للميادين – غسان سعود***
بُعيد اعتذار الرئيس المكلَّف مصطفى أديب، وتقدّم رئيس تيار المستقبل سعد الحريري في اتجاه التكليف مجدَّداً على نحو يتناقض مع المبادرة الفرنسية، كان يمكن لرئيس الجمهورية ميشال عون عرقلة التكليف، عبر تأجيل الدعوة إلى الاستشارات النيابية، مستفيداً من عدم إلزامه دستورياً بأيّ مهلة في ما يخصّ الدعوة إلى الاستشارات، وعدم مبالاته، بطبيعة الحال، بالضغط التلفزيوني الذي لا يملك خصومه سلاحاً فعّالاً غيره.
وبُعيد تجاهل المجلس النيابي رسالةَ الرئيس، وإصرار الأكثرية النيابية على تسمية الحريري، كان يمكن لرئيس الجمهورية إخراج واحدة من ذرائع الميثاقية، التي يُتقن الرئيس نبيه بري استخدامها عادة، للقول بعدم ميثاقية التكليف في ظل امتناع الكتلتين المسيحيتين الكبيرتين (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية) عن تسمية الحريري. لكنّ الرئيس لم يفعل لا هذه ولا تلك لاحتجاز التكليف، كما يحتجز سعد الحريري اليوم التشكيلَ.
ومع ذلك، لم تكفَّ أوركسترا النفاق يوماً، طوال الأشهر التسعة الماضية، عن التصويب على الرئيس، متجاهلةً بصورة كاملة أنّ هناك شخصاً معنيّاً بالتكليف، ولا يمكن لهذا الشخص أن يقول “ما خلّوني”، إلاّ إذا كان منطق “ما خلّوني” ممنوعاً في ما يخصّ ملف الكهرباء، ومسموحاً في ما يخصّ جميع الملفات الأخرى، بما فيها ملف تشكيل الحكومة. وفي هذا السياق، مَن يأخذ على العونيين قولهم “ما خلّوني” في ما يخص الكهرباء، فعليه أن يُعيب، بالطريقة والحدّة والاستهزاء نفسها، على الحريري قوله إنهم “ما خلّوه” يشكّل، و”ما خلّوه” يقرّ إصلاحات “سيدر” أو حلّ النفايات وغيرهما مما لم يعرضه الحريري يوماً على مجلس الوزراء.
بُعيد التكليف، تتالت تنازلات رئيس الجمهورية علّ سعد الحريري يشكل وعسى، وهي عشرة حتى الآن:
- تنازل الرئيس عن حقّه الدستوري في الشراكة الكاملة مع الرئيس المكلّف التشكيل، حين سمح بتعاون الحريري مع غيره من أصحاب المبادرات، بينما النصّ الدستوري واضح بشأن وجوب صعود الرئيس المكلَّف إلى قصر بعبدا لغربلة الأسماء والحقائب والأحجام، بالشراكة الكاملة مع رئيس الجمهورية، وهو ما أوصى به الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في كلمته الشهيرة، كلاً من الرئيس المكلَّف ورئيس المجلس النيابي، لكنْ لا هذا سمع منه، ولا ذاك.
- وافق الرئيس على الخروج عن نصّ المبادرة الفرنسية، التي تحدّثت عن حكومة مهمة، في حين أن سعد الحريري لم يصارح أحداً حتى الآن، من قريب أو بعيد، في مهمة حكومته. وكان يمكن لرئيس الجمهورية افتعال مشكلة بسبب هذه النقطة لتجميد التعاون مع الرئيس المكلَّف، لكنه لم يفعل.
- وافق الرئيس على طلب الرئيس المكلَّف عدمَ احترام المداورة في الحقائب، بناءً على طلب الثنائي الشيعيّ التَّمسُّكَ بحقيبة المال. وكان يمكن للرئيس أن يصرّ على المداورة والمضيّ قُدُماً في التمسُّك بها، على نحو يضمن تفجير التشكيل.
