عَ مدار الساعة


نور العالم (يوحنا ٨ : ١٢-٢٠)



تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٨ : ١٢-٢٠

12 ثُمَّ كَلّمَهُمْ يَسوع قائِلاً: “أَنَا نُورُ العَالَمِ، مَنْ يَتْبَعَني فَلا يَمْشي فِي الظَّلامِ، بَلْ يَكونُ لَهُ نُورُ الحَياةِ”.
13 فَقَالَ لَهُ الفَرِّيسِيُّونَ أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ فَلَيْسَتْ شَهَادَتُكَ حَقّاً.
14 أَجَابَ يَسوعَ وَقَالَ لَهُمْ: “إنِّي وَإنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفسي فَشَهادَتي حَقٌّ، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ جِئْتُ وَإِلى أَيْنَ أذْهَبُ، وَأَمّا أَنْتُمْ فَلا تَعْلَمونَ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَلا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ.
15 أَنْتُمْ إِنَّما تَدِينُونَ بِحَسَبِ الجَسَدِ، وَأَنا لا أَدينُ أَحَداً.
16 وَإِنْ أَنَا دِنْتُ فَدَيْنُونَتي حَقٌّ، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدي بَلْ أَنا وَالآبُ الَّذي أَرْسَلَني،
17 وَقَدْ كُتِبَ فِي نَامُوسِكُمْ أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ.
18 أَنَا أَشْهَدُ لِنَفْسي وَأَبي الَّذي أَرْسَلَني يَشْهَدُ لِي”.
19 قَالوا لَهُ: أَيْنَ أَبوكَ. قالَ يَسوعَ: “إنَّكُمْ لا تَعْرِفونَني أَنَا وَلا أَبي، وَلَوْ كُنْتُمْ تَعْرِفونَني لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً”.
20 هَذَا الكَلامُ قَالَهُ يَسوعَ فِي الخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ في الهَيكَلِ، وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لِأنَّ ساعَتَهُ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ قَدْ أَتَتْ.


“ثم كلمهم يسوع أيضًا قائلاَ:
أنا هو نور العالم،
من يتبعني فلا يمشي في الظلمة،
بل يكون له نور الحياة”. (12)

إذ انسحب المشتكون الذين أرادوا أن يسببوا اضطرابًا وبلبلة وسط الجمع ثم انسحبت المرأة أكمل السيد المسيح تعليمه للشعب، وغالبًا ما لخص حديثه بالعبارة: “أنا هو نور العالم…” (١٢). بدونه يبقى الكل في الظلمة والبؤس والموت. لقد أدرك الفريسيون أن ما يعنيه بهذا أنه المسيا المنتظر، إذ رمز إليه الأنبياء بالنور (إش ٦٠: ١؛ ٤٩: ٧؛ ٩: ٩). جاء في Bamidbar Rabba: “قال الإسرائيليون لله يا رب المسكونة، أنت أمرت أن توقد أسرجة لك، أنت هو نور العالم. وبك يسكن النور”.

