لا يعطينا الإنجيل المقدّس تفاصيل كثيرة عن ميلاد يسوع . عن اللحظات التي سبقت وتلت ميلاده. ماريا فالتورتا الإيطالية تلقّت رؤى وأحاديث من الرب يسوع والسيّدة العذراء وشاهدت الكثير من الأحداث الإنجيلية وغيرها التي لم تُذكر في الإنجيل. شرح لها السيّد المسيح سبب منحها هذه النعمة. قال: «أتعرفين يا ماريا ماذا تفعلين؟ بالأحرى ماذا أفعل عندما أجعلك ترين الإنجيل؟ إنها محاولة قوية لجلب الناس إليّ».
شاهدت ماريا أحداث الميلاد بكل تفاصيله وهذا ما كتبته:
في المغارة
ما زلتُ أرى داخل هذا الملجأ الحجريّ الفقير، حيث وَجَدَ يوسف ومريم ملاذاً يُشارِكون به الحيوانات المصير.
النار الخفيفة تغفو مثل حارسها. ترفع مريم رأسها بهدوء من فراشها وتنظر فترى يوسف وقد تدلّى رأسه على صدره كما لو كان يفكّر، واعتَقَدَت أنّ التعب قد تغلّب على إرادته الطيّبة بالبقاء متيقّظاً، وتبتسم ابتسامة لطيفة، وتَجلُس مُحدِثَة مِن الضجة ما يقلّ عن الذي تحدثه فراشة على زهرة، ثمّ تجثو. إنّها تصلّي بابتسامة مشرقة على وجهها. تصلّي ويداها ممدودتان، ليس بالضبط على شكل صليب، إنّما كفّاها متّجهتان إلى الأمام نحو الأعلى. ولم يَظهَر عليها التعب من هذا الوضع الشاقّ. ثمّ تَسجُد فيُلامِس وجهها العَلَف في صلاة عميقة جدّاً. صلاة طويلة.
يتنبّه يوسف فيجد النار شبه مطفأة والإسطبل في شبه ظلمة. يرمي قبضة من القشّ فتعود النار لتتأجّج، ثمّ يضيف أغصاناً أكثر غلاظة، ثمّ أكثر غلاظة، ذلك أنّ البرد لاذِع، إنّه برد الليلة الشتويّة الساكنة الذي يخترق كلّ الأمكنة في هذه الأنقاض. يوسف المسكين القريب من الباب – لِنُسَمِّ الفتحة التي يحاول سدّها بمعطفه هكذا- يُفتَرَض أنّه تجمّد من البرد. يُقَرِّب يديه من النار وينزع حذاءه ليُدني قدميه منها كذلك. وعندما تشتعل النار بشكل جيّد ويسطَع نورها، يلتَفِت فلا يرى شيئاً ولا حتّى بياض وشاح مريم الذي يمتدّ ناصعاً على العَلَف العاتم. فينهَض ببطء ويدنو من المرقد.
يسألها: «ألا تنامين يا مريم؟» ويكرّر السؤال ثلاث مرات إلى أن تتنبّه وتجيبه: «إنّني أصلّي.»
«ألستِ تحتاجين شيئاً؟»
«لا يا يوسف.»
«حاولي أن تنامي قليلاً، أن تستريحي على الأقلّ.»
«سأحاول، ولكنّ الصلاة لا تتعبني.»
«سلاماً يا مريم.»
«سلاماً يا يوسف.»
تعود مريم إلى وضعيّتها. أمّا يوسف فَلِكي لا يغلب عليه النوم يجثو قرب النار ويصلّي. يصلّي ويداه تغطّيان وجهه. لا يرفعهما إلّا حينما يريد تلقيم النار وثمّ يعود إلى صلاته الحارّة. يخيّم الهدوء فلا يُسمع شيء سوى طقطقة الخشب وصوت حوافر الحمار التي تضرب الأرض بين الفينة والفينة. تنزَلِق حُزمة من ضوء القمر عَبرَ صدع من السقف وتبدو وكأنّها صفيحة فضيّة غير ماديّة تبحث عن مريم. تتطاول رويداً رويداً مع تصاعُد القمر إلى أن تَبلُغ إليها. وها هي على رأس التي تصلّي، تحيطها بهالة من البياض الناصِع الزاهي.