- تخلّى الرئيس عن الثلث المعطّل، الذي تؤكد مداولات الطائف أنه حقّ مقدَّس لرئاسة الجمهورية، لكن الرئاسة الأولى لم تفتح هذه المعركة على الرّغم من كل الأكاذيب والأضاليل والنفاق، وأكدت أكثر من مئة مرة، في عشرة أشهر، أنها لا تريد ثلثاً معطّلاً. وهي كانت ذريعة طائفية – سياسية – إدارية تكفي لتفجير الشكيل وتعطيله بالكامل.
- وافق الرئيس على تدوير الزوايا ف يما يخصّ المناصفة، على الرغم من قدرته على خوض معركة حقيقية هنا في ما يخص اختيار المرجعيات المسيحية حصراً للوزراء المسيحيين. وواهمٌ هنا جداً مَن يعتقد أن المسيحيين، الذين خاضوا الحرب الأهلية كلها للمحافظة على المناصفة، سيصرفهم الضِّيق الاقتصادي، أو بعض الإعلاميين والناشطين من خلفية يسارية، عن هذا المبدأ الدستوري. وبدلاً من تفجير البحث بحجة المسّ بالمناصفة، حرصت الرئاسة وقيادة التيار الوطني الحر على البحث عن حلول وسطى توفّق بين المناصفة وضرورة تشكيل الحكومة.
- قَبِلَ رئيس الجمهورية وقيادة التيار الوطني الحر التخليَ عن وزارة الطاقة على الرغم من التقدُّم الكبير في التفاهمات مع العراقيين من جهة، ومع الخارجية الروسية وعملاقة النفط الروسية، التي أعطتها وزارة الطاقة اللبنانية حق تخزين النفط في شمالي لبنان، الأمر الذي ضاعف الغضب والحقد الأميركيَّين على العونيِّين.
- قَبِلَ الرئيس التخليَ عن وزارة العدل على الرغم من أهميتها بالنسبة إلى الملفّات القضائية والتدقيق الجنائي وغيرها من الملفات التي يتابعها العهد، بمجرد أن لاحظ إصرار الحريري على استعادتها.
- قَبِلَ عدم تقديم الحريري تعهّد مسبّق بشأن مواصلة العمل في التدقيق الجنائي، وهو واحد من أكثر الملفات حيوية وأهمية بالنسبة إلى الجمهور العوني.
- قَبِلَ مواصلة التعاون، سواء مع الرئيس المكلَّف سعد الحريري، أو مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، على الرغم من كل ما كالاه من اتهامات وتحريض وعبارات غير مألوفة، في البيانات الرسمية.
- في موضوع إلزام فريق سياسي بمنح الثقة لحكومة لم يطَّلع هذا الفريق السياسي على مهمتها، أو بيانها الوزاري، أو حتى جميع أسماء وزرائها، كان يمكن مرة أخرى طلب إنهاء هذه المهزلة، وإقفال الباب أمام الحريري وعنجهيته وشروطه غير المنطقية، بحيث يستحيل إقناع أيّ عاقل بمنح الثقة لتشكيلة حكومية لا يعرف عنها شيئاً، ولا يملك فيها ثلثاً معطلاً أو ضامناً، لكن رئيس الجمهورية وقيادة التيار واصلا محاولات الاستيعاب، باحثَين مع من يعنيهم الأمر في كيفية تدوير الزوايا هنا أيضاً.
في مقابل هذه التنازلات العشرة، لم تكفَّ ماكينة الحريري لحظةً عن رشق بعبدا بالمفرقعات الإعلامية وأطنان التسريبات. وإذا سُئل هؤلاء عمّا قدّموه من تنازلات لتسهيل التشكيل في مقابل التنازلات العونية العشرة، فسيُسارعون إلى القول إن دولة الرئيس المكلف قَبِلَ تشكيل حكومة من 24 وزيراً بعد أن كان يريدها من 18 فقط. لكنّ التدقيق في هذا التنازل يؤكد أن أساسه لا يشبه أبداً ما سبق تعداده، بحيث إن حكومة من 18 وزيراً هي اختراع حريريّ لا بُعدَ دستورياً أو منطقياً له (لا يُقارَن بالمناصفة أو بالثلث الضامن). وعليه، فإنّ ما فعله الحريري هنا أشبه بطرح رئيس الجمهورية مطلباً غيرَ منطقيّ، كحصوله على وزارتي المال والأشغال العامة مثلاً، ثم القول إنه ارتضى التراجع عن هذا المطلب (غير المحق). واللافت هنا أن هذه التنازلات كلها وهذا الإصرار العونيّ على عدم إقفال الأبواب في وجه الحريري، على الرغم من وجود عشرات الذرائع التي تسمح بذلك، لم يقابلها إلاّ مزيدٌ من الهجوم الحريريّ على عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وإيهام الرأي العام بأن عون لا يريد حكومة برئاسة الحريري.