“لا يسلك في الظلمة”، أي يخلص من الجهل والخيانة والخطية.
يرى البعض أن الحديث هنا يشير إلى عادة كان يمارسها اليهود حيث يضيفون إلى عيد المظال يومًا تاسعًا فيه يُخرجون كل الكتب المقدسة من الصناديق المودعة فيها ويضعون مكانها مشاعل منيرة إشارة إلى ما جاء في أم ٦: ٢٣ “لأن الوصية مصباح، والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة”.
يرى كثير من الدارسين أن من أهم الذكريات لعيد المظال هو سكب الماء بيد رئيس الكهنة كما رأينا في الأصحاح السابق، وممارسة طقس “النور” تذكارًا لعمود النور الذي كان يتقدم الشعب في البرية ليقودهم وسط ظلمة الليل (خر ١٣: ٢١) حتى يعبروا إلى كنعان حسب الوعد الإلهي.
كانوا يستخدمون في هذا العيد شمعدانًا ضخمًا ذا فروع. كانت تستخدم أربعة أسرجة تُملأ بالزيت، كانوا يصعدون إليها بواسطة سلم. وقد جاء في التلمود أن ارتفاعها خمسون ذراعًا. وكان النور بهيًا جدًا، فجاء في المشناة Mishah: “لا توجد ساحة دار في أورشليم لا ينعكس عليها النور”. هذا المنظر البرَّاق كان نادرًا جدًا في المدن القديمة.
يرى بعض الدارسين أن هذا الشمعدان يُطفأ بعد العيد، وقد وقف السيد هناك حيث انطفأ النور الذي أبهر القادمين للعيد، وحلت الظلمة عوض النور، ليعلن عن الحاجة إلى النور الإلهي، إلى المسيا عبد الرب بكونه نورًا جاء للأمم.
جاء في إشعياء النبي: “أنا الرب قد دعوتك للبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة” (إش ٤٢: ٦-٧). “قد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض” (إش ٤٩: ٦). “حقي أثبته نورًا للشعوب” (إش ٥١: ٤).
إذ فسَّر الربيون قول المرتل: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف” (مز ٢٧: ١)، بأن الناموس هو النور، أعلن السيد أنه هو الكلمة الإلهي، نور العالم، الذي يضيء لكل إنسانٍ آت إلى العالم.
وإذ قالوا أن الهيكل هو “النور” سألهم السيد أن ينقضوا الهيكل ليبنيه في ثلاثة أيام (يو ٢: ٢٠)، معلنًا عن هيكل جسده القائم من الأموات، بكونه الهيكل الذي يضم الخليقة الجديدة المستنيرة بنور قيامته.
وعندما تحدث الإنجيلي يوحنا عن الهيكل السماوي قال: “الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها… لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها” (رؤ ٢١: ٢٣، ٢٤).
يشبه السيد المسيح حياة الإنسان برحلة وسط عالمٍ مظلمٍ، يحتاج إلى شمس البرّ، تشرق عليه وترافقه فلا يتعثر في الطريق. يليق بالمؤمن أن يتبعه ويسترشد به في كل أمور حياته. إنه النور الحقيقي الذي نجد سلامنا في التطلع إليه ومصاحبته والإيمان به والسير فيه، ليكون سراجًا ليس لعيوننا فقط بل ولأرجلنا، سراج لكل كياننا. يقودنا في هذا العالم ويرفعنا بروحه القدوس إلى السماء فنتمتع بعربون الأبدية.

أوضح أنه ليس هو أحد الأنبياء، لكنه سيد العالم، وليس هو نور الجليل ولا فلسطين ولا اليهودية، بل “نور العالم”.
القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كنا أساقفة الله والمسيح لا أجد أن أحدًا ما يُلزمنا أن نتبعه أكثر من الله والمسيح، إذ هو نفسه في إنجيله

يؤكد قائلاً: “أنا نور العالم، من يتبعني لا يسلك في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (١٢).
الشهيد كبريانوس

أظن ما يقوله الرب: “أنا هو نور العالم” [12] واضح لمن لهم أعين يشاركون بها هذا النور، أما الذين ليس لهم أعين سوى الأعين التي في الجسد وحدها فيندهشون لقول الرب يسوع المسيح: “أنا هو نور العالم”.

يوجد نور هو خالق لنور الشمس. لنحب هذا النور، ونشتاق أن ندركه، ونعطش إليه، حتى يقودنا ويبلغ بنا إليه، وهكذا نعيش فيه فلن نموت…

الذي يشرق عليك لكي تنظره، هو بعينه (الينبوع) الذي يفيض عليك فترتوي…
حتى عندما لا يُعلن ربنا يسوع المسيح للكل خلال سحابة جسده، لكنه هو كما هو ممسك بكل الأشياء بقوة حكمته…
إلهك حال بكامله في كل موضع، إن كنت لا تتركه لن يتركك”.
القديس أغسطينوس

لنتبعه الآن فننال فيما بعد. نتبعه الآن بالإيمان فننال فيما بعد بالعيان. يقول الرسول: “فإذًا نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب، لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” (2 كو 5: 6-7).

