– يوحنا معد ليرتبط بي.. وأنا لم أكن في حاجة إلى العماد..
عماد يسوع في نهر الأردن عن قصيدة الإنسان – الإله / ماريا فالتورتا (Il Poema Dell’ Uomo-Dio / Maria Valtorta)
كلام يسوع :
ما كتبته في30 كانون الثاني يمكنه أن يمنح الفرصة لأصحاب الشك أن يتمادوا بـ”لكن” و”إذاً” التي لهم. وأنا من سيجيب بدلاً عنك…
أنا سيد الحياة والموت والصحة والمرض… أنت مخلوقة مسكينة لا قيمة لك إلا بحبك, ليست لك استحقاقات أخرى. حب ورغبة في أن تكوني لغيرك سبب حب لإلهك…
والآن انطلقي قدماً, بطاعة, مفعمة بالحب. »
في ذات التاريخ 3 / 2 / 1944
أرى سهلاً غير مأهول ولا نبات فيه. لا حقول مزروعة، بل بعض النباتات القليلة المتفرقة هنا وهناك، مثل تجمعات نباتية حيث في الأرض بعض العمق, وهي هنا أقل جدباً.
بالمقابل, إلى يساري أرى نهراً ضفتاه منخفضتان, وهو كذلك يجري من الشمال إلى الجنوب. ومن خلال حركة المياه البطيئة جداً أدرك أن ليس لمسيله ميول شديد, وأن هذا النهر يجري بحسب انخفاض السهل. فالمجرى هو بالكاد كاف ليمنع ركود المياه وتشكل مستنقع. المياه غير عميقة: إنه موقع يسمح برؤية العمق. حسب تقديري فإن عمقه لا يتجاوز المتر أو المتر ونصف المتر على الأكثر. أظن أن عرضه يبلغ حوالي العشرين مترا. أنا لا أملك الدقة من خلال النظر, فتقديراتي تقريبية. ومع ذلك فالمياه بلون اللازورد المائل قليلاً للاخضرار حول الضفتين حيث رطوبة الأرض تحدث شريطاً أخضراً كثيفاً يمتع العين التعبة من كآبة انتشار الحجارة والرمال الممتدة بغير حدود.
ذلك الصوت الداخلي الذي حدثتكم عنه، والذي يفسر لي ما يجب ملاحظته ومعرفته، ينبهني إلى أنني أرى وادي الأردن. …وتبدو لي هذه التسمية غير دقيقة، لأن كلمة وادي تفترض وجود مرتفعات في الجوار، وأنا لست أرى أثراً لذلك.
إذا كان الكلام عن صحراء صحيحاً في تعيين هذا المكان غير المأهول والذي لا أثر فيه لعمل إنسان، فهو أقل تناسباً مع الفكرة التي نكونها عن الصحراء. فهنا لا كثبان صحراوية ملموسة، إنما فقط أرض عارية مزروعة حجارة وفضلات، كما هي أراضي الطمي بعد الفيضان .
في البعيد, هناك مرتفعات. أما قرب نهر الأردن فسلام عظيم, بيئة خاصة تتعدى بيئة منظر ريفي عادي, شيء يذكر بما يخامر الإحساس على ضفاف بحيرة ترازيمين Trasimène. إنه مكان يوحي بتحليق ملائكي وأصوات سماوية. لا أجيد التعبير عما أختبره، إنما لدي إحساس بأنني أجد نفسي في مكان يحادث الروح .
أثناء هذه المشاهدات, أرى المشهد المليء بالناس على طول الضفة اليمنى للأردن-اليمنى بالنسبة لي- هناك الكثير من الرجال بملابس مختلفة. يبدو البعض من عامة الشعب، وآخرون من الأغنياء، وهؤلاء يوجد منهم عدد لا بأس به، ويبدو البعض من الفريسيين بثيابهم المزينة بالأهداب والشرائط .
في الوسط، رجل يقف على صخرة، وقد عرفته من النظرة الأولى: إنه المعمدان، هذا على الرغم من أنني أراه للمرة الأولى. إنه يتحدث إلى الجمع، أؤكد أن عظتة تنقصها النعومة. لقد دعا يسوع يعقوب ويوحنا “ابني الرعد”. ولكن ماذا يمكن أن نطلق على هذا الخطيب المندفع الوثاب؟ يمكن القول عن يوحنا المعمدان بأنه ضربة صاعقة، سيل جارف، هزة أرضية، على ما هو عليه من الجدية والصرامة في حديثه وحركاته .
