تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٨: ٢٥-٣٠
♱
25 فَقالا لَهُ مَنْ أَنْتَ. فَقَالَ لَهُمْ يَسوع: “أَنَا ذَاكَ الّذي كَلّمْتُكُمْ عَنْهُ مُنْذُ الإبْتِداءِ.
26 إنَّ عِنْدِي كَثيراً أَقُولُهُ وَأَحْكُمُ بِهِ في شأنِكُمْ، وَلَكِنَّ الّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌ، وَالّذِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ بِهِ أَتَكَلَّمُ فِي العَالمِ”.
27 فَلمْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ يَقولُ إنَّ أَباهُ هُوَ اللهُ.
28 فَقَالَ لَهُمْ يَسوع: “إِذا رَفَعْتُمْ إبْنَ البَشَرِ، فَحِينَئِذٍ تَعْرِفونَ أَنّي أَنَا هُوَ، وَإِنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ عِنْدي، وَلَكِنْ كَمَا عَلّمَني الآبُ كَذلِكَ أَقُولُ.
29 وَالّذي أَرْسَلَني هُوَ مَعي، وَلَمْ يَدَعْني وَحْدي لِأَنِّي أَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرْضِيهِ كُلَّ حِينٍ”.
30 وَفِيْمَا هُوَ يَتَكَلمُّ بِهَذا آمَنَ بِهِ كَثيرُونَ.
“فقالوا له:
من أنت؟
فقال لهم يسوع:
أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به”. (25)
جاءت إجابته على سؤالهم هكذا: “أنا هو البدء Arche”، كما تكلمت معكم في العهد القديم، لم أتغير. من البدء قيل أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥). إنه موضوع إيمان الآباء البطاركة (إبراهيم واسحق ويعقوب). إنه هو وسيط العهد، موضوع نبوات الأنبياء. من بدء خدمته أعلن لهم أنه ابن الله، وخبز الحياة. لماذا يكررون السؤال وقد سبق الإجابة عليه مرارًا وتكرارًا، وقد أخبرهم أنه مخلص العالم. لقد سألوه: من أنت يا من تهددنا بهذه الطريقة؟ أي سلطان لك علينا؟
كأن ما يقوله هو هكذا “أنتم لستم أهلاً لتسمعوا كلماتي نهائيًا، بالأكثر أن تتعلموا من أنا. لأن كل ما تقولونه هو لكي تجربونني، ولم تبالوا حتى بقولٍ واحدٍ من أقوالي. وكل هذه الأمور يمكنني الآن أن أبرهنها ضدكم”. هذا هو معنى الآية التالية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم،
لكن الذي أرسلني هو حق،
وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم”. (26)
يعلن السيد أنه قادر أن يفضحهم لأنه عالم بالخفيات، يعرف كبرياءهم وطمعهم ورياءهم وشرورهم وبغضهم للنور وحسدهم ضد الحق مع جحودهم وعدم إيمانهم وما سيفعلونه به. ما قيل عنكم بالأنبياء هو حق. لكنه ليس الآن وقت للدينونة بل للخلاص.
هنا يعلمنا السيد المسيح أنه ليس كل ما نعرفه، خاصة عن شرور الآخرين، نقوله. إنما نطلب توبة الناس ورجوعهم إلى الحق والتمتع بالشركة مع الله.
كأن السيد المسيح يقول: إن كان الآب أرسلني لخلاص العالم، وهو غرض صالح، فلهذا لست أحكم الآن على أحدٍ، لكنني أخاطبكم بهذه الأقوال التي تؤدي إلى خلاصكم، لا التي تدينكم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب”. (27)
إذ أعمى الشيطان بصيرتهم، وظنوه أنه يتحدث عن أب جسداني في الجليل، وليس عن الآب أبيه.
“فقال لهم يسوع:
متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو،
ولست أفعل شيئًا من نفسي،
بل أتكلم بهذا كما علمني أبي”. (28)
إذ يمتلئ شرهم بصلبه، عندئذ يدركون أنهم صلبوا رب المجد، وذلك خلال العلامات التي تحدث أثناء الصلب والقيامة وما بعد قيامته.
كانت ذبيحة المحرقة تُدعى “رفع”، وفي كثير من طقوس التقدمات والذبائح ترفع الذبيحة إلى أعلى، وتُحرك أمام الرب. هكذا رُفع السيد المسيح على الصليب. وفي القداس الإلهي إذ يختار الكاهن الحمل يُدعى هذا الطقس “رفع الحمل”. وبالفعل يضعه في لفافة ويرفعه على جبينه وهو يصلي: “مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس”.
يستخدم الكتاب المقدس كلمة “يرفع” لتعني أحيانًا “يمجد” كما استخدمها بطرس الرسول في عظته في يوم العنصرة: “وإذ ارتفع بيمين الله” (أع ٢: ٣٣)، والرسول بولس: “لذلك رفعه الله أيضًا” (في ٢: ٩). وفي العهد القديم قال يوسف: “في ثلاثة أيام أيضًا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك” (تك ٤٠: ١٣).
وتُستخدم الكلمة أيضًا لتعني الهوان والموت، كما قال يوسف: “في ثلاثة أيام يرفع فرعون رأسك ويعلقك على خشبة” (تك ١٤: ١٩).
هنا بقوله: “رفعتم ابن الإنسان” نجد المعنيين، فمن جهتهم يرفعونه على الصليب للموت في عارٍ وخزي، ومه جهة الآب يرفعه ويمجده، حيث بالصليب تتحطم قوى إبليس ويُشهر بها (كو ٢: ١٥).