ترفع مريم رأسها وكأنّها تنادي السماء، وتجثو من جديد. آه! كم هو جميل هذا المكان! وترفع رأسها الذي يبدو مشرقاً بضوء القمر الأبيض، وتتجلّى بابتسامة لا بشريّة. ماذا ترى؟ ماذا تسمَع؟ ماذا تختَبِر؟ ما مِن أحد غيرها يمكنه أن يقول ما الذي كانت تراه وتسمَعه وتختَبِره في ساعة أمومتها الساطعة. أتنبّه إلى أنّ الأنوار حولها تنمو، تنمو وتنمو حتّى لكأنّها هابطة من السماء، وتنبَعِث من الأشياء الفقيرة المحيطة بها، بل إنّها تنبَعِث منها هي بشكل خاص.
النور يملأ المغارة
ثوبها اللازورديّ الداكن يغدو الآن ذا لون أزرق ونعومة سماويّة، وجهها ويداها تبدو قد أصبَحَت بلون لازورديّ، كما لو أنّها تحت وهج سفير (أو زفير، وهو حجر كريم) واسع ساطع. هذا اللون يذكّرني، ولو بشكل أقلّ، بالذي اكتشفتُه في رؤيا الفردوس المقدّس وكذلك في رؤيا وصول المجوس. إنّها تنتشر دائماً باطّراد على الأشياء وتكسوها وتطهّرها وتنقل إليها تألّقها.
ينبَعِث النور باطّراد من جسم مريم، وتمتصّ نور القمر حتّى لكأنّها تجذب إليها كلّ ما يأتي من السماء. مع ذلك فهي مسـتودع النـور، وهي التي يُفترَض فيها إعطاء هذا النور للعالم. وهذا النور الإلهيّ المشعّ والأزليّ، غير المقاوَم والذي لا يقاس والذي سيُعطَى للعالم، يعلن عن نفسه بفجر وقرع أجراس وإيقاظ نور جوقة جزيئات ضوئيّة تكبر وتمتدّ مثل مدّ صاعد، صاعد بتلافيف عظيمة من البخور، وتهبط مثل سيل جارف ينتشر كالشراع…
القُبّة المغطّاة بالصدوع وخيوط العنكبوت، والأنقاض ببروزاتها، تبدو متوازنة بشكل عجائبيّ، إنّها سوداء داخنة منفردة، ومع ذلك تبدو قُبّة قاعة ملكية، كلّ حجر فيها سبيكة فضّة، وكلّ صدع لمعان خزف، وكلّ نسيج عنكبوت مظلّة عرش مرصّعة بالفضّة والماس. وعظاءة كبيرة مسترخية بين حجرين كبيرين، تبدو وكأنّها عقد زمرّد نسيَتهُ هنا إحدى الملكات؛ سرب من الوطواط الخامل يبثّ نور العقيق الثمين. والعَلَف المتدلّي من المذود العالي لم يعد عشباً، إنّما خيوط من الفضّة ترتعش في الهواء برشاقة شعر طويل مسترسِل.
المذود السفليّ، بخشبه السميك، أصبَحَ سبيكة فضّة بُنيّة. الجدران مغطّاة بحرير مقصّب حيث يختفي بياض الحرير تحت توشية اللآلئ البارزة. أمّا الأرض… تُرى ماذا أصبَحَت الأرض الآن؟ كريستال مضيء بنور أبيض. تبدو النتوءات كأنّها ورود مضيئة مرميّة على الأرض تعبيراً عن الإجلال؛ والثقوب كؤوس ثمينة ينبَعِث منها الأريج والعطور.
ميلاد يسوع
تتوهّج الأنوار باستمرار حتّى لم تعد تتحمّلها عين. وتغيب العذراء فيها كأنّها غارقة في وِشاح نور متوهّج… لتنبَعِث منه وهي الأُمّ.