إنه يتكلم عن مجيء ماسيا ويحث السامعين على تهيئة قلوبهم بتخليصها من كل ما يثقلها وبتقويم أفكارهم. ولكنه كلام عنيف وقاسٍ. فليس للسابق يد يسوع اللينة لمعالجة جراحات القلوب. إنه طبيب يعريهم وينبش ويشذب دون رحمة .
بينما أنا أسمعه – لا أنقل كلامه لأنه كلام الإنجيليين ذاته ولكنه يأتي في حديث دافق- أرى يسوع يتقدم على طول درب على امتداد الحافة المعشبة والظليلة التي تحاذي نهر الأردن. هذه السبيل القروي، درب عرقوب أكثر منه طريق، يبدو أن القوافل والمسافرين قد خطوه على مدى سنوات وقرون بسيرهم عليه ليصلوا إلى موقع يقل فيه عمق المجرى فيسمح بالعبور. ويستمر الدرب على الضفة الأخرى من النهر ليختفي في اخضرار الجانب الآخر .
يسير يسوع بمفرده، ببطء، وبينما هو يتقدم يصل خلف يوحنا. يتقدم دون جلبة وهو يستمع إلى الصوت المدوي، صوت واعظ التوبة في الصحراء، كما لو كان يسوع كذلك واحداً من الأشخاص الكثيرين الآتين إلى يوحنا ليعتمدوا ويستعدوا بالتطهير لقدوم ماسيا. لا شيء يميز يسوع عن باقي الناس. يبدو بلباسه وكأنه من عامة الناس، سيد بجمال سماته، إنما لا إشارة إلهية تميزه عن الجمع .
حينئذ يبدو يوحنا وكأنه قد أحس بفيض روحاني خاص. يلتفت ويتعرف على الفور على منبع هذا الفيض. فيهبط مسرعاً من على الصخرة التي كان يستخدمها كمنبر، ويتوجه طلق المحيّا صوب يسوع الذي وقف على بعد أمتار من مجموعة من الناس، ويتكئ على جذع شجرة .
يسوع ويوحنا، كل منهما يمعن النظر في الآخر لحظة، يسوع بنظرته اللازوردية اللطيفة للغاية، ويوحنا بعينه القاسية السوداء القاتمة والمفعمة بريقاً. يشاهد الإثنان وقد تقاربا، الواحد نقيض الآخر. كلاهما عظيم- وهذا هو وجه الشبه الوحيد- إنما هما مختلفان بكل ما تبقى. فيسوع أشقر، ذو شعر طويل ممشط، سحنته بيضاء عاجية وعيناه لازورديتان، وثوبه بسيط إنما موقر. بينما يوحنا كثيف الشعر أسوده، ينسدل على كتفيه متدرجاً، ولحيته سوداء محلوقة بشكل ناعم، وهي تغطي معظم وجهه ولكنها لا تمنع من اكتشاف تقعر خديه بفعل الصوم، وعيناه سوداوان منفعلتان، بشرته برونزية بفعل الشمس وتقلبات الجو، يغطيها شعر كثيف، نصف عار، ثوبه من وبر الإبل… ولدى مقابلة بعضهما تحسبهما متوحشاً يقابل ملاكاً .
وبعد أن يمعن يوحنا نظره الثاقب به يهتف:« هوذا حمل الله. كيف يحصل هذا أن يأتي ربي إليّ؟ »
فيجيبه يسوع بهدوء:« لإتمام شعائر التوبة. »
« أبداً يا سيدي. أنا من يجب أن آتي إليك لأتقدس، وأنت تأتي إليّ؟ »
وبينما يضع يسوع يده على رأس يوحنا المنحني أمامه يجيبه:« دعني الآن وما أفعل، فهكذا يحسن بنا أن نتمّ كل بر، وأن تقود شعائرك الناس إلى السر العظيم، وأن يعلن لهم أن الأضحية هي الآن في هذا العالم. »
يتأمله يوحنا بعين لطّفت نظرتها دمعة، ويسبقه إلى الضفة.. ينزل إلى الماء حيث يوجد يوحنا، ويعمده يوحنا بسكب ماء النهر على رأسه بواسطة فنجان يتدلى من حزامه يبدو وكأنه صَدَفة أو نصف قرعة مفرغة ومجففة .
