أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


صانعو التّحرير 12 – الأَنظار إِلى ديغول مُجدّدًا لمُكافحة الفساد ومنع التّدهور

   لولا وحدة الصّفّ لما تمكّن الفرنسيُّون مِن استرجاع استقلالهم. فالمُقاومة تأَلّفت مِن القُوّات الفرنسيّة الآتية مِن أَفريقيا، وكذلك مِن القُوّات الدّاخليّة. لقد سقطت كُلّ الحساسيّات، حين كان الوطن مُهدّدًا!.

   إِنّ القُوّات الفرنسيّة الآتية مِن الجزائر والمغرب وتونس، وعلى رُغم تفرُّقها في الماضي، إِلَّا أَنّها عادت تُبدي غيرةً جماعيّةً على وحدة صُفوفها، لأَنّ المصير واحدٌ، والشّعب واحدٌ مهما كان.

   إِنّ وحدة الصّفّ، ومُلكيّة الحقّ المشروع في الدّفاع عن الوطن، أَتاحتا للفرنسيّين تحقيق انتصاراتٍ ضاهت تلك الّتي حقّقها الأَميركيُّون والبريطانيُّون. وقد وقف الفرنسيّون على قدم المُساواة مع الحُلفاء، بدليل ضخامة عدد الجُنود الأَلمان الّذين أُوكلت إِليهم مهمّة “قمع” المُقاومة الوطنيّة في فرنسا.

   لقد تحرّرت فرنسا، والثّمن حوالي 600،000 شهيدٍ، بينهُم 250،000 عسكريٍّ و350،000 مدنيٍّ، وأَمّا الأَسرى الفرنسيّين والمُعتقلين، فحوالي مليونَين ونصف المليون.

   قد يكون مِن المُؤلم استمرار الحرب، بالنّظر إِلى تكلفتها الباهظة في الأَرواح والأَرزاق، ولكن إِذا أُخذت مصلحة فرنسا في الاعتبار، فكُلُّ مواطنٍ كان مع استمرارها حتّى النّهاية.

دعم الخزينة

   بعد استرداد الأَرض وتحريرها، بات على الشّعب الفرنسيّ دعمُ الخزينة الوطنيّة، وبالتّالي منع تدهور النّقد، فشخصت أَنظار الأُمّة إِلى الجنرال ديغول، صانع التّحرير، ليُنقذ بلاده هذه المرّة مِن رواسب الأَيّام العصيبة، فيُواجه الفرنسيّون معًا “وباء” الفساد، كما واجهوا معًا الاحتلال، إِلى أَن اقتلعوه مِن جُذوره!.

   وأَمّا حُكّام “فيشي” السّابقُون، فقد انحنَوا أَمام الواقع الفرنسيّ الجديد. وإِذا كان الجنرال “بيتان” المُقيم في أَلمانيا، لم يكُن يعلم ما ينبغي قوله، فالمُوظّفون والدّيبلوماسيُّون والعسكريُّن وغيرهم مِن المحسوبين عليه، أَحسنوا إِيجاد المُبرّرات اللازمة لـ “تبرئة” سُكوتهم عن احتلال الوطن ورُضوخهم للمحتلّ. 

   وتشكّلت حُكومةٌ مُوقّتةٌ بعد تحرير فرنسا، وقد انتُخبَت جمعيّتان لوضع دُستورٍ جديدٍ، فيما انسحبت القُوّات المُحتلّة وبات في إِمكان مُمثّلي الشّعب، الاجتماع حول طاولةٍ واحدةٍ، لِنصّ دُستورٍ لفرنسا، يُجسّد طُموح شعبها الحُرّ. ولأَنّ وعد الحُرّ دَينٌ عليه، فقد أَمرت الحُكومة الفرنسيّة بتشكيل محاكم مُختصّة بمُوجب “مرسوم 24 حزيران”، بعدما كان الجنرال ديغول وعد الفرنسيّين بتصفية الحسابات الدّاخليّة بعد حرب التّحرير.

