أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


في المتراس تطلق النار لا تستمع حتى إلى أثر الطلقة التي أطلقت.. (مقال عميق للقدير جهاد الزين – رأي في روايتَين دستوريّتَيْن)


من الطبيعي جدا في نظام الجمهورية الثانية أن يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن تسمية الوزراء المسيحيين فقط إلا إذا أُرْغِم على المشاركة معه حزب مسيحي آخر ( هل تسمعني جيدا: حزب مسيحي آخر)

الآن يأتون ليقولوا للرئيس عون الذي قامت حركتُه على فكرة استعادة حقوق الموقع المسيحي في النظام: لا تستطيع اختيار الوزراء المسيحيين وفي هذا فعلا محاولة من الحركات السياسية الأكثر مذهبية لتحجيم واحدة من الحركات السياسية الأكثر استنفاراً سياسيًا مسيحيًا في تاريخ لبنان، حتى أن المدرسة القديمة المقاتلة في المارونية السياسية ممثلةً بـ”القوات” وأبيها المنزوع السيف “الكتائب” تقف مرتبكةًّ وقلقة..


تردّدتُ طويلا قبل أن أقرِّر كتابة هذا المقال لا لسبب سوى سبب تقليدي جدا في معظم مساري كمعلّق سياسي في السنوات الأخيرة وهو السعي إلى عدم الدخول في السجالات المحلية بين الأحزاب والسياسيين و التي هي منذ فترة طويلة تبادل تحاججات لا طائل منها سوى التمترس الفئوي الذي يرمي إلى تسجيل المواقف وليس الحوار. في المتراس تطلق النار لا تستمع حتى إلى أثر الطلقة التي أطلقت.

آخر نماذج هذا السجال التجاذب الطويل الذي أصبح تناتشاً بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري والذي يُترجَم حتى الآن عجزا عن تشكيل حكومة جديدة.

في الحقيقة كما أزعم، والتي يجب أن تقال، فإن رئيس الجمهورية محقٌ في المنطق الذي يلجأ إليه. لماذا؟ أولاً لأن الدستور يعطيه صلاحية المشاركة الكاملة في عملية التأليف، والقول أنه في دستور الطائف وحده رئيس الحكومة المكلّف يشكّلها هو قول فيه تجنٍ كامل ومفضوح ومع ذلك لا يتورّع دعاتُه عن التمسك به.

يتعرّض ميشال عون إلى محاولة ترمي إلى منعه من ممارسة ليس فقط صلاحية دستورية نصت عليها بوضوح المادة 53 (البند 4) بل أيضا إلى منعه من ممارسة دور المرجعية التي تختار الوزراء المسيحيين كما رئيس مجلس النواب يختار الوزراء الشيعة ورئيس الحكومة يختار الوزراء السنّة. إنه اتفاق الطائف كما آل إليه النظام السياسي اللبناني في ظل المرجعية السورية زائد تسمية الدرزي الأقوى للوزراء الدروز وناقص دور رئيس الجمهورية الذي أعطاه التطبيق السوري للاتفاق حق تسمية بعض الوزراء أحيانا ولكن ليس كل الوزراء المسيحيين.

” التيار الوطني الحر”، هو تيار دخل السلطة بعد العام 2005 على أساس استعادة ” المسيحيين” لدورهم في المحاصصة السلطوية. لا يهمني ماذا يسمّي هذا التيار نفسه أي أن يعتبر نفسه لفظيًا غير طائفي وهي تسمية ذاتية تتشارك في إطلاقها على نفسها كل الأحزاب الطائفية “أمل” و”حزب الله” و “المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” وهم “عتاعيت” النظام الطائفي وتمثيل كل منهم لطائفيته السياسية فيما انضم إليهم التيار العوني والقوات اللبنانية والكتائب (الآتية من تمثيل طائفي حافل في الجمهورية الأولى) لاحقًا بعد طول منع….

عندما أصبح الجنرال ميشال عون رئيسا للجمهورية كان يعني هذا بوضوح “تصحيحا” في تطبيق اتفاق الطائف وليس في جوهره الذي هو تحويل رئاسة الجمهورية إلى محض تمثيل موقع المسيحيين مما يعني أنه من الطبيعي جدا في نظام الجمهورية الثانية أن يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن تسمية الوزراء المسيحيين فقط إلا إذا أُرْغِم على المشاركة معه حزب مسيحي آخر، ( هل تسمعني جيدا: حزب مسيحي آخر) وليس طبعا حزبا سنيا أو شيعيا أو درزيًا ليسمّي بعض أو كل الوزراء المسيحيين.

