🕯 ♰ ♰ ♰ 🕯
تفسير أيقونة عيد الظهور الإلهي (الغطاس).
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لعمادة يسوع وشهادة الآب ( لوقا ٣: ١٥-٢٢)
عيد الظهور الإلهي هو من أهم الأعياد السيدية في الكنيسة، هو يتخطى مجرد كونه حدث نزول المسيح إلى مياه الأردن ليعتمد على يد النبي السابق يوحنا. إنه سر ظهور الثالوث مجتمعاً للمرة الاولى منذ تجسد الرب (من هنا اسمه: “عيد الظهور الإلهي”) فالآب حاضراً بصوته، الإبن المتجسد يعتمد في مياه الأردن والروح القدس يحل عليه.
إليكم كيف يمكننا أن نقرأ أيقونة الظهور الإلهي:
١- المسيح:
يقف في مركز الأيقونة، في وسط نهر الأردن. هو يبارك المياه التي تحيط به بيده اليمنى، يقدسها، ينقيها ويحول صورتها القديمة من صورة الطوفان وبحر الخطيئة والموت الى مياه البركة، الى ينبوع ماء الحياة.
تعابير وجه الرب مهيبة وجدية تدل على قدسية الحدث والسر الذي يتم.
تصوره الأيقونة عارياً كما آدم عند الخلق أو متزراً بوشاحٍ، وذلك رمزاً إلى أنه سيعيد لآدم ومن خلاله لكل البشرية لباس المجد الذي كان لها في الفردوس.
معدته معضلة تشير مسبقاً إلى الألم الذي سيعاني منه على الصليب.
إنه يتقدم بخطوة بملء إرادته تجاه يوحنا ويحني رأسه للنبي السابق.
وضعية المسيح في وسط المياه وكأنه داخل كهف مظلم (تذكرنا بمغارة الميلاد وكذلك بالقبر المقدس)، فهو اعتمد ليدفن الإنسان القديم وسط المياه (كصورة مسبقة لموته ودفنه ونزوله إلى الجحيم)، و بصعوده من الماء يُصعد معه البشرية كلها ويعيد لها مجدها المفقود، (كصورة مسبقة عن القيامة معلنا انتصاره على سيد الجحيم مبيداً سلطة الخطيئة والموت) فنحن باعتمادنا، نلبس المسيح نموت معه و ندفن انساننا القديم لنقوم به ومعه أيضا” (غل ٣ ; ٢٧): لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ”.
عندها تنفتح السماء أمام كل الجنس البشري بعد أن كان آدم قد أغلقها حارماً نفسه وكل نسله من بعده من امكانية الولوج إليها.
٢- في أعلى الأيقونة جزء دائرة:
رمز للسماء المفتوحة وحضور الآب إذ سمع صوته يقول، متى (٣ ; ١٧): “هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ”.
يخرج منها شعاع نور يضيء الحمامة (رمز الروح القدس) ويكمل باتجاه رأس المسيح، هو يرمز لجوهر الله الواحد بثالوثيته الأقنومية.
٣- الروح القدس بهيئة حمامة:
ينبثق من الآب (يو ١٥; ٢٦) “رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ… ” ويحل على المسيح ويرشد يوحنا والآخرين على ابن الله.
لماذا هيئة حمامة؟ لأن الحمامة هي رمز للوداعة والنقاوة.
يربط الآباء هيئة الحمامة أيضاً بقصة نوح والحمامة التي أتت بغصن زيتون بعد انحسار الطوفان، وإلى أن الروح، منذ الخلق، كان يرّف على وجه المياه، (تكوين ١; ٢) “وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ”.
٤- يوحنا النبي السابق:
القديس يوحنا المعمدان واقفاً إلى يمين الرب باحترام وانسحاق فائقين. وبما أنه عاش كل حياته ناسكاً في البرية، نرى شعر رأسه ولحيته مجعداً ومبعثراً، (متى ٣; ٤): “وكان لباس يوحنا من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد وكان طعامه الجراد والعسل البري”. يمد إحدى يديه فوق رأس المسيح بينما يرفع الثانية متشفعاً، أو حاملاً ملفاً يرمز لكرازته.