   لقد باتت في كُلّ مُقاطعةٍ فرنسيّةٍ محكمةٌ يرأَسُها حاكمٌ، أَو هيئةٌ يُعيّنها مُفوّض الجُمهوريّة، وعلى المحاكم تلك، النّظر في قضايا “التّعامُل مع العدوّ”، بحسب القوانين الفرنسيّة المرعيّة الإجراء، وبضماناتٍ شرعيّةٍ كـ “حقّ الدّفاع”، وإِمكان الاعتراض لدى “محكمة النّقض”، وكذلك اللُجوء إِلى رئيس الدّولة. وبقدر ما كانت هذه المحاكم تسير في عملها، كانت السُّلطات المحليّة تحلُّ المحاكم العسكريّة، الّتي شكّلتها “القُوّات الدّاخليّة” خلال المُقاومة.

   وبين الفرنسيّين الّذين تسبّبوا في قتل رجال المُقاومة، سواء عن طريق القتل عمدًا أَو الوشاية، تمّت تصفية حوالي 10،842 عميلًا مِن دُون مُحاكمةٍ نظاميّةٍ، وبين هَؤُلاء 6،675 خلال معارك المُقاومة السريّة قبل التّحرير. وأَمّا الباقون فقد تمّت “تصفيتهم” بعد التّحرير خلال عمليّات انتقامٍ.

   إِلى ذلك فقد نُفّذ حُكم الإِعدام بـ 779 شخصًا بواسطة المحاكم المدنيّة والعسكريّة.

   وقد كان للجنرال ديغول رأيه في موضوع العمالة للاحتلال، إِذ قال: “لقد شاهد الوطن أَفضل أَبنائه، يموتون في سبيل الدّفاع عنه… في احترامٍ ومحبّةٍ، ينشد الوطن سيرة هَؤُلاء الشُّهداء، على رُغم حُزنه. ولكن مِن المُؤسف أَنّ بعض أَبنائه قد سقطوا وهُم في صُفوف العدُوّ. وإِذا كان الوطن يسكُت ويرضى بالقصاص العادل الّذي نزل بهم، إِلَّا أَنّه لا يستطيع إِلَّا أَن يبكيَ أَبناءه المَوتى هَؤُلاء. لكنّ الزّمن يفعل فعله، وفي يومٍ ما ستجفُّ الدُّموع، وتنطفئ الأَحقاد، وتندثر القُيود، ولكنّ فرنسا ستبقى”.

   وبعد عشرة أَسابيع مِن تحرير باريس، اجتمع ديغول مع شعبه المُقاوم، وقد قرّر تسليم مسؤُوليّة الحُكم إِلى رجال المُقاومة، بعد انتهاء الحرب بالكامل، شرط البقاء مُتوحّدين، كما كانوا أَثناء المُقاومة. وقد قال عنهُم: “أَمّا بعدُ، فإِنّ الأَهمّ، سوف يتعلّق بالرّجال المُجتمعين حولي اليوم، في قاعة اللوكسمبورغ. فغدًا سينتخب الشّعب مِنهُم مُمثّليه الشّرعيّين. إِن ظلُّوا مُجتمعين، مِن أَجل النُّهوض، كما هُم مجتمعون مِن أَجل الكفاح، فإِنّ كُلّ الآمال تظلُّ قابلةً للتّحقيق. أَمّا إِذا تركُوني وانقسمُوا على بعضهم البعض، ليتنازعُوا على مظاهر الحُكم، فإِنّ الانهيار سيأْخُذ مجراه مُجدّدًا. ولكنّنا ما زلنا مُتّحِدين، وفرنسا المُحارِبة قد عادت إِلى عُقر دارها، والمُهمّ الآن أَن تعُود إِلى الظُّهور في الخارج.

عاشت فرنسا”.

رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ

______

* “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.