في 24 آب 1940، انصبّ على لُندن للمرّة الأُولى، وابلٌ مِن القنابل، أَشعل حرائق كثيرةً في أَحياء المدينة. وبعدما عاين رئيس الوزراء ونستون تشرشل الأَضرار، وتفقّد الشّوارع الّتي تقطّعت أَوصالها، بسبب الأَضرار الجسيمة في المُمتلكات، كان ردّه سريعًا بأَن أَعطى أَوامره للطّائرات الملكيّة بالإِغارة على برلين. وفعلًا فقد أَغارت 80 طائرة بريطانيّة في الليلة التّالية مُلقيةً القنابل على بعض أَحيائها، وقد كان تأثيرها المعنويّ أَقوى مِن الأَضرار الّتي تسبّبت بها. كما وأَعادت المُقاتلات البريطانيّة الكرّة مرّاتٍ عدّة في الليالي المُتعاقبة.
غضب أَدولف هتلر كثيرًا، وتوعّد بالانتقام، وأَوّل مدينةٍ بريطانيّةٍ نفّذ مِن خلالها تهديده الصّارم كانت ليفربول، الّتي أُلقيت عليها القنابل المُحرقة، مُخلِّفةً أَضرارًا فادحةً، غير أَنّ المدينة صمدت، وفي ذلك فضلٌ للقائد البريطانيّ ونستون تشرشل الّذي عرف كيف يُغضب عدوّه ويشلّ تفكيره، وبالتّالي فقد أَنزله مِن مُستوى القيادة العسكريّة إِلى مُستوى الغريزة.
رُبّما ليس من الصّعب إِخراج هتلر عن صوابه، أَليس هو نفسه، القائل بوحي من كبريائه وتشاوفه: “إِنّ فخري هو أَنّني لا أَعرف رجل دولةٍ في العالم، له الحقّ في أَن يدّعي تمثيل شعبه أَكثر منّي”؟.
بين 24 آب و6 أَيلول 1940، تركّز القصف الأَلمانيّ على المُنشآت العسكريّة البريطانيّة، وخُطوط المُواصلات، ما كاد أَن يُؤدّي إِلى الانهيار الشّامل، لولا قرار تشرشل بأَن يكون الردّ على الاعتداءات الأَلمانيّة باستهداف العاصمة برلين، ما جعل هتلر يُستدرَج لقصف لندن وليفربول، فارتكبت القيادة الأَلمانيّة خطأً تكتيكيًّا في توجيه الهجمات نحو الأَهداف المدنيّة ليلًا ولمُدّة 82 ليلة مُتواصلة…
في 7 أَيلول 1940، اخترقت القاذفات الأَلمانيّة نطاق المدفعيّة “اللُندنيّة” المُضادّة للطّائرات، وصبّت حممها على مصانع الأَسلحة وأَحواض السُّفن والأَحياء المُجاورة الآهلة بالسُّكّان، وقد حقّقت إِصاباتٍ مُباشرةً، فتكاثفت فوق نهر “التّايمز” لُهب النّار، وأَضاءَت الجسر والبرج معًا، كما وأَلقت على شوارع المدينة انعكاساتٍ كاشفةً، دفعت القاذفات الأَلمانيّة إِلى صبّ حُمولتها على المكان المُشعّ بالنّيران. وأمّا تشرشل فكان يُردّد دائمًا: “في وسع بريطانيا أَن تتحمّل… النّصر لنا”.
لقد كان الطّيران الأَلمانيّ يتوهّم بعد كُلّ غارةٍ، أَنّ بريطانيا ستركع مُستسلمةً، لكنّ الأَيّام كانت تُكذّب تلك الأَوهام!. وبقيت بريطانيا قادرةً على الاستمرار في المعركة بزخمٍ أَكبر وثقةٍ لا تتزعزع بالنّصر الآتي حتمًا!. وأَمّا سلاح الجوّ البريطانيّ، فلم يتحطّم ولا فقد فاعليّته على رُغم كُلّ شيءٍ… وقد استبسل الطيّارون البريطانيّون في الدّفاع عن أَرضهم أَعظم استبسالٍ!. ودمّروا – بحسب الأَرقام الرّسميّة – 1733 طائرةً أَلمانيّةً ما منع بالتّالي مِن تحويل الهجمات الأَلمانيّة إِلى غزوٍ فعليٍّ لبريطانيا. ومع ذلك واصل الأَلمان قصفهُم المُدن البريطانيّة، وأَغاروا على “ليفربول”، و”بريستل”، و”كوفنتري”، و”برمنغهام” و”منشستر”، وقد بلغ عدد الضّحايا خلال الغارات 23،000 قتيلٍ في 5 أَشهُر (مِن آب إِلى كانون الأَوّل 1940). وللحديث صلة.
رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ
- “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.