٥- الملائكة.
في الأيقونة مجموعة ملائكة واقفين على الجهة الثانية من النهر يحنون رؤوسهم في وضعية سجودٍ وأيديهم مغطاة احتراماً للرب. هم يخدمون الحدث ويرمزون إلى حضور الكنيسة الظافرة، (غل ٣ ; ٢٧): “لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.”
٦- نهر الأردن:
نهر الأردن يتدفق بغزارة بين الصخور العالية، هو مائج وسريع كرمز للعالم الصاخب الذي يحاول إغراقنا بالهموم والخطايا، ولكن و كأنه لا يمس جسد الرب لأنه لا سلطان للموت على السيد.
عند قدمي المسيح نرى رسمين لإنسانين صغيرين، هما رمز للمزمور ١١٣ الذي يقول: “البحر رأى فهرب والأردن رجع إلى الوراء”. إنهما رمز لهروب الكون بكافة أمجاده من أمام وجه الرب ودعوة لكل نسل آدم للتخلي عن التمرد والشقاء واقتناء الوداعة والتواضع.
٧- الفأس والشجرة :
خلف يوحنا شجرة عليها فأس إشارة إلى الآية التي وجهها يوحنا للفريسيين والصدوقيين، (لو ٣ ; ٩):” وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ”. ( ريمون معتوق )
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لعمادة يسوع وشهادة الآب ( لوقا ٣: ١٥-٢٢)
شهادته عن المسيح
كان الشعب اليهودي غريبًا، فبينما نجده قد رفض السيِّد المسيح، ولم يكن قادرًا على قبوله مخلِّصًا وفاديًا نراه يظن في يوحنا أنه “المسيح”، إذ يقول الإنجيلي: “وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكِّرون في قلوبهم عن يوحنا لعلَّه المسيح…” [15] ولعل السبب في ذلك ما رأوه في يوحنا من تقشُّف شديد في أكلِه وشُربه وملبسه وحزمه في تبكيته الخطاة، فظنَّوه أنه قادر أن يخلِّصهم من الرومان متى قام بدور قيادي حاسم.
عجيب هو الإنسان فإنه كثيرًا ما يرفض حب الله الفائق ويستهين بطول أناته منجذبًا للمخلوق دون الخالق! لكن يوحنا في أمانته لم يقبل أن يسلب مجد المسيح، رافضًا بشدَّة التكريم الزائد غير اللائق به، شاهدًا عن المسيح الحقيقي، معلنًا أنه ليس هناك مجال مقارنة بين السيِّد المسيح وبينه، وبين معموديَّة السيِّد ومعموديَّته، إذ “أجاب يوحنا الجميع قائلاً: أنا أعمِّدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى منِّي، الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار. الذي رفْشُه في يده وسينقِّي بيٍدَرَه، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التِبن فيحرِقه بنارٍ لا تُطفأ” [16-17].
يقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم: [هذا هو دور الخادم الأمين ليس فقط لا ينسب لنفسه كرامة سيِّده، بل يمقت ذلك عندما يقدِّمها له كثيرون.]
ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [لم يقصد يوحنا بهذه المقارنة إثبات أن المسيح أعظم منه، فليس من وجه للمقارنة بين الله وإنسان… يوحنا لم يشأ أن يقارن نفسه بالمسيح إذ قال: “لست مستحقًا أن أحل سِيور حذائه”… ربَّما أراد القدِّيس يوحنا أن ينقص من شأن الشعب اليهودي بقوله: “ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص” (يو 3: 30)، كان ينبغي أن ينقص الشعب اليهودي حتى يزداد الشعب المسيحي في المسيح.]