متى نسلك بالعيان؟ عندما يكون لنا نور الحياة، عندما نبلغ تلك الرؤيا، عندما يعبر الليل.
عن هذا اليوم حيث نقوم قيل: “في الصباح اقترب إليك وأتأملك” (مز 5: 4). ماذا يعني “في الصباح”؟ عندما يعبر ليل هذا العالم، عندما تنتهي مخاوف التجارب، عندما ينهزم ذاك الأسد الذي يجول في الليل يطلب من يفترسه.
“في الصباح أقف أمامك وأتأمل”. الآن ماذا تظنّون أيها الاخوة ما هو واجبنا نحو الحياة الحاضرة، إلا ما يقوله المزمور مرة أخرى: “أعوّم كل ليلة سريري بدموعي…” (مز 6: 6)
يقول كل ليلة أبكي، والتهب شوقًا نحو النور. فيتطلع الرب إلى رغبتي، إذ يقول مزمور آخر: “أمامك كل شوقي وتنهدي ليس بمستورٍ عنك” (مز 38: 10).
هل تشتاق إلى الذهب؟ لا يمكنك أن لا تُرى، لأنك إذ تطلب الذهب تُعلن ذلك للبشر…
أتشتاق إلى اللَّه”؟ من يرى ذلك إلا اللَّه؟ ممن تطلب اللَّه… إلا من اللَّه؟ فإنه يُطلب من ذاته الذي يعد بإعطاء ذاته.
لتبسط النفس شوقها، وبحضنها المتسع تطلب وتدرك ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لا يخطر على قلب إنسان (1 كو 2: 9).
يمكننا أن نشتهي ذلك ونتوق إليه ونركض وراءه، لكننا لا نقدر أن نستحق إدراكه ونعلنه بكلمات.
القديس أغسطينوس

“فقال له الفريسيون:
أنت تشهد لنفسك،
شهادتك ليست حقا”. (13)

إذ انسحب الفريسيون المشتكون على المرأة الزانية بقي فريسيون آخرون لمقاومته من جهة ما ينطق به من تعاليم. كان الفريسيون يعرفون أن “النور” هو لقب المسيا الذي ترقبه رجال العهد القديم كما جاء في دانيال ٢: ٢٢.
يغالط الفريسيون أنفسهم، فإننا نجد في العهد القديم بعض الأنبياء شهدوا لأنفسهم، وأكدوا أنهم يحملون إعلانًا إلهيًا أو نبوة من السماء. بل وجاء الفريسيون يسألون يوحنا المعمدان: ماذا تقول عن نفسك؟ لو أنهم في إخلاصٍ تطلعوا إلى تعاليمه وآياته التي صنعها لأدركوا أن السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى شهادة خارجية.

“أجاب يسوع وقال لهم:
وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق،
لأني أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب،
وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي، ولا إلى أين أذهب”. (14)

إذ يعلم السيد المسيح أنه ابن الله لم يهاجمهم ولا هاجم شهادتهم الكاذبة، إنما كشف عن شخصه وعن علاقته بالآب ورسالته بتجسده. وهذا كله فيه كل الكفاية للشهادة له.
أكد السيد المسيح ثلاث حقائق:

أولاً: يقينه من جهة معرفته بنفسه، وأن الأمر ليس فيه أدنى شك ولا يحتاج إلى حوارٍ. يعرف نفسه قبل مجيئه وإعلانه عن نفسه للعالم. فقد جاء من عند الآب وإليه يذهب (يو ١٦: ٢٨)، جاء من المجد ويعود إليه (يو ١٧: ٥).

ثانيًا: أنهم ليسوا أكفاء ليكونوا قضاة عليه وعلى تعاليمه، لأنهم جهلاء ويريدون أن يبقوا في ظلمة الجهل. إنهم يدينون في حسب أهوائهم الجسدية (١٥)، ليسوا أهلاً للحكم فيما هو إلهي وروحي. ومع استحقاقه أن يدين لأنه الديان العادل لكنه يؤجل الدينونة إلى مجيئه الثاني.

ثالثًا: أن شهادته لنفسه تثبتها شهادة الآب له (١٨).

للرب يسوع المسيح شهود هم الأنبياء الذين أُرسلوا قبله، المذيعون (الحجَّاب) الذين يسبقون القاضي. له أيضًا يوحنا المعمدان شاهد له، لكن هو نفسه يحمل أعظم شهادة لنفسه… إنه النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسانٍ آتٍ إلى العالم.

“لأني أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب” من يتكلم معكم بشخصه لديه ما لم يتركه، ومع ذلك قد جاء. لأنه بمجيئه لم يترك هناك (السماء). ولن يهجرنا عندما يعود إلى هناك.