نعم، عندما أصبَحَت عيناي تتحمّلان النور، رأيتُ مريم مع ابنها المولود بين يديها، وليداً صغيراً ورديّاً ربيلاً يتحرّك ويتخبّط بيديه السمينتين مِثل برعم وردة، ورجلين صغيرتين تتماشيان مع قلب وردة. يصيح بصوت مرتَجِف تماماً مثل صوت حَمَل مولود حديثاً، فاتحاً فاه الأحمر مثل توت الغابة، مُظهِراً لسانه الصغير يُلاطِم سقف حلقه الورديّ، يحرّك رأسه الصغير الأشقر لدرجة تخاله معها دون شعر، رأس صغير مدوّر، تحمله أمّه في باطن أحد كفّيها بينما هي تنظر إلى ابنها وتعيده، باكية وضاحكة معاً، ثمّ تنحني لتطبع عليه قبلة، ليس على الرأس البريء، بل في منتصف الصدر الذي يكمن تحته قلبه الصغير الذي يخفق ويخفق من أجلنا… هنا يَسكُن القلب الذي سيُجرَح يوماً. وأمّه تضمّد مسبقاً هذا الجرح بقبلة المنزّهة عن العيب الطاهرة.
الثور الذي أيقَظَه النور يَهبّ محدثاً جلجلة كبيرة بحوافره ويخور. والحمار يرفع رأسه وينهق. لقد أيقظهُما النور، إلّا أنني أُفَضِّل التفكير بأنهما أرادا تحية خالقهما بالأصالة عن نفسيهما وبالنيابة عن كلّ الحيوانات.
ويوسف أيضاً، وكَمَن هو في حالة انخطاف، كان يصلّي بحرارة أكبر بحيث كان مُنسَلِخاً عن كلّ ما يحيط به، ويهتزّ حين يرى النور يتسرّب بين أصابعه التي يغطي بها وجهه. يكشف عن وجهه، يرفع رأسه ويدور. الثور الواقف يحجب مريم عنه، ولكنّها تناديه: «يوسف، تعال.»
يهرَع إليها، ثمّ يتوقّف أمام المشهد مشدوهاً من جلاله، يكاد يقع على ركبتيه في المكان الذي هو فيه. إلّا أنّ مريم تلحّ: «هلمّ يا يوسف.» وتستَنِد بيدها اليسرى على القش حاملة باليد اليمنى الطفل الذي تضمّه إلى قلبها، تنهَض وتتوجّه صوب يوسف الذي كان يمشي بتردّد مأخوذاً بين رغبة التقدّم والخوف من كونه غير جدير بذلك.
ويلتقي العروسان عند نهاية المفرَش، وينظر واحدهما إلى الآخر وهما يبكيان من السعادة. تقول مريم: «هلم نُقدِّم يسوع للآب.»
وبينما يجثو يوسف، وتنتَصِب مريم واقفة بين العارضتين اللتين تحملان القُبّة، وترفع مولودها بين يديها وتقول: «ها أنا ذا. مِن أجله، أيّها الإله، قد قلتُ لكَ كَلِمَتي. ها أنا ذا لأتمّم مشيئتكَ. ومعه أنا مريم ويوسف عروسي. هـا نحن عـبداكَ أيّها الربّ. فلتتمّ فينا في كلّ ساعة وكلّ ظرف مشيئتكَ لمجدكَ وحبّكَ.» ثمّ تنحني مريم وتقول: «خذه يا يوسف.» وتعطيه الولد.
«أنا! لي أنا! آه! لا! لستُ أهلاً!» وكان الخوف يملأ يوسف وهو يتلاشى أمام فكرة وجوب لمس الله.
إلّا أنّ مريم تلحّ وهي تبتسم: «أنتَ تستَحِقّ ذلك بحقّ. ما مِن أحد يستحقّ ذلك أكثر منكَ. فَلِأجل هذا اختاركَ الله. خذه يا يوسف، أمسكه ريثمّا أبحث عن الأقمطة.»