يقول القدِّيس كيرلس الكبير:
[دُهش الناس لما رأوا من الجلال الرائع في عيشة يوحنا الهادئة، عظمة أخلاق وسِمو تقوى وصلاح، فقد هال الشعب اليهودي سِمو يوحنا ورُقيِّه في عيشته وتعاليمه، حتى ظنَّوا أنه لابد وأن يكون المسيح الذي أشار إليه الناموس بمختلف الرموز، ووصفه كثير من الأنبياء والرسل، إلا أن يوحنا سرعان ما لاحظ ظنونهم حتى وقف يبدِّدها بحزمٍ وعزمٍ، فأعلن في غير لبس أنه ما هو إلا خادم لسيِّده، وأن المجد والكرامة والسجود والعظمة لا تليق إلا بالمسيح الذي اسمه يفوق كل اسم.
عَلَم يوحنا أن المسيح أمين لكل من يخدمه، فما على الخادم إلاّ أن يعلن الحق والصدق، إذ الفرق شاسع بين الخادم وسيِّده، أي بين يوحنا والمسيح ولذلك يقول: “أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح بل أني مرسل أمامه” (يو 3: 28)، فحقًا أن يوحنا عظيم في رسالته وعظيم في شهادته، فقد كان رائع الجلال ككوكب الصباح الذي يعلن شروق الشمس من وراء الأفق.
أراد يوحنا أن يثبت للملأ أنه دون سيِّده مرتبة ومقامًا، فقال: “أنا أعمِّدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى منِّي الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه” (3: 16).
حقًا أن الفرق شاسع بين المسيح ويوحنا، بل لا تصح المقارنة بينهما، ولذلك صدَق المعمدان المغبوط رغمًا عن سِمو فضيلته وكريم خلقه بأنه “غير أهل لأن يحل سِيور حذائه”، لأنه إذا كانت القوَّات السمائيّة والعروش والسيرافيم المقدَّسة تقف حول عرش المسيح الإلهي مقدِّمة له المجد والتسبيح، فمن ذا الذي يستطيع من سكان الأرض أن يقترب من الله؟! نعم يحب الله الإنسان فهو رؤوف به رحوم عليه، ولكن يجب ألا ننكر بأي حال من الأحوال بأننا لا شيء بالنسبة له فنحن بشر ضعفاء جهلاء.]
ويقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم: [إنه عالٍ جدًا ولا أستحق أن أُحُسب أقل عبد عنده، فإن حلْ سيور الحذاء هو أكثر الأعمال وضاعة.]
ويقدَّم لنا الأب غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لكلمات القدِّيس يوحنا المعمدان: فيرى في حذاء السيِّد إشارة إلى الجسد الذي اِلتحف به، فإن حلْ سيوره إنما يعني فكْ أسرار التجسُّد، إذ يشعر نفسه عاجزًا عن إدراك هذا السرْ الإلهي وبحثه، بينما يقدِّم لنا القدِّيس چيروم تفسيرًا آخر وهو أن يوحنا المعمدان لا يتجاسر أن يمد يده ليحل سيور حذاء سيِّده، لأن السيِّد يريد عروسه المترمِّلة ولا يرفضها، إذ جاء في الشريعة أن الوليّ الذي يرفض الأرملة كزوجة ليُقيم منها نسلاً للميِّت يخلع نعليْه أمام شيوخ المدينة ويُعطيه لمن يَقبل الزواج منها، كما فعل وليّ راعوث (را 4: 7-8). مسيحنا لن يخلع نعليْه ليعطيهما لأحد، إذ يوَد أن يقتنينا عروسًا له، ويشترينا بحبُّه ودمه المبذول.
لم يجد القدِّيس يوحنا وجهًا للمقارنة بينه وبين سيِّده، ولا بين معموديَّته ومعموديّة سيِّده، إذ قال: “أنا أعمِّدكم بماء… هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” [16].