لماذا تتعجبون؟ إنه اللَّه، فإن ما يحدث لا يقدر أن يفعله إنسان، لن يحدث حتى مع الشمس، فإنها إذ تذهب إلى الغرب تترك الشرق حتى تعود إليه عندما تشرق… أما ربنا يسوع المسيح فإنه يأتي وفي نفس الوقت هو هناك، ويعود وهو لا يزال هنا. اسمع الإنجيلي نفسه يقول… “اللَّه لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر”. لم يقل أنه كان في حضن الآب، كما لو كان بمجيئه قد ترك حضن الآب.
كان يتحدث هنا، ومع ذلك يعلن أنه كان موجودًا هناك.
وعندما اقترب من الرحيل من هنا ماذا قال: “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء العالم” (مت28: 20).
القديس أغسطينوس

من ينكر أن الابن من الآب لا يعرف الآب الذي منه الابن، وأيضًا لا يعرف الابن لأنه لا يعرف الآب.
القديس أمبروسيوس

“أنتم حسب الجسد تدينون،
أما أنا فلست أدين أحدًا”. (15)

إذ صار الكلمة جسدًا دانه الفريسيون حسب الجسد، إذ ظنوه إنسانًا مجردًا، ولم يدركوا حقيقته أنه كلمة الله وحكمة الله وقوة الله. أعماله تشهد بذلك، إنه المسيا الموعود به. لقد خدعوا أنفسهم بأنفسهم، لأنهم حاولوا قياس الإلهيات بمقاييس بشرية، والروحيات بمقايسس جسدية.
تطلعوا إلى الناموس والوعود الإلهية بأعين جسدية، فتحول الكتاب إلى دراسات حرفية، وتعلق بالخلاص الزمني والكرامة الباطلة والحرف القاتل، فتعثروا في معرفة المسيا كما في معرفة الآب الذي أرسله.

أن يعيش أحد حسب الجسد هو أن يحيا بطريقة شريرة، هكذا من يدين حسب الجسد يدين ظلمًا.

“لا أدين أحدًا”، فإنني إن كنت أود أن أدين تكونون أنتم مًدانين… لكن وقت الدينونة لم يحل بعد. إنه يلمح بأنه ليس وحده يدينهم، بل والآب أيضًا يدينهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم

نحن نقول أنه سيأتي ديّانًا للأحياء والأموات بينما يقول عن نفسه: “أما أنا فلست أدين أحدًا” (15). هذا السؤال يمكن أن يُحل بطريقتين. إما أننا نفهم هذا التعبير “لست أدين أحدًا” بمعنى لست أدين أحدًا الآن، وذلك حسب قوله في موضع: “لم آتِ لأدين العالم بل لأخلص العالم”، غير منكرٍ هنا أنه يدين، لكنه يرجئها. أو لأنه إذ قال: “أنتم حسب الجسد تدينون” (15) أضاف: “أما أنا فلست أدين أحدًا” بذات الطريقة، أي حسب الجسد.
القديس أغسطينوس

“وإن كنت أنا أدين، فدينونتي حق،
لأني لست وحدي،
بل أنا والآب الذي أرسلني”. (16)

أشار السيد المسيح هنا بالتلميح أنه ليس هو وحده يدينهم، لكن أباه أيضًا معه يوجب الحكم عليهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم

كأنه يقول: “دينونتي حق”، لأنني ابن اللَّه. كيف تبرهن أنك ابن اللَّه”؟ “لأني لست وحدي، بل أنا والآب الذي أرسلني”… يوجد جوهر واحد، لاهوت، شركة أزلية، مساواة كاملة عدم اختلاف… لكن الآب آب، والابن ابن… الابن أقنوم آخر غير الآب، هذا تقوله بالحق، أما أنه مختلف عنه في الطبيعة فهذا ليس حقًا… أنا لست الابن بطريقة بها لا أكون معه، ولا هو بطريقة بها لا يكون معي. لقد أخذت شكل العبد، لكنني لم أفقد شكل اللَّه.

ليتنا أيها الاخوة نختار لأنفسنا اللَّه ديّانًا لنا، اللَّه شاهد لنا ضد ألسنة الناس، ضد شبهات البشرية. فإن ذاك الذي هو الديّان لا يستنكف من أن يكون شاهدًا، ولا يزداد كرامة حين يكون ديّانًا، حيث أن الشاهد هو نفسه سيكون ديّانًا.
القديس أغسطينوس

“وأيضًا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق”. (17)
وإن كان يمكن أن يتفق اثنان أو أكثر على الشهادة الزور (١ مل ٢١: ١٠)، لكنها تُقبل كشهادة حق ما دام لا يثبت ضدها (تث ١٧: ٦؛ ٩: ١٥؛ عد ٣٥: ٣٠).

