمم معًا. حبه ألزمه بالموت، لكي يخلص العالم الذي دمره الفساد، يغسله من خطاياه ويبرره ويقدسه ويمجده في السماء، هذه هي الحنطة الكثيرة، حصاد عمله الخلاصي.
لقد أتت الساعة التي لن يدرك أعماقها وأسرارها سوى الله نفسه؛ هذه الساعة هي ساعة المجد للآب كما للابن. لقد مضت حوالي ثلاث سنوات يقدم فيها السيد أعماله العجيبة وكلماته مع الجموع، الآن حان للبذرة أن تقع في الأرض وتدفن وتموت. جاء وقت المعصرة، فقد سبق فرآه إشعياء النبي وسمعه يقول: “قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن أحد معي” (إش ٦٣ : ٣).
قد أتت الساعة ليبسط يديه على الصليب، ويتمم المصالحة بين الآب وبني البشر، كما يضم اليهود والأمم معًا أعضاء في جسده الواحد.

أتريد أن تقتنع أنه تألم بإرادته؟ آخرون لا يعلمون ماذا يحدث لهم، لذلك ماتوا بغير إرادتهم، أما هو فسبق وقال: “ابن الإنسان يُسلم ويصلبوه”. ألا تعرف لماذا؟ “صديق الإنسان” هذا لم يمنع الموت؟ لكى لا يهلك العالم كله في خطاياه. “ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلم ويصلب” وأيضًا: “تقدم صاعدًا إلى أورشليم” (مت 18:20؛ لو 28:19).
أتريد حقًا أن تعرف أن الصليب مجد يسوع؟ استمع إلى كلماته لا إلى كلماتي، فإذ كان يهوذا خائن رب البيت على وشك القيام بالخيانة، وقد جلس على مائدته، وشرب كأس نعمته عوض الخلاص، تقدم ليسفك الدم البريء. “رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي، ورفع علىّ عقبه” (مز 9:41). لم يكن يده بعد قد تركت عطية نعمته، مدبرًا ثمنًا لخيانته بموته… وإذ سمع “أنت قلت” (مت 5:26) خرج. عندئذ قال يسوع: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان”. لترى يا عزيزي كيف عرف أن الصليب هو المجد اللائق به.
إن كان إشعياء لم يخجل من نشره إلى أجزاء، فهل يخجل المسيح من موته عن العالم؟!
“الآن يتمجد ابن الإنسان” (يو 3:13)، لا لأنه لم يكن ممجدًا من قبل، بل كان ممجدًا بالمجد الذي له من قبل كون العالم (يو 5:17). كان ممجدًا على الدوام إذ هو اللَّه، والآن يتمجد حاملاً صبره.
إنه لم يسلم حياته رغمًا عنه، ولا قبل الموت قسرًا بل بموافقته. اسمع ماذا يقول؟ “لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا” (يو 18:10). إنني أسلمها لأعدائي باختياري، وإلا ما كان يتم ذلك.
لقد جاء بغرض وضعه هو بنفسه أن يتألم، مسرورًا بعمله النبيل، مبتسمًا بتاجه، معتزًا بخلاص البشري، دون خجلٍ من الصليب إذ هو لخلاص هذا العالم. لم يكن إنسانًا عاديًا بل اللَّه المتأنس.
القديس كيرلس الأورشليمي

“الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الارض وتمت،
فهي تبقى وحدها،
ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ”. (24)

مهما بلغ العالم لا يستطيع أن يدرك سرّ حصاد ثمر كثير من حبة حنطة واحدة، ولا كيف يتحول الحصاد إلى لحم ودم وعظام في أجسام البشر والحيوانات. هكذا يبقى سرّ موت المسيح وقيامته كأساس إقامة الكنيسة المجيدة فوق كل فكرٍ بشري.
لقد جاء اليونانيون ليروه، فلماذا قدم لهم مثل الحنطة؟ لقد أراد أن يؤكد لهم أنهم لا يقدرون أن يروه كما هو ما لم يعبر هو إليهم بموته وقيامته، فيدخل إلى عالمهم ويحملهم فيه. هو الطريق الذي يسحب قلوبهم إليه، يعبر إليهم، فيتحدثوا به ويعبروا معه إلى حضن الآب كثمرٍ متزايد. يصيرون “من لحمه وعظامه” (أف ٥: ٣٠).

