قال رئيس الوزراء البريطانيّ ونستون تشرشل يومًا عن الطّيران البريطانيّ: “ليس ثمّة مجالٌ للمُقارنة بين طائراتنا المُقاتلة وطائراتهم (الأَلمان). فالطّائرات الأَلمانيّة أَسرع وأَكثر قُدرةً على الصُّمود. وأَمّا طائراتنا فأَكثر مُناورةً، وأَحسن تسليحًا. وقد كان الطيّارون الأَلمان واثقين مِن تفوُّقهم العدديّ، كما وكانوا مُعتزّين بالانتصارات الّتي حقّقوها في بولندا والنّروج والأَراضي المُنخفضة وفرنسا. وأَمّا طيّارونا، فكانوا يثقون ثقةً هائلةً بتفوّقهم الفرديّ، وكانوا يتحلَّون بذلك التّصميم الّذي هو طابع الشّعب البريطانيّ في أَوقات المَكارِه والأَزمات الشّديدة. وقد تمتّع بمزيةٍ استراتيجيّةٍ مُهمّةٍ واستغلّها أَوسع استغلالٍ، إِذ تفرّقت قُوّات الأَلمان وانتشرت في قواعدَ واسعةٍ للغاية، وكان في إِمكانها أَن تُركّز علينا بأَعدادٍ ضخمةٍ مع اتّخاذ كُلّ الوسائل والحيَل والابتكارات، لتبديد أَفكارنا وعدم معرفة النّقاط الحقيقيّة الّتي يستهدفونها”…
لكنّ الشّعب البريطانيّ ظلّ قويّ العزيمة على رُغم كلّ شيءٍ… وثابتًا على رُغم الصُّعوبات الجمّة، فلم تلِن قاعاته أَمام الكوارث، ولا تعب تصميمه مِن هَول الشّدائد. كما وكان إِخفاق المُحاولات الأَلمانيّة الدّؤُوبة لقهر بريطانيا، عن طريق الغارات الجويّة، بين العوامل الرّئيسيّة الكُبرى في إِلحاق الهزيمة بأَلمانيا في نهاية المطاف. وكُلُّ ذلك بفضل اثنَيْن: ماردٍ على رأس الحُكم البريطانيّ، وشعبٍ جبّارٍ لا يركع ولا يستسلم…
واصلت لندن الحرب، وأَيّدتها في خُطوتها المُستعمَرات البريطانيّة، وقد سخَت عليها بالرّجال والعِتاد، فما اقتصر عمل قُوّات سلاح الجوّ البريطانيّ على ردّ غارات “العدوّ” الأَلمانيّ، بل وغزا هذا السّلاح الأَلمان في عُقر دارهم ولَو ضُمن نطاقٍ ضيّقٍ. فضربات الشّعب المُدافع عن أَرضه، تكُون إِجمالًا قاسيةً، ولا ترحم المُهاجمين!.
لذا فقد أَرسل البريطانيُّون طائراتهم لتدمير مصانع البترول الصّناعيّ في غرب أَلمانيا، والمُنشآت الصّناعيّة في “الرّوهر”، والموانئ وأَحواض السُّفن الأَلمانيّة. إِلَّا أَنّ المعركة الحقيقيّة كانت في سماء بريطانيا، بين الطّائرات الإِنكليزيّة والأَلمانيّة. لقد استفاد البريطانيّون مِن ذلك، لأَنّ الطّائرات المُغيرة على لندن لم يكُن في مقدورها القيام بذلك لأَكثر مِن 20 دقيقة، خوفًا من نقصٍ في وَقودها. وأمَّا قُدرة الطّائرات البريطانيّة على التّحليق فكانت، بطبيعة الحال، أَكبر. وبالتّالي كان يكفي أَن “تُلهي” المُقاتلات البريطانيّة طائرات الأَلمان في الجوّ، حتّى تنفذ كميّة الوقود فيها، فتسقُط مِن تلقاء نفسها!. كما واستفاد الإِنكليز مِن ناحيةٍ ثانيةٍ، إِذ تمكّنوا مِن أَسر الطيّارين الأَلمان الّذين كانت تسقط مُقاتلاتهم في الأَراضي البيرطانيّة، فيما كان الطيّار البريطانيّ يُعاود “كفاحه” بعد حينٍ مِن سُقوط طائرته المُقاتِلة.