الماء يطهِّر الجسد، والروح يطهِّر القلب من الخطايا، نحن نقوم بالعمل الأول ونصلِّي لكي يتم العمل الثاني حيث ينفخ الروح في الماء فيقدِّسه، الماء وحده ليس دليلاً على التطهير وإن كان الاثنان لا ينفصلان: الماء والروح، لذلك اِختلفت معموديّة التوبة (ليوحنا) عن معموديّة النعمة التي تشمل العنصرين، أما الأولى فتشمل عنصرًا واحدًا. إن كان كل من الجسد والروح يشتركان في الخطيّة فالتطهير لازم لكيهما. (القدِّيس أمبروسيوس)
المعموديّة هي الكُور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات. (القدِّيس يعقوب السروجي)
الروح القدس هو نار كما جاء في أعمال الرسل، إذ حلّ على المؤمنين على شكل ألسنة ناريّة. وهكذا تحقَّقت كلمة المسيح: “جئت لأٌلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو إضطرَمَت؟!” (لو 12: 49). يوجد تفسير آخر وهو أننا نعتمد حاليًا بالروح، وبعد ذلك (في يوم الرب) بالنار كقول الرسول: “ستمتَحِن النار عمل كل واحد ما هو” (1 كو 3: 13). (القدِّيس چيروم)
يقول يوحنا ذلك ثانية للدلالة على ضعفه وجهله “أنا أعمِّدكم بماء ولكن هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (لو 3: 16)، وهذا برهان جليل على أُلوهيّة المسيح، لأنه من خاصيَّات يسوع الذي يفوق الكل قوَّته على منح الناس الروح القدس حتى أن كل من يقبله يتمتَّع بالطبيعة الإلهيَّة، ولكن لاحظوا أن هذه القوّة في يسوع المسيح لم يمنحها ولم يرسلها أحد بل هي له وفيه، وخاصة به، إذ ورد “يعمِّدكم بالروح القدس”. فالله الكلمة المتأنِّس هو ثمرة الله الآب، فلا يعترض أحد بأن الذي يُعمِّد بالروح القدس هو الله الكلمة، وليس ذاك الذي أتى من ذُرِّيَّة داود، فلم يشاء أن يقسِم المسيح ابنين، فقد وصف الكتاب المقدَّس هؤلاء الناس بأنهم: “حيوانات ومعتزلون بأنفسهم ولا روح لهم” (يه 19).
وما معنى ذلك كله؟ يجب أن نؤكِّد تمام التأكيد غيرَ مكتَرثين بنقض أو اِعتراض بأن الله الكلمة يَمنح الروح القدس الذي له، لكل من كان جديرًا بهذه الهِبة
وحتى لما تأنَّس الله الكلمة وهبنا الروح القدس، لأنه ابن الله الوحيد الذي صار جسدًا، فهو والآب واحد بطريقة لا يًدركها العقل ولا يحدَّها الوصل، يقول المعمدان “لست أهلاً أن أحلْ سِيور حذائه” ثم يعطف على ذلك قوله “هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار”، فمن الواضح أنه كانت هناك قدمان للبس الحذاء، غير مرتبطة بالجملة السابقة، وما معنى القدمان قبل وبعد التجسد؟؟؟؟؟؟؟ ولا يمكن للإنسان العاقل أن يفترض أن المسيح كان يلبس قبل تجسُّده حذاء فلم يحدث ذلك إلا عند تجسُّده، ولما كان المسيح بتجسُّده لم يكُف عن أن يكون إلهًا، وجب أن يعمل أعمالاً تليق بأُلوهيَّته، فأعطى الروح القدس لكل الذين آمنوا، لأنه هو واحد وشخص واحد وفي الوقت نفسه إله وإنسان أيضًا… (القدِّيس كيرلس الكبير)
إذ أعلن عن معموديّة المخلِّص، تحدّث كديَّان: “الذي رفْشُه في يده، وسينقِّي بيدَرَه، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ” [17].