إن قلت وما معني قول السيد المسيح: “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمرٍ كثيرٍ”؟ أجبتك: إنه يتكلم عن صليبه، كأن السيد المسيح يقول: إن من شأن هذا الحادث أن يتحقق في الحنطة، إنها إذا ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ، فإن كان هذا يحدث في البذور، فأليق وأوجب أن يكون فيّ، إلا أن تلاميذه لم يعرفوا الأقوال التي قالها.
الحياة الحاضرة حلوة ومملوءة باللذة، لكن ليس بالنسبة للكل، بل للذين هم متمسكون بها. لذلك إذا ما تطلع أحد إلى السماء، ويرى الأمور الجميلة هناك، للحال يحتقر هذه الحياة ولا يبالي بها. وذلك كما أن جمال أي شيء يكون موضوع إعجاب من لا يرى ما هو أجمل منه، لكن إذ يظهر ما هو أفضل منه يُحتقر الأول. فإن اخترنا أن نتطلع إلى ذلك الجمال ونلاحظ سمو المملكة هناك، فإننا في الحال نتحرر من القيود الحالية، فإن التعاطف مع الأمور الزمنية هو نوع من القيود…
ماذا يقول: “إن لم تحتملوا موتي ببسالة، بل إن لم تموتوا، لا تقتنوا شيئًا”.
القديس يوحنا الذهبي الفم

صارت الحنطة في أرض يهوذا نادرة، لأن حبة القمح قد ماتت هناك، وفي بيت الأرملة الوثنية فاض الزيت كجداول.
القديس جيروم

“من يحب نفسه يهلكها،
ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”. (25)

من يحب نفسه أكثر من حبه للسيد لمسيح، أو من يحب حياته الزمنية على حساب مجده الأبدي يهلك نفسه. أما من يهلك نفسه كحبة الحنطة، فيشارك السيد المسيح آلامه وموته، ممجدًا مخلصه، ينعم بالحياة الأبدية.
موت السيد المسيح غيَّر مفاهيم الموت ومعاييره كما غيَّر نظرتنا إلى الحياة، فأصبح الموت ضرورة لازمة للتمتع بالحياة المثمرة الكاملة. حيث لا موت فلا حياة صادقة. وحين يدفن الإنسان الأنا، يعلن المسيح “الحياة” ذاته فيه. وحينما يطلب الإنسان “ذاته” لا يجد المسيح له مكانًا فيه، فيفقد الإنسان مصدر حياته.
من يموت عن حياته القديمة ويُصلب عن العالم، تتجلى حياته الجديدة التي في المسيح يسوع ليختبر عربون الحياة العتيدة.

إن سألت: وكيف من يحب نفسه يهلكها؟! أجبتك: من يتمم شهواتها الشنيعة، من يسمح لها خارج الواجب، ذاك هو الذي يحبها فيهلكها، ولهذا السبب توصينا الحكمة فتقول: “لا تكن تابعًا لشهواتك، بل عاصيًا أهواءك. فإنك إن أبحت لنفسك الرضى بالشهوة جعلتك شماتة لاعدائك” (يشوع بن سيراخ 18: 30، 31)، لأن الشهوات تحجز النفس عن الطريق المؤدية إلى الفضيلة.

وقوله “ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”؛ إن قلت: وما معنى “ومن يبغض نفسه”؟ أجبتك: من لا يخضع لها، ولا يطعها متى أمرته بفعل الأفعال الضارة.
لم يقل: “من لا يخضع لها”، لكنه قال: “ومن يبغض نفسه”، لأنه كما أننا لا نحتمل أن نسمع صوت الذين نبغضهم، ولا أن نبصر وجوههم، كذلك يجب علينا أن نرجع عن أنفسنا بشدةٍ إذا أمرتنا بمخالفة وصايا الله.
القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كنت تحب، فلتكن مستعدًا أن تُفقد. إن أردت أن تقتني الحياة في المسيح، لا تخف من الموت من أجل المسيح.

