أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


صانعو التّحرير 10 – مِن حرب العصابات إِلى صيف 1944 اللاهب

    إِضافةً إِلى التّقدُّم الميدانيّ الّذي حقّقه “الجبهة الوطنيّة الفرنسيّة”، استفاد الفرنسيُّون مِن “اتّفاقات الإِعارة والتّأجير” بين فرنسا والولايات المُتّحدة. وتزامُنًا فقد ازداد عدد المُتطوّعين – حتّى قبل إِعلان “الجبهة الوطنيّة” قيام “نظام خدمة العلم” – فارتفع عديد رجال “جيش التّحرير الفرنسيّ” حوالي 500،000 شابٍّ، وغالبيّة هَؤُلاء مِن العُمّال ومُسرَّحي “جيش الهدنة”. وكُلّ هذه الورشة الوطنيّة الضّخمة، كان يتمّ سريعًا، وفي تخطيطٍ وعملٍ دؤُوبٍ، وهو لن ينتهي حُكمًّا إِلَّا بالتّحرير النّاجز!. 

   وقد أُسندت أعمال المُقاومة الشّعبيّة إلى شباب المُقاومة الفرنسيّة، فبدأَت “حرب العصابات مع جنود الاحتلال الأَلمانيّ، وارتقى هذا العمل إِلى مُستوى “الواجب الوطنيّ”. وكان لـ “حرب العصابات” تلك، دورٌ بارزٌ في إنهاك العدوّ، فيما سيكون أَثرها بيّنًا في “تنمية معركة فرنسا”.

   وأَبطال الحرب الشّعبيّة شكّلوا تجمُّعاتٍ ضمّ كُلٌّ منها العشرات مِن الرُّفقاء، مع الأَخذ في الاعتبار أَن يكون العدد في كُلّ مجموعةٍ صغيرًا، ولكنّه كافٍ للتّجمُّع في نُقطةٍ واحدةٍ، نظرًا إِلى بُعد المخابئ عن بعضها، ومع الأَخذ في الاعتبار أَيضًا صُعوبة التّموين، علمًا أَنّ المُقاومين الفرنسيّين، كانوا يتوافدون إِلى “مركز المُقاومة” مِن مناطقَ بعيدةٍ، سالكين طريقًا خفيّةً، غير أنّهُم زُوّدُوا بمعلوماتٍ خاصّةٍ، وقد أُرفقت خطواتُهم باحتياطاتٍ كثيرةٍ.

   وتحصّن رجال المُقاومة في ملاجئ حُفرَت في الأَكواخ والمغاور، وأَحيانًا في تخشيبةٍ أَو مزرعةٍ أَو خربةٍ… وقد حمّل هَؤُلاء البرد والشّتاء وبخاصّةٍ القلق!.

   لقد قدّمت المزارع والقُرى المُجاورة المؤُونة إِلى الشّباب، كما وساعد الأَولاد الصّغار والبنات والشّيوخ، رجال المُقاومة، حتّى في حمل أَمتعتهم العسكريّة، وقد تمّ كُلّ ذلك في سريّةٍ تامّةٍ، ما أَزعج المُحتلّ الأَلمانيّ، الّذي بات لا يرحم المُواطنين العُزّل مِن رصاص غدره…

   لقد بدأت الاشتباكات بين “المُقاومة الفرنسيّة” والاحتلال الأَلمانيّ، باشتباكاتٍ خفيفةٍ، وبإِقامة كمينٍ بالقُرب مِن طريقٍ سيسلكها جنود الاحتلال… وكذلك بتعطيل خُطوط سكك الحديد، ونسف القطارات المُحمّلة بالجُنود الأَلمان، أَو بعتادهم، وأَيضًا بمُهاجمة دوريّةٍ “ساهيةٍ”، أَو مركزٍ غير مُتوافرةٍ فيه شُروط الحراسة العسكريّة الآمنة. كما وعمد المُقاومون الفرنسيّون إِلى إِلحاق الضّرر بسيّارات المُحتلّ وآليّاته، والسّطو على مُستودعات الوقود، وكذلك على ذخائرَ مُجمّعةٍ في أَماكنَ مُحدّدةٍ. وبعد كُلّ عملٍ مُقاومٍ، كان على الشُّبّان أَن يلوذوا بالفرار سريعًا، لأَنّ رجال الاحتلال سيقطعون الطّرق فورًا، ويُنفّذون عمليّات تمشيطٍ في الجوار.

