«عَرفَ الثور قانِيه، والحمار مَعلفَ صاحِبه، أمّا شعبي فلم يعرف وإسرائيل لم يَفهم»
(أشعيا 1: 3).
في أيقونة الميلاد البيزنطية، يظهر دائماً خلف المذود، ثورٌ وحمار، ونراهما يتطلّعان إلى المسيح المُضطجع فيه. إن وجودهما في الأيقونات المقدسة والأرثوذكسية تخصيصًا ليس لمجرد الإشارة إلى أن المسيح ولد في مغارةٍ وضيعة فيما بين البهائم، التي قد تكون إحتوت على حيواناتٍ أخرى كالخِراف والماعز والدجاج وغيرها!
لماذا إذاً هذين الحيوانين بالذات؟
لطالما كانت الأيقونات المقدسة والأرثوذكسية “مدرسة لاهوتية” بكل ما تحتويه من تفاصيل، فتُرمي إلى أخذنا إلى أعماقٍ بعيدة من وراء الحدث، وتهدف إلى تعليمنا حقائق لاهوتية وكتابية عبر ما تكتبه لنا بألوانها، وتسمو بنا إلى التأمُّل في عظمة السرّ الإلهي المُعلَن لنا. فوجود “الحمار والثور” هنا بالذات، لهما مدلول روحي ولاهوتي عميقين، لأنهما يشيران إلى نبؤة أشعيا النبي الواردة في العهد القديم، والذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد، وكتب في نبؤته يقول:
«عَرفَ الثور قانِيه، والحمار مَعلفَ صاحِبه، أمّا شعبي فلم يعرف وإسرائيل لم يَفهم» (أشعيا 1: 3).
وهذه الآية فيها توبيخٌ لبني إسرائيل الذين بغالبيتهم العُظمى رفضوا المسيح، وتنكّروا له ولم يؤمنوا به “جاءَ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ” (يوحنا1: 11) حيث يقول لهم الربّ على لسان نبيّه أشعيا، إن “الثور والحمار” يستطيعان أن يعرفا الإنسان الذي يمتلكهما ويهتمّ باطعامهما، أما أنتم يا بني إسرائيل فقد إنغلقت عيونكم عن رؤية وإدراك الفداء والخلاص الذي صنعته لكم، وتقسَّت قلوبكم عن معرفتي أنا الإله الذي ظهر على الأرض متجسداً، والذي كُتبَ عني في الناموس الذي عندكم، وتنبأ عني الأنبياء الذين تؤمنون بهم وتقرؤون أسفارهم..
إن هذا التوبيخ الموجّه لليهود من جهة، يمكننا نحن أيضاً أن نلمس فيه توبيخاً لكل واحد منا على قساوة قلبه، وذلك عندما نتنكّر لكل إحسانات الرب لنا في حياتنا، وتنغلق أذهاننا عن فهم كل ما يُدبّره ويصنعه باستمرار من أجل خيرنا وخلاصنا، فنقابل مراحمه وإحسانه لنا بالنكران والجحود والابتعاد عنه، عندئذٍ تصبح البهائم غير العاقلة، حافظةً للجميل أكثر منا نحن البشر المخلوقين على صورة الله ومثاله!
ومن جهة أخرى يشير الثور إلى الناموس وذبائح العهد القديم التي كانت تُقدّم في هيكل أورشليم، والتي كانت الثيران أشهرها، بالتالي يرمز “الثور” إلى أمّة اليهود المرتبطة بالله عبر شريعة موسى وذبائح الناموس الطقسية، بينما يشير “الحمار” إلى الأمم الوثنية التي لم تكن تعرف الله، والذين كانوا سالكين في عبادة الأصنام وعمل الرجاسات الكثيرة، حيث أن الحمار كان من الحيوانات “النجسة” والمحرّم أكلها بحسب شريعة موسى (لاويين 11) وهذا ما يُبيّنه لنا القديس غريغوريوس النيصَصي في قوله: “الثور إشارة إلى اليهود المرتبطين بالناموس، والحمار إشارة إلى الأمم الرازحين تحت وطأة عبادة الأوثان.”
هكذا فإن المسيح بميلاده يدعو الجميع، من اليهود والأمم لكي يعرفوه إلهاً متجسداً آتياً إلى العالم لخلاص الكل، ويوحّدهم ويجمعهم معاً في كنيسة واحدة، وهذا ما رأينا رسمه في أيقونة الميلاد الأرثوذكسية، حيث جاء الرعاة يُمثّلون باكورة شعب اليهود، وجاء المجوس من بلاد الفُرس يمثّلون باكورة الوثنيين، وهناك في بيت لحم سجدوا لقدوس واحد، ورب واحد، يسوع المسيح، في مجد الله الآب. آمين.
بقلم: رومانوس الكريتي
صفحة: العقيدة الأرثوذكسية المقدسة