يسوع هو الحمل، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. الحمل ببشرته البيضاء وبساطة سماته ونعومة ولطف نظرته .
بينما يصعد يسوع إلى الضفة، وبعد أن يرتدي ثيابه يختلي للصلاة، ويظهره يوحنا للجميع وهو يشهد أنه تعرف عليه بإشارة محددة من روح الله تشير بشكل لا يحتمل الخطأ بأنه هو المخلص .
أما أنا فقد أخذت بمنظر يسوع الذي يصلي،, ولم أعد أرى سوى هذا الوجه الذي برز على أرض الضفة الخضراء تلك .
لم يكن يوحنا في حاجة إلى أية إشارة
يقول يسوع :
« لم يكن يوحنا في حاجة إلى إشارة من أجل ذاته. فروحه السابق تقديسها مذ كان في أحشاء والدته كانت تمتلك رؤية الذكاء فائق الطبيعة التي كانت ستكون نصيب كل الناس لولا خطيئة آدم .
لو بقي الإنسان في حالة النعمة، في البراءة والوفاء لخالقه، لكان رأى الله عبر المظاهر الخارجية. قيل في سفر التكوين إن الرب الإله كان يتكلم مع الإنسان البريء بشكل ودي، ولم يكن يغشى على ذاك الإنسان لدى سماع هذا الصوت، ولم يكن يخطئ في تمييزه. هكذا كان مصير الإنسان: رؤية الله وإدراكه مثل الابن حيال أبيه. ثم أتت الخطيئة، ولم يعد الإنسان على إثرها يجرؤ على النظر إلى الله، ولم يعد يستطيع معرفة واكتشاف وإدراك الإله الذي باتت معرفته به تتناقص يوماً بعد يوم .
إنما يوحنا، نسيبي يوحنا، فقد تطهر من الخطيئة عندما انحنت الممتلئة نعمة بحب لتقبل التي كانت يوماً عاقراً وأصبحت ولودة، أليصابات. وقد قفز الجنين فرحاً في أحشائها عند سماعه قشور الخطيئة تسقط من على نفسه كما تسقط القشرة من على الجرح لدى شفائه. الروح القدس الذي جعل من مريم أم المخلص، قد بدأ صنع المجد عبر مريم، الكأس الحي للمجد المتجسد، لهذا الطفل الذي سيولد وهو معد ليرتبط بي، ليس فقط بالدم بقدر ما يرتبط بالرسالة التي تجعل منا مثل الشفتين في تشكيل الكلمة. فيوحنا كان الشفتين وأنا الكلمة. هو السابق في الكرازة وفي مصيره كشهيد، وأنا الذي أعطي كمالي الإلهي للكرازة التي افتتحها يوحنا، واستشهاده في سبيل الدفاع عن شريعة الله .
لم يكن يوحنا في حاجة إلى إشارة، إنما بسبب غلاظة أرواح الآخرين كان لا بد من إشارة. فعلام ارتكز يوحنا في تأكيده إن لم يكن على دليل لا يدحض، كانت عيون الناس البطيئة في الرؤية وآذانهم الكسولة قد أدركته .
وأنا كذلك لم أكن في حاجة إلى العماد. إنما حكمة الرب قد ارتأت أن تكون هذه اللحظة وهذه الطريقة هما المفروضتان للقاء وذلك بإخراج يوحنا من كهفه في الصحراء وإخراجي من بيتي، وقد جمعتنا في هذه اللحظة لتنفتح السماء فوقي وينزل منها روحه ذاته، حمامة إلهية على الذي سيكون عليه أن يعمد الناس بهذه الحمامة، ويأتي من السماء الإعلان الجهوري الملائكي لفكرة أبي هذه: “هوذا ابني الحبيب الذي به سررت“. هذا لكي لا يبقى للناس عذر أو شك في معرفة ما إذا كان ينبغي لهم أن يتبعوني أم لا .
تجليات المسيح كانت كثيرة.
أولها بعد الولادة حيث كان للمجوس؛
والثاني في الهيكل؛
والثالث على ضفاف الأردن .