“أنا هو الشاهد لنفسي،
ويشهد لي الآب الذي أرسلني”. (18)

كما اشترك الآب والابن في الخلقة، هكذا يعملان معًا في الخلاص. ما يفعله الابن لا يعمله بمفرده بل مع أبيه الذي هو أيضًا يشهد له.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الفريسيين عرفوا أنه المسيح لكنهم بسبب حسدهم تحدثوا معه كمن لم يعرفوه، وأنهم جاءوا ليجربوه فحسبهم ليسوا أهلاً أن يجيب عليهم. لذلك لم يقدم لهم نبوات العهد القديم والدلائل على شخصه، إنما أعلن أنه هو الشاهد لنفسه، فآياته وتعاليمه وصليبه الذي حان وقته، هذه كلها شهادة حية له. ليس بمحتاجٍ إلى شهادة آخر، وإنما يشهد له الآب بكونه واحدًا معه.

ألا ترون أنه قال هذا ليظهر أنه من ذات الجوهر ولا يحتاج إلى شاهد آخر، وأنه ليس بأقل من الآب؟ لاحظوا على الأقل استقلاله (تمايزه)!.

لو أنه (المسيح) في كيانٍ أقل (من الآب) لما قال هذا! الآن لكي لا تظنوا أن الآب قد ضُم للشهادة ليجعل الرقم اثنين (شاهدين) لاحظوا أن سلطانه ليس مختلفًا عما للآب. يقدم الإنسان شهادة عندما يثق في نفسه وليس عندما يحتاج هو نفسه إلى شهادة، وهكذا أيضًا فيما يخص الغير. أما فيما يخصه هو نفسه حين يحتاج إلى شهادة آخر، فإنه لا يكون هو موضع ثقة. أما الحال هنا فمختلف تمامًا، فإنه إذ يشهد لنفسه وأنه يوجد آخر يشهد له يؤكد أنه موضع ثقة، ويعلن بكل الطرق استقلاله (دون انفصاله)…

يضع نفسه أولاً: “أنا هو الشاهد لنفسي” (١٨). واضح أنه يظهر هنا مساواته في الكرامة، وأنهم لن ينتفعوا شيئًا بقولهم أنهم عرفوا الآب بينما هم لم يعرفوا (المسيح).
يقول أن علة هذا أنهم لا يرغبون في معرفته. لهذا يقول لهم أنه من المستحيل أن يعرفوا الآب بدون أن يعرفوه هو، إذ يقوم هو بجذبهم إلى معرفته. لذلك فبتركهم إياه حتى وإن بحثوا عن معرفة الآب يقول: “لا تقدرون أن تعرفوا الآب بدوني”. فمن يجدف على الابن، لا يجدف على الابن وحده، بل وعلى من ولده.
القديس يوحنا الذهبي الفم

“فقالوا له:
أين هو أبوك؟
أجاب يسوع:
لستم تعرفونني أنا ولا أبي،
لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا”. (19)

اتهمهم السيد المسيح بجهلهم لمعرفة الله. حقًا لقد عُرف الله في اليهودية (مز ٦٧: ١)، لهم بعض المعرفة لله كخالقٍ للعالم، لكن أعينهم أظلمت، فلم تستطع أن ترى نور مجده المشرق في وجه يسوع المسيح. أما علة جهلهم للآب فهو جهلهم لشخص المسيح الذي يعلن عن معرفة الآب.

ظن بعض الهراطقة أن في قول السيد المسيح “ولا أبي” للفريسيين إشارة إلى أن أباه غير الله الخالق الذي يعرفه الفريسيون خلال قراءتهم للعهد القديم. لكن عدم معرفة الفريسيين هنا تنبع عن شرهم. لا يعرف الأشرار الله حتى إن آمنوا به كخالقٍ، وتحدثوا عنه بكونه الله دون الالتصاق به والسلوك حسب مسرته.

إن كان أحد ما قادرًا أن يقدم حسابًا كاملاً عن الأمور الخاصة بالله، وقد تعلَّم من آبائه أنه وحده ينبغي له السجود، فإنه ما لم يسلك باستقامة يقول الكتاب عنه أنه لا يحمل معرفة الله.