لم يقل: “تعرفون من أنا” بل قال: “تفهمون إني أنا هو”، أي المسيح ابن الله، الذي يحمل كل الأشياء، وأنا لست ضد ذاك الواحد… “فإنكم ستعرفون قوتي ووحدة الفكر مع الآب”، إذ يقول: “ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي ” (28). بهذا يعلن أن جوهره هو مثله تمامًا، وأنه لا ينطق بشيءٍ إلا بما في ذهن الآب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
ماذا يعني هذا؟ يبدو أن كل ما قاله هو أنهم سيعرفونه من هو بعد آلامه. بدون شك لقد رأى أنه سيعرف بعضًا منهم بنفسه، هؤلاء من بقية قديسيه قد اختارهم بسابق علمه قبل تأسيس العالم، هؤلاء يؤمنون بعد آلامه… كأنه قال: “سأترك معرفتكم تتأجل حتى أتمم آلامي. هذا لا يعني أن كل الذين سمعوه يؤمنون فقط بعد آلامه. لأنه بعد ذلك بقليل قيل: “وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون” (٣٠)، ولم يكن بعد قد ارتفع ابن الإنسان.
رفعِه الذي يتحدث عنه هنا خاص بآلامه وليس بتمجيده، خاص بالصليب لا بالسماء، لأنه تمجد هناك أيضًا عندما عُلق على الصليب.
لماذا قال هذا إلاَّ لكي لا ييأس أحد مهما شعر ضميره بالذنب، وذلك عندما يرى الذين قتلوا المسيح أنه غفر لهم؟
“لست أفعل شيئًا من نفسي” (٢٨) ماذا يعني هذا؟ أنا لست من نفسي. لأن الابن هو الله من الآب، ولكن الآب هو الله ليس من الابن. الابن إله من إله، الآب هو الله وليس من إله. الابن هو نور من نور، والآب هو نور لكن ليس من نور. الابن كائن، لكن يوجد من هو كائن منه، والآب كائن ولكن لا يوجد من هو كائن منه.
كيف تحدث الآب مع الابن؟ إذ يقول الابن: “أتكلم بهذا كما علمني أبي” (٢٨)؟
هل تحدث معه؟
عندما علَّم الآب الابن هل استخدم كلمات كما تفعل أنت حين تعلم ابنك؟
كيف يمكنه أن يستخدم كلمات في حديثه مع الكلمة؟
أية كلمات كثيرة في العدد تُستخدم في الحديث مع الكلمة الواحد؟
هل يقترب الابن بأذنيه إلى فم الآب؟
مثل هذه الأمور جسدانية، انزعوها من قلوبكم… إن كان الله كما قلت يتحدث إلى قلوبنا بدون صوت، فكم يتحدث أيضًا إلى ابنه؟…
تحدث الآب إلى الابن بطريقة غير جسدانية، لأنه ولد الابن بطريقة غير جسدانية.
لم يعلمه كما لو كان قد ولده غير متعلم. لكن أن يعمله إنما تعني نفس معنى ولده مملوء معرفة… منه نال المعرفة بكونه منه نال كيانه. لا بأن منه نال أولاً كيانه وبعد ذلك المعرفة. وإنما كما بميلاده أعطاه كيانه، هكذا بميلاده أعطاه أن يعرف، وذلك كما قيل لطبيعة الحق البسيطة، فكيانه ليس بشيء آخر غير معرفته بل هو بعينه.
القديس أغسطينوس
“والذي أرسلني هو معي،
ولم يتركني الآب وحدي،
لأني في كل حين أفعل ما يرضيه”. (29)
إن كانوا قد نالوا سلطانًا ليقتلوه فهذا لا يعني أن الآب فارقه. فهو دائمًا معه، لا ينفصلان، وما يفعله الابن إنما يرضي الآب، وهو أن يبذل نفسه من أجل خلاص العالم.
حتى لا يظنوا أن قول السيد المسيح: “والذى أرسلني” يظهر نقصُا له قال: “هو معي”، لأن كلمة “أرسلني” مناسبة لتدبيره، و”هو معي” مناسبة للاهوته. وقول السيد المسيح عن الآب: “لأني في كل حين أفعل ما يرضيه” يوضح أن عمله في السبت مرضي لأبيه، إذ أن السيد المسيح قد اجتهد اجتهادًا كثيرًا حتى يبين أنه لا يعمل عملاً مخالفًا لأبيه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“الذي أرسلني هو معي” (٢٩)… هذه المساواة في الوجود “دائمًا”، ليس من بداية معينة وما بعدها، بل بدون بداية وبلا نهاية. لأن الميلاد الإلهي ليس له بداية في زمنٍ حيث أن الزمن نفسه خلقه الابن الوحيد.
القديس أغسطينوس
“وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون”. (30)
بينما تعثر الفريسيون والكتبة في كلماته وتعاليمه آمن كثيرون من الشعب به. فالشمس التي تجفف الطين هي بعينها التي تجعل الشمع يذوب. قدمت كلماته رائحة حياة لحياة، ورائحة موت لموت.
جاءت الكلمة اليونانية “آمن” هنا لتعني “صدقوه” لكنها لا تحمل الإيمان الحي الأكيد، إذ كانت قلوبهم وأفكارهم تترقب رؤية المسيا حسب عالمهم المادي السياسي، الذي يخلصهم من الاستعمار الروماني ويرد للأمة كرامتها في العالم.
آمن كثيرون من اليهود بالسيد المسيح، ولكن ليس كما يجب، لكنهم آمنوا على بسيط ذات الإيمان، وعلى ما اتفق، عندما استلذوا بأقواله واستراحوا إليها.
القديس يوحنا الذهبي الفم