بالتأكيد إنه إعلان عميق وغريب عن قياس حب الإنسان لحياته الذي يقوده إلى تدميرها، وبغضه لها الذي يضمن حفظها! إن كنت تحب حياتك بطريقة خاطئة بالحقيقة أنت تبغضها، أما إن كنت تحبها بطريقة صالحة فإنك فيما أنت تبغضها بالحق تحبها. يا لسعادة الذين يبغضون حياتهم فيحفظونها، فلا يسبب حبهم دمارًا لها.
القديس أغسطينوس

“إن كان أحد يخدمني فليتبعني،
وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي،
وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب”. (26)

بعد أن قدم السيد مفهومًا جديدًا للموت وللحياة من خلال صلبه وموته وقيامته، الآن يقدم لنا مفهومًا جديدًا للخدمة. فالخدمة ليست غيرة مجردة للعمل لحساب الآخرين، إنما هي اتحاد مع الخادم الحقيقي الفريد، يسوع المسيح، ومرافقته وتبعيته في طريق جثسيماني.
إن أراد أحد أن يخدم السيد المسيح ويكرز به، يلزمه أولاً أن يتبعه، أي يتتلمذ له ويتعلم منه ويطيعه ويسلك معه طريق الصلب والدفن، ليقوم معه حاملاً ثمارًا كثيرة. ليترك الخادم ملذات العالم، متطلعًا إلى السعادة الأبدية. ليتحد مع الأبدي، فينال مجدًا أبديًا يهبه له الآب القدوس نفسه.
بهذا المفهوم الجديد يجد الخادم مكافأته في الخدمة، حيث يجد نفسه في رفقة مسيحه، يشاركه آلامه كما مجده. حقًا إن من يتمتع بالشركة مع السيد المسيح ويكرس حياته للشهادة له ينال كرامة في عيني الله أكثر مما يظن في نفسه أو في عيني الناس. “والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور” (دا ١٢: ٣). وكما يقول السيد المسيح نفسه: “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا” (يو ١٧: ٢٤). في طريق الخدمة يجد الخادم فرصته الفريدة للحديث مع الخادم الحقيقي، يسوع المسيح. في الطريق يعلن المسيح عن نفسه وعن أبيه، فيتمتع الخادم بالمعرفة الإلهية.
من يحفظ كرم الله ويعمل فيه يكرمه الله نفسه، “حافظ سيده يكرمه” (أم ٢٧: ١٨).
هكذا حوَّل السيد المسيح أنظار اليونانيين القادمين لرؤيته إلى العمل لحساب ملكوته، إذ كشف لهم عن المجد المُعد للذين يخدمون في كرمه. يحول السيد الاشتياقات الجميلة لرؤيته إلى عملٍ جادٍ حتى يروه في مجده الأبدي وهم متمتعون معه بالشركة في المجد.

إنه يتحدث بخصوص الموت ومتطلبات من يتبعه وذلك بالأعمال، فيحتاج من يخدم أن يتبع على الدوام من يُخدم… “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل وصليبه ويتبعني” (مت 16: 24) أي يقول: “أن يكون دومًا مستعدًا للمخاطر والموت والرحيل من هذا الموضع”. بعد أن أخبر عن المتاعب قدم المكافأة. من أي نوع؟ ” التبعية له، والوجود أينما وُجد هو، مظهرًا أن القيامة تتبع الموت”

ولكن أين المسيح؟ في السماوات. لذلك ليتنا حتى قبل القيامة ننقل نفوسنا وعقولنا إلى هناك. لماذا يقول ذاك الذي يخدم المسيح “يكرم الآب” ، ولم يقل: “أنا أكرمه”؟ وذلك لأنهم لم يكونوا بعد قد صار لهم التفكير السليم بخصوصه، لكن كان لهم فكر عظيم من جهة الآب.
القديس يوحنا الذهبي الفم

أية كرامة يمكن أن تكون أعظم من أن يكون الابن المتبني مع الابن الوحيد؛ حقًا ليس بأن يرتفع إلى الألوهة بل شريكًا في الأبدية؟!
لقد أراد منا أن نفهم كمن يقول: من لا يتبعني لا يخدمني. لذلك فإن خدام يسوع المسيح هم الذين لا يطلبون ما لأنفسهم، بل ما هو ليسوع المسيح (في ٢: ٢١). لأن “فليتبعني” معناها: ليسلك في طرقي، وليس في طريقه هو. وكما هو مكتوب في موضع آخر: “من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا” (١ يو ٢: ٩).
كل واحدٍ هو خادم للمسيح بنفس الطريقة كما أن المسيح هو خادم. ومن يخدم المسيح بهذه الطريقة سيكرمه الآب بالكرامة الرائعة أن يكون مع ابنه، فلا يُعوزه شيء لسعادته إلى الأبد.
حينما تسمعون أيها الاخوة: “حيث أكون أنا هناك يكون خادمي”، لا تظنوا فقط في الأساقفة والكهنة الصالحين. بل لتخدموا أنتم أيضًا بطريقتكم المسيح، بحياتكم الصالحة، وتقديم العطاء، والكرازة باسمه وتعاليمه قدر المستطاع…
القديس أغسطينوس