إِضافة إِلى ذلك فقد استفاد ونستون تشرشل مِن اختراعٍ عسكريّ جديدٍ في أَثنائه، وهو “الرّادار”، ذاك الاختراع الخطير الّذي استُخدِم في الحرب العالميّة الثّانيّة للمرّة الأُولى. و”سلاح الرّادار” هُو أَحد أَسباب الانتصار البريطانيّ في الحرب العالميّة الثّانية.
و”الرّادار” بالإِنكليزيّة أَو “الكاشوف” بالعربيّة، هو نظامٌ يستخدم موجاتٍ كهرومغناطيسيّةً للتّعرُّف على بُعد الأَجسام الثّابتة والمُتحرّكة وارتفاعها، واتّجاهها، وسرعتها، كالطّائرات، والسُّفن، والعربات… وكذلك يرصد “الكاشوف” حالة الطّقس وشكل التّضاريس. ويبعث جهاز الإِرسال موجاتٍ لاسلكيّةً تنعكس بواسطة الهدف، فيتعرف إِليها جهاز الاستقبال. وتكون المَوْجات المُرتدّة إِلى المُستقبل ضعيفةً، فيعمل جهاز الاستقبال على تضخيم تلك المَوْجات، ما يُسهّل على “الكاشوف” أَن يُميّز المَوْجات المُرسلة عن طريقه، مِن المَوْجات الأُخرى كالمَوْجات الصّوتيّة ومَوْجات الضّوء. ويُستخدَم “الكاشوف” في مجالاتٍ كثيرةٍ كالأَرصاد الجويّة لمعرفة موعد هُطول الأَمطار، والمُراقبة الجويّة، ومِن الشُّرطة لكشف السُّرعة الزّائدة، وأَخيرًا والأَهم استخدامه في المجال العسكريّ.
وقد سُمّي “الرّادار” بهذا الاسم اختصارًا للعبارة الانكليزيّة (RAdio Detection And Ranging)، وتعني الكشف وتحديد المدى بالموجات اللاسلكيّة.
وتكمُن المُفارقة في أَنّ أَوّل مَن استعمل المَوْجات اللاسلكيّة للكشف عن وجود أَجسامٍ معدنيّةٍ مِن بُعد، كان العالِم الأَلمانيّ كريستيان هولسماير، الّذي كشف عن وجود سفينةٍ في الضّباب، ولكن مِن غير تحديد المسافة، وقد كان ذلك في العام 1904.
وبالعودة إِلى لندن خلال الحرب العالميّة الثّانية، فإِنّ الخشية مِن تشرشل مُضاعفَة: مرّةً لأَنّه صاحب حقٍّ مشروعٍ في الدّفاع عن بلاده في وجه المُعتدين عليها، ومرّةً ثانيةً لأَنّه كان يُعدّ للأَلمان مُفاجآتٍ ما كانوا يومًا راضين عنها، ولعلّ مِن أبرزها استخدامه “الكاشوف” عام 1940.
كما وطوّر تشرشل صناعة الطّائرات، وفي مُقابل كُلّ طائرةٍ خسرها الشّعب البريطانيّ، كانت تتمّ صناعة طائرةٍ أَو أَكثر، لتحلّ مكان الطّائرة المفقودة. وفي أَواخر العام 1940، دفعت بريطانيا إِلى المعركة 9924 طائرةً، في مُقابل 8070 طائرةً أَلمانيّة. وللحديث صلة.
رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ
- “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.