   ويعود المُقاومون، بعد كُلّ عمليّةٍ عسكريّةٍ يُنفّذونها، إِلى مخبئهم، حيثُ يُراجعون حساباتهم، ويُقيّمون الخُطوة المُحقّقة، ويبحثون في تفاصيل الخُطّة المُقبلة. وتنتابُهم مشاعر الفخر والاعتزاز، حين يُشاهدون جُثث المُحتلّين، وشاحنات ذخيرتهم وهي تحترق، والعربات العسكريّة تنقلب بمَن فيها مِن جُنودٍ أَلمانٍ… بيد أَنّ الفرحة العارمة تكون في الاستيلاء على أَسلحة جُنود الاحتلال، الهاربين مِن غضب المُقاومة.

   وفي بعض الأَحيان لم تكُن الأُمور تُجرى وفق حسابات المُقاومين، فلا يتمكّنون مِن الهُروب، فيتقبّلون إِذّاك في شجاعةٍ إِكليل الشّهادة، ويصرُخون قبل استشهادهم: “لِتحيا فرنسا”. ولن ينسى الفرنسيُّون أَبدًا “شهداء المُقاومة”، بدليل النُّصب التّذكاريّ الّذي كان يُوضع في أَمكنةٍ مُختلفةٍ سقط فيها الشُّهداء البواسل.

   ولاحقًا انكشفت بالكامل، كُلّ مخابئ المُقاومين، وقد دلّ جُنود فيشي المُحتلّ الأَلمانيّ على أَماكن تواجُد الفرنسيّين الأَحرار. وعلى رُغم أَنّ سلاح المُقاومين، كان مصدره الجنود الأَلمان الفارّين مِن وجه المُقاومة، إِلَّا أَنّه لم يكُن كافيًا، وبالتّالي فهو لا يَفي بالمطلوب.

   وفي صيف 1944 ابتدأَت الصّدامات الكبيرة بين جُنود الاحتلال والمُواطنين الفرنسيّين، بعدما بدأَ الحُلفاء بتزويد الفرنسيّين المُقاومين بالأَسلحة والعتاد العسكريّ، مِن بنادقَ ورشّاشاتٍ ومُسدّساتٍ وقذائفَ ومدافعَ رشّاشةٍ و”هاونٍ”، وطبعًا بعد التأَكُّد مِن حُسن استخدام المُقاومين لهذه الأَسلحة. وأَمّا المال المطلوب فتولّت “الجبهة الوطنيّة”، أو “حُكومة الاستقلال” تأمينه لرجال المُقاومة و”شبكات التّجسُّس والدّعاية”.

   ومِن نتائج حركة المُقاومة الشّعبيّة، ظُهور الإِرباك في صُفوف المُحتلّ الأَلمانيّ، بخاصّةٍ وأَنّ الفرنسيّين قد حقّقوا انتصاراتٍ عسكريّةً تُضاهي ما حقّقه البريطانيُّون والأَميركيُّون، على رُغم مُعاناة الشّعب الفرنسيّ. لقد وقف الفرنسيّون على قدم المُساواة مع جيش الحُلفاء، بدليل تكريس عددٍ لا يُستهان به مِن الجُنود الأَلمان، لإِخماد المُقاومة الفرنسيّة، وكأَنّ ثمّة قوّةً قادرةٌ على إِخضاع الأَحرار!. وللحديث صلة.

رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ

______

* “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.