هذا هو نظام الطائف الذي أوصل الدولة إلى ما هي عليه من انهيار بسبب شراهة القوى والميليشيات الطائفية على التوظيف الزبائني بما جعل القطاع العام متخما وموزعاً على “الزبائن” داخل الطائفة. وقد ساهم “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” حيث استطاعا في هذه الشراهة التوظيفية بالتشارك مع الأحزاب المذكورة الأخرى بما فيها “حزب الله” الذي كان ولا يزال شريكا كاملا في هذه اللعبة التي وصلت حدا مأزوما للنظام السياسي بكامله.

هذا ما كشفته ثورة 17 تشرين المبارَكة من الجيل الجديد ومن أرقى سفارات الأنظمة الديموقراطية وهذا وسام ليس نقيصة لأن كشف المأزق إنجاز لمستقبل لبنان أو ما بقي منه بين أفواه الفرسان الطائفية الجائعة.

الآن يأتون ليقولوا لميشال عون الذي قامت حركتُه من أساسها وأساسه على فكرة استعادة حقوق الموقع المسيحي في النظام الطائفي: لا تستطيع اختيار الوزراء المسيحيين وفي هذا فعلا محاولة من الحركات السياسية الأكثر مذهبية لتحجيم واحدة من الحركات السياسية الأكثر استنفاراً سياسيا مسيحيا في تاريخ لبنان، حتى أن المدرسة القديمة المقاتلة في المارونية السياسية ممثلةً ب”القوات اللبنانية” وأبيها المنزوع السيف “حزب الكتائب” تقف مرتبكةًّ وقلقة أمام نسبة الاحتجاج المسيحي العميق لدى “العونيين” الذين سرعان ما حوّلتهم المحاصصة التي كان يستفرد بها “مسلمو” النظام منذ عام 1992 إلى قوة توظيف كاسرة، هم بدورهم.

في كل هذا الجو يستعيد الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة عادته “الوفاقية” في تأجيج النار حيث ينبغي إطفاؤها فيطلع علينا باكتشاف أن اتفاق الطائف ليس ما رأينا منه خلال ثلاثين عاما بل يعبِّر عن الروحية العادلة العميقة للتعايش والتشارك التي يريدها اللبنانيون. وفؤاد السنيورة يظن في هذا الكلام أنه يجد حلا لأزمة نظام جعله دستور الطائف غير قابل للحكم وذهب بالخلل بمفهومه الطائفي إلى نهايات حرب أهلية ما بعد حرب أهلية متوالدة بين ردهات سرايات لم يسبق لدولة كبيرة (فكيف بصغيرة كلبنان) ولدولة فدرالية (فكيف بدولة مركزية ضعيفة كلبنان) أن شهدت بتعدادها الذي يبلغ أحيانا حدا كاريكاتوريا.

النظام في أزمة عميقة ولربما وجودية. ولكن ميشال عون يتصرّف في موضوع تشكيل الحكومة بالمنطق الحقيقي للنظام وهو أنه المسؤول عن المواقع المسيحية في الدولة مثلما غيره في الترويكا الدستورية “مسؤول” عن طائفته.

لا أحب استعمال كلمة ضمير في الكتابة السياسية لأنها غالبا سخيفة وغير نزيهة، ولكني سأستخدمها هنا بما تبقى من قدرة لصحافي متواضع الإمكانات أن يعطي رأيا نابعا من ضميره خارج الاصطفافات الفئوية.

لا زال الرئيس حافظ الأسد يحكم لبنان من مثواه. لقد كان بارعًا ضمن مشروعه لحكم لبنان وسوريا على أساس نظامين مختلفين، ولاسيما عبر المادة 65 والمادة 69 اللتين جعلتا الحكم من داخل الدولة اللبنانية مستحيلاً مع اشتراط أكثرية الثلثين التي منها وُلد ذلك العفريت المسمّى الثلث المعطِّل.

عشنا ولازلنا نعيش في الأسابيع الماضية “روايتين” دستوريتين لن يوحدهما إلا رواية خارجية. لكن الرواية العونية هي التي تعكس روح النظام الطائفي في جمهوريته الثانية.

التاريخ قاسي. لكنه عادل في المآزق الكبرى. اليوم ومنذ 17 تشرين يعاقب النظام نفسه. وليس لدى الآلهة طريق أخرى.

المصدر: النهار