. تمجيد السماء ليسوع

“الآن نفسي قد اضطربت،
وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة،
ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة”. (27)

إذ تحدث عن ضرورة آلامه وموته، كابن الإنسان رفع قلبه للآب وهو يقول: “الآن نفسي قد اضطربت” (٢٧). حقًا إنها كلمات غريبة ينطق بها يسوع المسيح، خاصة وأن التلاميذ رأوا أناسًا من الأمم يطلبون أن يروه، وسمعوه يقول: “لقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان”. لكنه إذ صار إنسانًا حقيقيًا كان لابد لنفسه أن تضطرب أمام سحابة الآلام التي تحيط به. ولعله رأى خلال هذه السحابة خطايا البشرية كلها قد ظهرت أمامه لكي يحملها على كتفيه، مقدمًا نفسه ذبيحة عن خطايانا.
بينما يقول لتلاميذه: “لا تضطرب قلوبكم” (يو ١٤: ١). يقول: “الآن نفسي قد اضطربت” (27). اضطراب نفسه ينزع اضطراب نفوسنا؛ آلامه هي سرّ راحتنا الأبدية. لقد انطلق السيد المسيح بإرادته ومسرته ليحمل خطايانا، وكان لزامًا وسط مسرته أن تضطرب نفسه بسبب هول خطايانا. لقد حمل ضعفاتنا فيه ليهبنا روح القوة.
اضطراب نفسه هو حزن مقدس يولد فرحًا في قلوب البشرية المؤمنة، ومسرة للآب من أجل مصالحته مع البشرية، وتهليلاً للسمائيين. اضطربت نفسه وهو يدخل طريق الصليب الضيق حتى نشاركه آلامه وندخل معه إلى أمجاده السماوية. آلامه هي مجرد ساعة قد حلت وستعبر، لتحتل الأبدية التي لا يحدها زمن ما. يرى البعض أن الفعل هنا في اليونانية يحمل معنى الاضطراب أكثر منه الخوف.
جاء حديثه مع الآب يكشف عن مسرته بالصليب، إذ يقول: “لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة” (٢٧)، ولكي يحملنا إلى حياة التسليم والتواضع يصرخ: “أيها الآب نجني من هذه الساعة” (٢٧).

هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانية التي لا تشاء أن تموت، وتتمسك بهذه الحياة الحاضرة، موضحًا بذلك أنه لم يكن خارج الآلام الإنسانية، لأنه كما أن الجوع ليس زللاً ولا النوم، فكذلك ولا الارتياح إلى الحياة الحاضرة زلل، وللسيد المسيح جسد نقي من الخطايا، وليس جسد متخلص من الضرورات الطبيعية، لذا اقتضت الحكمة أن يكون له جسد.
القديس يوحنا الذهبي الفم

لقد أخذ ضعف الإنسان لكي يعلمه عندما يكون في حزنٍ أو اضطرابٍ، فيقول: “يا أبتاه ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت ٢٦: ٣٩). فإنه هكذا يتحول الإنسان مما هو بشري إلى ما هو إلهي حينما يفضل إرادة الله عن إرادته هو.
القديس أغسطينوس

“أيها الآب مجد اسمك. جاء صوت من السماء:
مجدت وأمجد أيضًا”. (28)