ثم أتت التجليات الأخرى التي لا تحصى والتي سوف أعرفك عليها، لأن معجزاتي كانت تجليات لطبيعتي الإلهية، حتى الأخيرة منها، قيامتي، وصعودي إلى السماء. لقد امتلأ وطني بتجلياتي, مثل البذور المرمية في الجهات الأصلية الأربع، وقد وصلت إلى كل طبقة وكل موضع في الحياة: للرعاة ولذوي النفوذ، للعلماء والكفرة والخطأة، للكهنة والمتسلطين، للأطفال والجنود، ولليهود والوثنيين .
والآن أيضاً هي تتكرر، ولكن بما أن العالم يرفضها، أو بالأحرى لا يتقبل المعجزات الحالية وينسى القديمة. إذاً فأنا لا أصرف النظر. أنا أكرر ذاتي لأخلصكم ولأقودكم إلى الإيمان بي .
أتعرفين يا ماريا ماذا تفعلين؟ بالأحرى ماذا أفعل عندما أجعلك ترين الإنجيل؟ إنها محاولة قوية لجلب الناس إليّ. لقد رغبتها أنت بصلواتك الحارة. لن أكتفي بعد بالكلمة، فهي تتعب وتبعدهم. وهذه خطيئة، ولكنها هكذا. فأعمد إلى الرؤيا، إلى رؤيا إنجيلي وأشرحه لأجعله أكثر وضوحاً وأكثر جاذبية .
لك أعطي عزاء الرؤيا. وأعطي الجميع الوسيلة ليرغبوا بي ويعرفوني. وإذا لم تفد أيضاً وكانوا كالأطفال الشرسين يرمون العطية دون إدراك قيمتها، فتبقى الهبة لك ويذهب سخطي إليهم. وسوف يكون بإمكاني مرة أخرى توجيه الملامة القديمة: “عزفنا على الناي فلم ترقصوا ولطمنا بالنواح فلم تبكوا”.
إنما لا يهم. فلندع رافضي الهداية يكدسون على رؤوسهم الفحم المتأجج، ولنلتفت إلى النعاج التي تبحث عن معرفة الراعي، والراعي هو أنا، أما أنت فعصا الراعي التي تقودهم إليّ. »
… حتى في إملاء اليوم قال يسوع: «… بجعلي إياك ترين الإنجيل أقوم بمحاولة قوية لأجلب الناس إليّ. لم أعد أكتفي بالكلمة… إني ألجأ إلى الرؤيا وأشرحها لأجعلها أكثر وضوحاً وأكثر جاذبية.»
ترجمه إلى العربية: فيكتور مصلح
ماريا فالتورتا ولدت في كازرته (إيطاليا) في 14 آذار (مارس) 1897 . وبعد أن وهبت كل شيء لله، حتى ذكاءها الشخصي، بدأت ماريا بالانطواء تدريجياً خلال عدة سنوات بشكل من أشكال العزلة النفسية حتى اليوم الذي انطفأت فيه جذوتها، وكأنها تطيع قول الكاهن الذي دعي عند نزاعها الأخير ، فصلى بهذه العبارة : ” اذهبي أيتها الروح المسيحية من هذا العالم . ” وكان ذلك يوم 12 تشرين الأول 1961 ، وكانت قد تركت للذكرى الجملة التالية : << لقد تخلصت من الآلام ولكنني سأستمر في الحب . >>
[أتعرفين يا ماريا ماذا تفعلين؟ بالأحرى ماذا أفعل عندما أجعلك ترين الإنجيل؟ إنها محاولة قوية لجلب الناس إليّ.
لن أكتفي بعد بالكلمة، فهي تتعب وتبعدهم. وهذه خطيئة، ولكنها هكذا. فأعمد إلى الرؤيا، إلى رؤيا إنجيلي وأشرحه لأجعله أكثر وضوحاً وأكثر جاذبية، لكِ أعطي عزاء الرؤيا، وأعطي الجميع الوسيلة ليرغبوا بي ويعرفوني. وإذا لم تفد أيضاً وكانوا كالأطفال الشرسين يرمون العطية دون إدراك قيمتها، فتبقى الهبة لك ويذهب سخطي إليهم. وسوف يكون بإمكاني مرة أخرى توجيه الملامة القديمة: “عزفنا على الناي فلم ترقصوا ولطمنا بالنواح فلم تبكوا”].