تكشف الإشارة إلي رفْشْ المسيح إلى سلطانه في تمييز عمل كل واحد. حينما يُذَرِّي القمح يفصل الفارغ عن الملآن، المثمر عن الذي بلا ثمر بفضل نسمة الهواء… سيميِّز الرب في يوم الدينونة بين الأعمال المثمرة بفضائل ممتلئة وبين الأعمال الفارغة، فيدعو الكاملين إلى الوطن السماوي… بينما يمقُت القَشْ ولا يحب الأعمال العقيمة، لذلك: “قدَّامه تذهب نار” (مز 97: 3)، [لكنها نار من طبيعة غير مؤذيّة تحرق أيضًا أعمال الظلمة وتُظهر بريق أعمال النور.] (القدِّيس أمبروسيوس)
أريد أن أكشف عن السبب الذي لأجله يمسك ربَّنا الرفْشْ وعن النفخة التي ترفع التِبن ليتطاير هنا وهناك، بينما القمح الأكثر ثقْلاً يبقى في مكانه…
الهواء على ما أظن يعني التجارب التي تكشف المؤمنين، إن كانوا تِبنًا أو قمحًا، لأنه عندما تحل بنفسك بعض التجارب، فليست التجربة هي التي تجعل المؤمنين تبنًا أو قمحًا، إنما إن كنتم تبنًا خفيفًا بلا إيمان تكشف التجارب عن طبيعتك المختفية؛ وعلى العكس إن واجَهْتُم التجربة بشجاعةٍ فليست التجربة هي التي تجعلكم أوفياء صابرين، إنما تكشف عن فضيلة الصبر والقوّة التي فيكم وكانت مختفية.
يشبِّه يوحنا سكان الأرض بسنابل الحنطة وبالأحرى يقارنهم بقمح في حقل دَرَّاس. فإن كُلاً منَّا ينمو كسُنبلة قمح، وقد بين ربَّنا مرَّة وهو يخاطب الرسل المقدَّسين هذه الحقيقة، فقال لهم: “إن الحصاد كثير، ولكن الفعَلة قليلون، فاُطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعَلة إلى حصاده” (لو 10: 2). نحن الذين نعيش على الأرض نُسمَّى سنابل الحنطة وقمحًا وحصادًا، وهذا الحصاد يملك عليه الله لأنه رب الجميع. لكن تأمَّلوا في كلام المعمدان المغبوط فإنه يصف حقل الدَرَّاس بأنه ملك المسيح، فهو الذي ينقِّي بيدَرَه ويجمع القمح إلى منزله ويحرق التبن بنار لا تُطفأ. فالقمح هو رمز للأخيار الذين ثبتوا في إيمانهم ورسخوا في عقيدتهم، أما التِبن فُيشير إلى أولئك الناس الذين ضعُفت عقولهم وسقُمَت قلوبهم، فأصبحوا قلقين تهب عليهم الرياح فتفرِّقهم…، فلا غرابة بعد ذلك إن جُمع القمح في مخزنه لأنه جدير بأن يُحفظ في مكان أمين بعناية الله له ورحمته ونعمته، ولكن التِبن يُحرق بنار لا تُطفأ إذ لا يساوي قلامة ظفر.
القدِّيس كيرلس الكبير
هذا التِبن لا يُهلك من هم حنطة الرب، والذين هم قليلون، إن قورنوا بالآخرين، لكنهم هم جمع عظيم. (القدِّيس أغسطينوس)
أبرز الإنجيلي لوقا عمل القدِّيس يوحنا المعمدان الرئيسي، وهو الشهادة للسيِّد المسيح وعمله الخلاصي، ومعموديَّته بالروح القدس، وقد جاءت هذه الشهادة ممتزجة بكلمة التبكيت للتوبة مع بث روح الرجاء، مبشِّرًا إيَّاهم برحمة الله، إذ يقول: “وبأشياء أُخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشِّرهم” [18].
لم تكن كرازته وعظاته خاصة بالعامة فحسب، إنما اِمتدَّت إلى الرؤساء بلا مُداهنة ولا مُجاملة. يقول:
“أما هيرودس رئيس الرُبع فإذ توبَّخ منه لسبب هيروديَّا امرأة فيلبس أخيه،
ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها.
زاد هذا أيضًا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن” [19-20].
لقد سبق فدرسنا قصَّة سجن يوحنا بواسطة هيرودس، الذي أراد أن يكتم أنفاس الحق، ويقيِّد الكلمة والوصيّة بالسجن والقيود والسيف، فكان الصوت يزداد علوًّا خلال الضيق، وكيف صار هذا رمزًا لمحاولة اليهود تقييد الكلمة النبويّة (يوحنا النبي) ومنعها من الإعلان عن المسيَّا.