مع العلم بأن الفارق كبير بين ما يريده عون أو يحلم به، والواقعية السياسية التي يقيّد نفسه بها، خلافاً لرغبة جمهوره.
فالرئيس كان يحلم بحكومة لا يرأسها الحريري، ولا علاقة للحريري بها من قريب أو بعيد. وهو راسل مجلس النواب قبيل الاستشارات النيابية بهذا الشأن، لكن مجلس النواب لم يتفاعل إيجاباً مع رسالته، وسمّى الحريري لرئاسة الحكومة.
هنا، انتهت الأحلام بالنسبة إلى الرئيس عون، وانتقل إلى الواقعية التي تقتضي تشكيل حكومة بالتعاون بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلَّف. وتجاوز رئيس الجمهورية عشرة مطبّات كان يمكن إيقاف البحث في التشكيل عندها، لكنه لم يفعل.
ومع ذلك، لم تتوقف الحملة. والأنكى هنا أن ماكينة الحريري تعتبر (وتسوّق) أن صعود الحريري إلى بعبدا عشرين مرة إنما هو تنازُل ما بعده تنازل، بمعزل عما جرى في تلك الاجتماعات، وكل السلبية الحريرية قبلها وأثناءها وبعدها، والإهانات المُعيبة للرئيس، في حين أن صعود الحريري إلى بعبدا – كما قال السيد – واجب دستوريّ عليه بمجرد قَبوله التكليفَ. والواضح هنا أن رئيس الجمهورية احترم الدستور لجهة تكليفه الحريري، على الرغم من معارضته الشخصية تكليفه، تماماً كما احترم الدستور لجهة مواصلة التعاون مع الحريري على الرغم من كل المطبّات. أمّا سعد الحريري فلم يحترم الدستور، لا لجهة “تشكيل حكومة بالتعاون مع رئيس الجمهورية”، ولا لجهة المناصفة، ولا لجهة الثلث الضامن الخاص بالرئيس.
في النتيجة، كانت ورقة التنازلات هذه حاضرة على طاولة المباحثات مع كل مَن قصد قصر بعبدا عن نية حسنة، للبحث في تسهيل التشكيل، من البطريركية المارونية، إلى الخارجية الروسية، وكل ما بينهما، بينما كان الحريري يستمهل المتدخّل بضعة أيام ليذهب ولا يعود، مفترضاً أن الوقت لمصلحته.
لكن الوقت (الذي يدفع المواطن ثمنه الأكبر) لن يكون يوماً لمصلحة الحريري. هذا ما تؤكده كلّ المعطيات المحلية والاقليمية. عقارب الزمن تسير إلى الأمام، ولا يمكن لأيّ كان، سواء أكان الحريري، أم السعودية، أم الولايات المتحدة، أم فرنسا، إعادتُها إلى الوراء، إلى ما قبل اتفاق الدوحة.
العقارب التي سارت إلى الأمام، فوق أنقاض الطموحات الحريرية – السعودية – الأميركية – الفرنسية، لم تَسِر بنعيم ورفاهية، وإنما بنضال وقتال وشهداء. وما خسره الحريري والسعودية والولايات المتحدة وفرنسا في الحرب، عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، لن يربحوه في الحرب التي تُخاض، مالياً وبترولياً وغذائياً. يملك هؤلاء – حتى الآن – القدرة على التخريب طبعاً، لكنهم لم ولن يملكوا أبداً القدرة على إعادة بناء مشروعهم المهدَّم.