إذ يخضع الابن المتجسد لإرادة الآب ويقدم نفسه ذبيحة، فإن الإعلان عن قبولها بالقيامة هو مجد لاسم الآب أيضًا. هنا يربط السيد المسيح بين الموت والمجد (القيامة)، فإن كانت نفسه قد اضطربت فهو لا يطلب إعفاءه من الموت، بل عبوره إلى القيامة التي تحمل مجدًا متبادلاً، مجد الابن ومجد الآب.
يقصد باسم الله هنا الله نفسه وأيضًا سماته، إذ يتمجد الآب نفسه، كما تتمجد حكمته ومراحمه وحبه وقداسته وبره الخ.، هذا كله يتحقق بعمل السيد المسيح الخلاصي.
جاء صوت الآب معلنًا: “مجدت، وأمجد أيضًا” (٢٨). كأنه يقول: “لقد حققت خطتي بك. أرسلتك كفارة عن خطايا العالم، وتممت عدلي الذي لن يفارق حبي ومراحمي. أتممت عملي. هكذا أنت تقدم دمك على الصليب، وأنا أقبله ذبيحة حب. موتك وقيامتك يمجداني ويتممان رسالتي نحو محبوبي، الإنسان. لقد مجدتك وسأمجدك في لحظات موتك وقيامتك”.
لقد تمجد السيد المسيح بتعاليمه وأعمال محبته من عجائب وآيات، كما تمجد في التجربة في البرية حيث جاءت الملائكة تخدمه، وتمجد في عماده حيث سُمع صوت الآب الذي يشهد له (مر ٩: ٧) والروح القدس الذي ظهر على شكل حمامة، وتمجد في تجليه حيث تكلم معه موسى وإيليا عن الخروج المزمع أن يكمله في أورشليم (لو ٩: ٣١). كما يتمجد بالأحداث المذهلة التي تتم أثناء القبض عليه ومحاكمته وصلبه، ويتمجد بقيامته، وبصعوده إلى السماء وبإرسال الروح القدس على تلاميذه، ونجاح الكرازة بهم، وانتشار إنجيله في العالم كله.

قول السيد المسيح أيها الآب مجد اسمك! أبان بذلك أنه من أجل الحق يموت إذ سمى فعله مجدًا لله.
وقول الآب: “مجدت، وأمجد أيضًا”؛ فإن سألت وأين مجده؟ أجبتك: قد مجده في الأزمان الكائنة قبل هذه، وسيمجده بعد الصليب.
القديس يوحنا الذهبي الفم

مع أنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا نعمة الحق، إلا أنهم اعترفوا لا إراديًا، وفي جهلهم نطقوا بأسرارٍ، فحدثت شهادة عظيمة من الآب للابن. وقد جاء في سفر أيوب أيضًا: “ومن يعرف عندما يضع قوة رعده؟” (أي14:26 LXX) .
القديس أمبروسيوس

“وأمجد أيضًا” (٢٨)، عندما يقوم من الأموات، عندما لا يكون للموت أي سلطان بعد عليه، وعندما يرتفع فوق السماوات بكونه الله، ويكون مجده فوق كل الأرض.
القديس أغسطينوس

“فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال:
قد حدث رعد. آخرون قالوا:
قد كلمه ملاك”. (29)

يرى البعض أن الصوت كان باللغة التي يفهمها اليهود والتي لم يفهمها اليونانيون، لذلك قال الأولون إن ملاكًا كلمه، بينما ظن الآخرون أن رعدًا قد حدث. فقد شُبه صوت أحد المخلوقات الحية بالرعد (رؤ ٦: ١).

لأن سألت: ومن أين حلّ بهم هذا الظن؟ أجبتك: لعل الصوت لم يكن واضح الدلالة، لكنه مرّ عليهم بسرعة، إذ كان بعضهم جسدانيين متوانين، والبعض الآخر منهم عرف أن الصوت كان واضحًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم

“أجاب يسوع وقال:
ليس من أجلي صار هذا الصوت،
بل من أجلكم”. (30)

لم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى صوتٍ من السماء ليشجعه، إنما جاء هذا الصوت من أجل الحاضرين لكي يؤمنوا أن الآب أرسله، لكي لا يتعثر فيه التلاميذ أثناء آلامه، بل يجدوا فيها راحتهم، كما يجد هو فيها مسرته.
لعل هذا الصوت كان من أجل اليونانيين الذين أرادوا أن يروه. فإنهم لم يشاهدوا آياته وعجائبه، وإنما سمعوا عنها، لذلك جاء الصوت من السماء يشهد له أمامهم.
ما هي وصية الآب للابن؟ تقديم الحياة الأبدية للبشرية، الأمر الذي لا يمكن لخليقةٍ ما في السماء أو على الأرض أن تقدمه.

كأنه يقول: لم يصر هذا الصوت لأعرف أنا منه شيئًا كنت جاهلاً به، لأنني أعرف خفيات أبي كلها، لكنه صار لأجلكم. وقد اقتادهم السيد المسيح إلى أن يسألوه ما هو الذي قيل، إلا أنهم كانوا مندهشين ولم يخبروه.
القديس يوحنا الذهبي الفم