عماد السيِّد
أن كان يوحنا قد شهد للسيِّد ولمعموديَّته، فإنه إذ قبل الجموع القادمة إليه لتعتمد جاء السيِّد نفسه يعتمد:
“ولما اِعتمد جميع الشعب اِعتمد يسوع أيضًا،
وإذ كان يصلِّي اِنفتحت السماء.
ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسميّة مثل حمامة،
وكان صوت من السماء قائلاً:
أنت ابني الحبيب بك سُررت” [21-22].
فيما يلي بعض تعليقات الآباء على معموديّة السيِّد:
جاء إلى المعموديّة بدون خطيّة تمامًا، وهكذا لم يكن بدون الروح القدس، لقد كُتب عن خادمه وسابقه يوحنا نفسه أنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو 1: 15)، فإن كان وقد وُلد من أبيه (من زرع بشر) تقبَّل الروح القدس وهو يتشكَّل في الرحم، فماذا يمكننا أن نفهم ونعتقد بالنسبة للمسيح نفسه الذي حبل به، لا بطريقة جسدانيّة بل بالروح القدس؟! (القدِّيس أغسطينوس)
لم يّحلْ الروح القدس على جموع اليهود بل على يسوع وحده، إن أردت أن تقبل الروح القدس أيها اليهودي آمن بيسوع فإن الروح القدس حالْ فيه. (القدِّيس جيروم)
المسيح يوُلد، والروح هو المهيئ له!
إنه يعتمد، والروح يشهد له!
إنه يُجرب، والروح يقوده (4: 1، 18)!
إنه يصنع معجزات، والروح يرافقها!
إنه يصعد إلى السماء، والروح يحل محلُّه!
(القدِّيس غريغوريوس النزينزي)
لم يعتمد الرب ليتطهَّر… الذي لم يعرف خطيّة له سلطان على التطهير، بهذا كل من يدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه…
شرح الرب نفسه سبب عماده: “اسمح الآن لأنه ينبغي لنا أن نكمِّل كل برْ” (مت 3: 15). من بين مراحمه الكثيرة بناؤه الكنيسة، فبعد الآباء والأنبياء نزل الابن الوحيد وجاء ليعتمد، هنا تظهر بوضوح الحقيقة الإلهيّة التي ذُكرت بخصوص “الكنيسة”، وهي إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً تعب البنَّاؤون”. إذ لا يستطيع الإنسان أن يبني ولا أن يحرس: “إن لم يحرُس الرب المدينة، فباطل سهِر الحُرَّاس” (مز 126: 1). إني أتجاسر فأقول أنه لا يستطيع الإنسان أن يسلك في طريق ما لم يكن الرب معه يقوده فيه، كما هو مكتوب: “وراء الرب إلهكم تسيرون وإيَّاه تتَّقون” ( تث 13: 4)، “الرب يقود خُطى الإنسان” (حك 20: 24)… الآن تُخلق الكنيسة… يقول “اسمح الآن”، أي لكي تُبني الكنيسة، إذ يليق بنا أن نكمِّل كل برْ.
اغتسل المسيح لأجلنا، أو بالحرى غسلنا نحن في جسده، لذا يليق بنا أن نُسرع لغسل خطايانا…
دُفن وحده ولكنه أقام الجميع،
نزل وحده ليرفعنا جميعًا،
حمل خطايا العالم وحده ليطهِّر الكل في شخصه، وكما يقول الرسول: “نقُّوا أيديكم إذن وتطهَّروا” (يع 4: 8)، فالمسيح غير محتاج إلى التطهير، تطهَّر لأجلنا. (القدِّيس أمبروسيوس)
هل كان المسيح في حاجة إلى العماد المقدَّس؟ وأية فائدة تعود عليه من ممارسة هذه الفريضة؟ فالمسيح كلمة الله، قدُّوس من قدُّوس كما يصفه السيرافيم في مختلف التسبيحات (إش 3: 6)، وكما يصفه الناموس في كل موضع، ويتَّفق جمهور الأنبياء مع موسى في هذا الصدد.