إذ تحدث الرب عن اللَّه أبيه أجابوه وقالوا له: “أين هو أبوك؟” لقد فهموا أب المسيح جسديًا، لأنهم يدينون كلمات المسيح حسب الجسد. لكن الذي تحدث كان الظاهر هو الجسد، وأما الخفي فهو الكلمة؛ الإنسان المنظور واللَّه الخفي… لقد احتقروه لأنهم لم يعرفوه، ولم يعرفوه لأنهم لم يروه، ولم يروه لأنهم عميان، وهم عميان لأنهم لم يؤمنوا.

نحن نراك وحدك، ولا نرى أباك معك، فكيف تقول أنك لست وحدك بل أنت مع أبيك؟ إلا فلترنا أن أباك معك.
القديس أغسطينوس

هذا الكلام قاله يسوع في الخزانة وهو يعلم في الهيكل،
ولم يمسكه أحد،
لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد”. (20)

الخزانة: يخبرنا الإنجيلي يوحنا عن الموضع الذي استخدمه السيد ليقدم فيه تعليمه، وهو “الخزانة”. غالبًا لا يقصد به الموضع الذي توضع فيه كنوز الهيكل الثمينة، وإنما تشير إلى جزء من المناطق التي يقدم إليها الشعب ليقدموا عطاياهم للهيكل. وهو يمثل جزءً خاصًا بدار النساء حيث يوجد فيه ١٣ صندوقًا للعطاء على شكل أبواق. يُنقش على كل صندوق مجال استخدامه حتى يقدم الشخص عطاءه حسبما يريد أن يوجهه. أما دعوة الموضع “دار النساء” فلا يعني أنه خاص بالنساء ولا يدخله الرجال، وإنما يعني أنه يسمح للنساء بالدخول فيه، ولا يسمح لهن بالدخول في مواضع أخرى. وذلك كما يسمح للأمم الدخول إلى “دار الأمم” لكن هذا لا يعني عدم دخول اليهود فيه.
كان هذا الموضع محببًا للشعب حيث كانت توقد فيه المنارات الأربع في عيد المظال السابق الإشارة أيها. وكان هذا الموضع يُدعى جازت Gazith، في مواجهة المكان المخصص لانعقاد مجمع السنهدرين. لهذا قال السيد المسيح أثناء محاكمته: “أنا علَّمت في كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائمًا، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء” (يو ١٨: ٢٠).
وكان السيد المسيح يعلن مجاهرة أمام الشعب وفي حضرة السنهدرين أنهم لا يعرفون الآب لأنهم لم يعرفوه هو (١٩). ومع هذا لم يستطيعوا القبض عليه.
كانت ألسنتهم بلا ضابط تنطق بالتجديف ضده، أما أياديهم فكانت مربوطة، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. لقد قيدهم بقوته الإلهية حتى تحين ساعة صلبه.

يقول عن السيد المسيح: “لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد”، ومعنى ذلك أنه لم يكن قد حان بعد وقت ملائم يشاء أن يُصلب فيه، فمن هذه الجهة كان صلبه ليس بقوة أولئك، وإنما كان بتدبيره هو، لأنهم أرادوا ذلك من قبل ولم يقدروا، ولا اقتدروا بعد ذلك لو لم يرد هو ذلك.
القديس يوحنا الذهبي الفم

هذه تُظهر أنه إن كانت كل المساهمة في مساندة المحتاجين في خزانة الهيكل لأجل الصالح العام، فإن يسوع فوق الكل قدم ما هو نافع. قدم هذه الكلمات الخاصة بالحياة الأبدية (يو ٦: ٦٨)، وتعليمه عن الله (الآب)، وعن نفسه. قوله: “أنا نور العالم” (١٢).

كان في الخزانة أكثر قيمة من أية عملة. وهكذا قوله: “لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا” (١٩)، وكل بقية التعاليم في ذلك الموضع.
كل الذهب الذي قدمه الآخرون إلى الخزانة يشبه حبة رمل إن قورن بكلمات يسوع؛ وتُحسب الفضة طينًا في حضرتها (راجع حك ٧: ٩) فإن كل كلمة نطق بها هي حكمة…

لم ينطق يسوع بكل الكلمات التي لديه حين كان يعلم في الخزانة، وإنما قدر ما يمكن للخزانة أن تتقبل. فإنني لست أظن أن العالم نفسه يمكن أن يحوي كل كلمة الله (يو ٢١: ٢٥).