يوسف أحمر كالأرجوان، يمدّ يديه ويأخذ برعم الجسد الصغير الذي يصرخ لأنّه يشعر بالبرد. يأخذه بين ذراعيه وفي نيّته أن يحمله بإجلال بعيداً عنه، لكنّ ذلك لم يَدُم، فقد ضمّه إلى قلبه وانفَجَر بالبكاء: «آه! ربّي! وإلهي!» وينحني ليقبّل قدميه الصغيرتين فيحسّ بهما باردتين، فيَجلِس على الأرض ويضمّه إلى صدره، وبثوبه الكستنائيّ وبيديه يبذل كلّ ما في وسعه ليغطّيه ويدفئه وليحميه من صقيع الليل. لقد أراد أن يذهب إلى جهة النار، ولكن هناك تيّار هواء يدخل من الباب. من الأفضل البقاء حيث هو. بل الأفضل أن يذهب بين الحيوانين اللذين سيحميانه من تيّار الهواء ويمنحانه القليل من الدفء. ويذهب ليقف بين الثور والحمار وظهره إلى الباب، وينحني على المولود الجديد ليجعل له من صدره كوخاً، جدرانه رأس رماديّ بأذنين طويلتين ووجه كبير أبيض ومنخرين يدخّنان وعينين طيّبتين رطبتين.
المذود
تفتح مريم الصندوق وتَسحَب الفوط والأقمطة وتذهب قرب النار لتدفئها. ثمّ تذهب صوب يوسف لتَلُفّ الصغير بالأقمشة الـمُسَخَّنة ثمّ تحمي رأسه الصغير بوشاحها وتقول: «أين سنضعه الآن؟»
ينظُر يوسف حوله ويفكّر… ثمّ يقول: «انتَظِري، لِنُبعِد الحيوانين قليلاً مع عَلَفهما، ولِنُنزِل القشّ من المذود العالي ولنضعه هنا في الداخل. حافّة المذود ستحميه من الهواء، والعَلَف سيكون له بمثابة الوسادة، والثور يدفئه بِنَفَسه. الثور أفضل فهو أكثر صبراً وهدوءاً.» ويباشر يوسف العمل بينما مريم تهدهد طفلها وهي تضمه إلى قلبها مُسنِدَة خدّها على رأسه الصغير لتدفئه.
يذكي يوسف النار دون تبديد الحطب ليحصل على لهب جميل. إنّه يُدَفّئ القشّ ويجفّفه قليلاً، قليلاً ويضعه على صدره ليمنع عنه البرد. ثمّ، حين يحصَل على كمّية كافية مُكَدَّسة ليصنع منها فراشاً للطفل، يذهب إلى المذود ويرتّبه ليجعَل منه مَهداً. ثمّ يقول: «لقد أصبَحَ جاهزاً، والآن يلزمنا غطاء يحميه مِن وَخز القش ولكي نغطيه…»
فتقول مريم: «خُذ معطفي.»
«ستشعرين بالبرد.»
«آه! هذا لا يهمّ! فالغطاء خشن جدّاً، والمعطف ناعم ودافئ. أنا لستُ أشعر بالبرد أبداً. إنّما هو فلا يعانين بعد.»
يأخُذ يوسف المعطف الفضفاض من الصوف اللين الأزرق الداكن ويرتّبه مضاعفاً على القشّ مع ثنية تتدلّى خارج المذود. أوّل سرير للمخلّص أصبَحَ جاهزاً.
والأمّ، بمشيتها الناعمة المتموّجة، تحمله وتضعه فيه، وتغطّيه بثنية المعطف التي تجعلها كذلك حول رأسه العاري الـمُنغَرِس في القشّ وهو بالكاد محميّ من الوخز بوشاح مريم الرقيق. ولم يبق دون غطاء سوى الوجه الصغير السمين مثل القبضة، والإثنان منحنيان على المذود وهما متألِّقان يَنظُران إليه وهو ينام لأوّل مرة. فدفء الأقمطة والقشّ يوقف بكاءه ويجلب النوم لعيني يسوع العذب.