وما الذي نستفيده نحن من العماد المقدَّس؟ لا شك محو خطايانا، ولكن لم يكن شيء من هذا في المسيح، فقد ورد: “الذي لم يفعل خطيَّة ولا وُجد في فمِه مكْر” (1 بط 2: 22)، “قدُّوس بلا شرْ ولا دنَس قد اِنفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات” (عب 7: 26).
ولكن رُبَّ سائل ضعُف إيمانه يقول: هل اعتمد الله الكلمة وهل كان المسيح في حاجة إلى موهبة الروح القدس؟ كلاَّ لم يكن شيء من ذلك. ما اعتمد المسيح إلا لتعليمنا بأن الإنسان الذي من ذرِّيّة داود وهو المتَّحد بالله الابن عُمد وقبِل الروح القدس. فلماذا تقسِمون غير المقسُوم إلى ابنين وتقولون أنه عُمد في سن الثلاثين فأصبح مقدَّسًا.
ألم يكن المسيح مقدَّسًا حتى بلغ الثلاثين من عمره؟ من هو الذي يرضى بقولكم هذا، وأنتم تُلبِسون الحق بالباطل، وتزيِّفون العقيدة بالزيغ والريب إذ يوجد “رب واحد يسوع المسيح” (1 كو 8: 6)، ولذلك نُعلن على رؤوس الأشهاد: إنه لم ينفصل من روحه لمَّا اِعتمد، لأن الروح القدس وإن كان ينبثق من الله الآب فإنه يخُص أيضًا الله الابن، إذ “من مِلئِه نحن جميعًا أخذنا” (يو 1: 16). بل وكثيرًا ما سُميَ الروح القدس روح المسيح، مع أنه منبثق من الله الآب على حد قول الرسول بولس: “فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يُرضوا الله، وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم… يهب الروح القدس لكل من كان جديرًا به، إذ قال: “بما أنكم أبناء الله أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبَا الآب” (راجع غل 4: 6)، فبالرغم من أن الروح القدس ينبثق من الله الآب، فإن المسيح الكلمة ابن الله الوحيد الذي يشترك مع الآب في العظمة والسلطان لأنه بطبيعته ابن حقيقي يرسل الروح القدس إلى الخليقة ويهبه لكل من كان جديرًا به، إذ قال: “حقًا كل ما للآب هو لي” (16: 15)…
كان من الضروري إذن أن الله الكلمة وقد أفرغ نفسه بتواضعه بأن يتَّخذ صورتنا ويكون شبهنا، فهو بِكرُنا في كل شيء، ومثالُنا الذي نحتذي به في كل أمر، وعليه فلكي يعلِّمنا قيمة العماد وما فيه من نعمة وقوّة بدأ بنفسه وتعمَّد، ولما تعمَّد صلَّى، لنتعلَّم يا أحبائي أن الصلاة ضروريّة، فيصلِّي كل حين من أصبح جديرًا بنعمة العِماد المقدَّس.
ويصف الإنجيلي السماء بأنها اِنفتحت كما لو كانت مُغلقة، فإن المسيح يقول: “مِن الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزِلون على ابن الإنسان” (يو 1: 51)، لأن طغمة الملائكة في السماء، وبني الإنسان على الأرض يظلِّلهم جميعًا علَم واحد، ويخضعون لراعٍٍ واحد هو السيِّد المسيح. اِنفتحت السماء فاقترب الإنسان من الملائكة المقدَّسين. نزل الروح القدس إشعارًا منه بأنه وُجدت خليقته ثانية. حلّ أولاً على المسيح الذي قبِل الروح القدس لا من أجل نفسه بل من أجلنا نحن البشر، لأننا به وفيه ننال نعمة فوق نعمة.
فترون أن المسيح حبًا في خلاصنا وفدائنا أخذ صورتنا، وفي هذه الصورة إخلاء ما بعده إخلاء للطبيعة الإلهيّة، وكيف يمكن أن يكون فقيرًا إن لم ينزل إلى درجة فقرنا وعوْزنا، وكيف كان يمكن أن يُخلي نفسه إذا لم يقبل اِحتمال الطبيعة البشريّة؟!
والآن وقد أخذْنا المسيح مثلْنا الأعلى فلِنقترب إلى نعمة العماد الأقدس، وبذلك نجرُؤ على الصلاة بجِدٍ وحرارة، ونرفع أيدينا المقدَّسة إلى الله الآب، فيفتح لنا كُوَى السماوات… (القدِّيس كيرلس الكبير)
هؤلاء ظهروا كمنفصلين لفهمنا، لكنهم بالحقيقة ثالوث غير منفصل. ( القدِّيس أغسطينوس )
لنتأمَّل الآن في سر التثليث، فإذ نقول أن الله واحد لكننا نعترف بالآب والابن… الذي أعلن أنه ليس وحده بقوله: “وأنا لست وحدي لأن الآب معي” (16: 32)… والروح القدس حاضر، الثالوث القدِّوس لن ينفصل قط. ( القدِّيس أمبروسيوس )
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح
📖 كلمات من نور 🕯 {نِعَم المعمودية}
أجاب يوحنا قائلاً: “أنا أعمّدكم بالماء، ولكن يأتي بعدي من هو أقوى منّي، من لست أهلاً أن أحلّ رباط حذائه. هو سيعمّدكم بالروح القدس والنّار”.(لو ٣: ١٦).
👑⚱🕊🔥🕊
- الماء ترمز إلى الطبيعة البشرية الضعيفة. ومعموديّة الماء تحضّر هذه الطبيعة، لتتقبّل النعمة الإلهية.
- الأقوى من يوحنّا: قوّة النبي تأتي من الله، والأقوى منه، هو الله نفسه ☝ إشارة إلى المسيح.
- تواضَع يوحنّا، واعترف أنه لا يستحق أن يحلّ بيديه رباط حذاء الربّ، لكن تواضع يسوع جعله يضع يده على رأسه.
- معموديّة الروح 🕊 تقدّس الطبيعة البشرية الترابية الهشّة، وتوحّدها بالربّ اللامتناهي، تحرّرها من سجن الزمن المنتهي، وتفتحها على أفق الأبد اللاّمتناهي.
- اعتمد يسوع، وغطس في عمق هشاشتنا، وموتنا، لنعتمد نحن باسمه، ونلبس إنسانيته الكاملة، ولاهوته المقدس.
معمودية النّار🔥 النّار هي نار الحبّ الإلهي، التي تطهّر جمًّا من الخطايا.
المجد والحمد والتسبيح والشكران، لك أيها الربّ يسوع المسيح. لانّك اعتمدت آخر النّاس، ولأنّك أنعمت على يوحنا، الذي اعترف أنه ليس أهلا أن يحلّ رباط حذائك، بأن يضع يده على رأسك. وانعمت علينا أن نعتمد بالروح القدس🕊والنّار🔥الحمد والمجد والشكر لك.☝
👈 تجديد مواعيد العماد:
إني بوعي وحرّية والتزام، أكفر بروح العالم والشيطان، وبكل المغريات التي يروّجانها.
- إني بكامل وعيي وحرّيتي، أجدّد مواعيد عمادي، وأعلن إيماني بالله الثالوث، الآب والابن، والروح القدس 🕊وأعد الربّ، بأن التزم بتعليم الكتب المقدسة 📖 وتعليم الكنيسة… وأواظب على المشاركة في الأسرار الإلهية، والإلتزام بخدمة المحبة، للأكثر فقرًا، وتهميشًا… وذلك لا بقوتي البشرية، بل بقوة نعمته الإلهية.
👈 صلاة القلب 💜
يا ربّ يسوع، عمّد قلبي بمحبتك.
يا ربّ يسوع، عمّد ضميري، بنور كلمتك 📖
يا ربّ يسوع، عمّد أرادتي بنعمة روحك القدوس. 🔥🔥
- أنرني يا ربّ بنور دنحك 🕊🕊 دنح مبارك.*\
المصدر: كلمات من نور + Biblia Sacra Vulgata + إبائيات
فيلسوف أفلاطوني عن مقدمة “إنجيل يوحنا”: عبارات تستحق أن تُكتب بحروفٍ من ذهبٍ…